القدس .. ولا نملّ

د. مأمون فريز جرار

د. مأمون فريز جرار

[email protected]

نغيب عن القدس ولكن أخبارها لا تغيب عنا،

ننساها وننشغل عنها بأمور حياتنا، ما كان منها عظيما وما كان تافها،

ولكنها تقبل علينا إقبال الشعاع الذي يبدد الظلام،

نزعم حبها ويأتي إلينا منها الامتحان تلو الامتحان ليبلو صدق ذلك الحب.

القدس، مهوى الأفئدة،

وبوابة التاريخ،

وذاكرة الدنيا،

وميدان الصراع بين الأمم والملل،

تطلّع إليها عبر الزمان كل فاتح،

ولم يرض بغيرها بدلا عنها ليزين بها مملكته،

ويزهو بها على من سواه من أرباب السلطان.

القدس التي تحمل في طبقاتها ذاكرة الإنسان والزمان،

فهي دفتر مطوي في صفحاته المستورة صفحات نور وملفات ظلام مما خلفه فيها الفاتحون الطارئون،

وفي القدس اليوم تجري أكبر عملية لتزوير التاريخ ومسح الذاكرة وتركيب ذاكرة مصطنعة لقوم طارئين إن يكن لهم في ذاكرتها وجود فهي كثانية في مقياس الدهر، ولمعة برق في ظلمات سحاب ليلي.

القدس التي عبق مسجدها بمسك النبوة كله منذ كان نبي حتى اجتمع الأنبياء صفوفا خلف خاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة الإسراء،

فاستدار الزمان بذلك الحدث كهيئته يوم كان الوجود،

لتبدأ صفحة نور جديدة هي صفحة الختام في تاريخ الإنسان بعد الرحلة الطويلة منذ (اهبطوا).

القدس مسرح الصراع بين الحق الذي يحمل مشعله المقتبس من ليلة الإسراء القابضون على الباقي من نوره وعبقه، ومن تنكبوا الطريق وضلوا سواء السبيل،

فكانوا على ما ميزهم الله تعالى به مما يقتضي الشكر أكثر الأمم عنادا للحق وتنكبا للصراط، وتكذيبا لرسل الله وإيذاء لهم،

فكم كذبوا من نبي جاءهم بالحق المبين،

وكم قتلوا من نبي دعاهم إلى الهدى والخير،

لكنهم آثروا الدنيا فعبدوا الذهب الذي جسده لهم السامري عجلا له خوار وأشربوا في قلوبهم العجل ولازمهم عبر التاريخ،

فهم حسيون لا يرقى فكرهم فوق المادة

ولا يخترق حجاب الشهادة إلى ما وراءه من غيب،

قالوا لموسى: (أرنا الله جهرة)!!

وقالوا: (اذهب أنت وربك فقاتلا)

وقالوا: (إن الله فقير ونحن أغنياء)

وقالوا: ( يد الله مغلولة)..

إنهم هم الذين جاؤوا في دبر الزمان ينازعوننا على بيت المقدس بعد أن ورثه نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأنبياء ليلة الإسراء،

جاؤوا والعجل الذهبي في قلوبهم

وقد جمعوا مال العالم في بنوكهم ليصنعوا من جديد معبدا لذلك العجل،

وهم يزعمون انتظار المسيح

وما المسيح ينتظرون،

إن ينتظرون إلا دجالا يعيد لهم من جديد عهد السامري،

ويطمعون أن تكون القدس مقر عرشه ومنطلق مملكته.

القدس التي يقبض على خناقها عبدة العجل والمبشرون بالدجال، يعلمون ما يفعلون

ونحن في غفلة ..في غيبوبة.. في شغل لاهون

نسمع من حين لآخر صوت القدس يأتي من أعماق بئر عجزنا وفرقتنا وضياع هيبتنا،

نسمع الصوت ولكن كمن هو غارق في كابوس يسمع استغاثة ويحس على كل جسده أغلالا تمنعه من الحركة.

لئن وقعت القدس في الأسر وسامها عبدة العجل الهوان وسوء العذاب

فما هي فيه ليل يغشى حياتنا

ولكن لها فجر سيطلع من قلوب مؤمنة

تستمسك بالوعد

وتقرأ سورة الإسراء بيقين

يسوؤون وجوه عبدة العجل

ويتبرون ما علوا تتبيرا،

ويعيدون إلى القدس ذاكرتها

ويمسحون عن شمسها كل غبش ران عليها عبر القرون..

وحتى يتحقق ذلك الوعد سنتحدث عن القدس

ولا نمل من الحديث عنها.