الشهيدة ... جدة الشهداء

زكية علال

    رسائل تتحدى النار والحصار

الشهيدة ... جدة الشهداء !!

زكية علال

[email protected]

 عند مطلع كل عام أُقرّر أن أدفع الخيبة التي تعلق بي وأهمس لك بكل دفء:

 - عيدك سعيد يا عبد الله ..

 -  كل عام ووجهك الغائب .. الحاضر بخير ..

 لكن يسقط أملي في عصمة خيبة أخرى، فلا أجد غير "آه" تتفجر في أحلامي وتُورق بطاقة بلون شتاتي ..

 عند مطلع هذا العام .. ماتت أمك .. جدة الشهداء ..

  كم كنتُ أحبها !!

  من الدهشة الأولى أدْرَكَتْ أني طاعنة في اليُتْم فغمرتني حبا ..

 من الصباح الأول لزواجنا، انحنيتُ على جبينها لأهديها تحية فجر شاحب ..

 فوجدتها تحضن يُتْمي وتتمتم "صباحك جميل يا بنيتي"

 منذ الدمعة الأولى التي كشفت لها ضعفي لم تعد تناديني إلاَّ "بْنيْتي"

 كم كنتُ يتيمة، لكنها مرت بحنانها على فراغي ..

   كنتُ أرعى ضعفها كأولادي ..

  ألملم عجزها وأنا أنفذ وصية الوداع الأخير "أمي ... أمي يا فاطمة"

 وصيَّتك كانت مبتورة، لكنني كنتُ وفية للشطر المبتور ..

 خيمتها ظلت تجاور خيمتي ..

 وحزنها على رحيل أحفادها يعانق حزني ..

 فجأة .. قررتْ أن تحجَّ هذا العام ..

 قالت لي: عندما أقف في جبل عرفة سأدعو لولدي عبد الله لكي يتطهّر من خبث المؤتمرات.. وسأدعو لأحفادي الشهداء أن يعودوا إلى حضني !!

 أوشكت أن أرد عليها: الشهداء لا يعودون يا أم الغائب !!

  لكنني تركتها على اعتقادها.. ولم أكن أدري أنها إشارة للرحيل إليهم ..

 أمك فقيرة ..

  فقررتُ أن أبيع خيمتي لأوفر لها تكاليف الحج ..

 قلت في نفسي: "ماذا تستر خيمة من امرأة عارية المشاعر ؟!!"

 لكنها بادرت ببيع خيمتها وهي تهمس لدموعي الحارقة: "لن أكون بحاجة إليها بعد اليوم.. يكفيني هذا الرداء الأبيض"

 لم أفهم ما ترمي إليه، فتدثرتُ بصمتي .

 كنتُ وحدي أودِّعها عند معبر رفح ..

  حزنها موجع وهي لم تجد ولدا يبتسم لضعفها .. ولا أحفادا يتعلقون بثوبها الأبيض ويتوسلون إليها أن تعود محملة بهدايا من مدينة خاتم الأنبياء ..

أحسستُ بجواري فارغا عند ذهابها ..

 لكنني رحتُ أتسلى بأوجاعي وأنتظر عودتها محملة برائحة الدعاء ..

 أمُّكَ لم تعد ..

 المفاوضات ظلت تعبر على جسدها الضعيف ..

 من أين تعود إلى ديارها ؟!!

  كل المعابر التي تخدش كبرياءها فُتحت لها.. وأُغلق أمامها معبر رفح ..

ولم يتحمل ضعفها مفاوضات تزحف على بطنها... فماتت ..

 الفضائيات العربية نقلت خبر موتها ..

 أمك ـ الآن ـ جثة هادئة داخل سفينة باردة ..

  وأنت هناك ..لا زلتَ على شريعة التفاوض ..

 جدة الشهداء لحقت بأحفادها ..

 وأنا هنا أحس أن ما بيني وبينك تقطّع ...