الأدب والغزو الفكري

نازك الملائكة

الأدب والغزو الفكري

نازك الملائكة

"يعالج هذا الموضوع جانباً من أهم الجوانب في حياة أمتنا وكيانها الفكري، فيصور الداء ويرسم الطريق لعلاجه، ويوضح مكان الخطر، ويقدم الحلول لدرئه وتفاديه.

وهو محاضرة ألقيت في الدورة الخامسة لمؤتمر الأدباء العرب في بغداد وإيماناً منا بدور أمتنا القيادي في مجال الفكر العالمي ننشره لتعم الفائدة ويستبين الطريق".

التحرير

لعل الفرق بين الغزو العسكري والغزو الفكري هو الفرق بين المحسوس والمعنوي، فهما كلاهما غزو، وإنما الفرق بينهما في الوسائل والنتائج وما يستثيران في الأمة من طرق المقاومة، فالغزو العسكري يتصدى للقوة محافظاً على شيء من الصراحة والعدالة، أما الغزو الفكري فإنه لا يقتل بالنار والحديد وإنما يهدم بالكلمة والحرف والمعنى وسوى ذلك من سلاح غير محسوس، فهو ينطوي على الظلم والخبث معاً.

وإنما وجه الخطر في الغزو الفكري أنه يستهدف روح الأمة وجذورها، فلا يلقيها إلا وهي أشبه بثمرة امتص رحيقها، فلم يبق منها غير القشر والنوى، وما ذلك إلا لأنه يمسخ شخصية الأمة: أي نبع الأصالة والإبداع فيها، فيشلها عن النمو والحياة، بينما لا ينجح الغزو العسكري في أكثر من تخريب مظاهر السكن والعمران، وهي أمور يمكن تعويضها لأنها لا تمس جوهر الحضارة ولا روح الأمة.

ثم إن مقاومة الغزو العسكري أسهل من مقاومة الغزو الفكري لسببين اثنين:

الأول: إن الهجوم العسكري الصريح، يستثير أغلبية أفراد الأمة، فيهبون للجهاد ودفع العدو، بينما لا يستثير الغزو الفكري إلا القلة المدركة من عقلاء الأمة ذوي الرأي فيها، وسر ذلك أن الأغلبية قلما تستطيع إدراك المعنويات، ولا هي تتحسس الخطر على حياتها من عدو يهاجم الأفكار والآراء.

والسبب الثاني: أن وسائل الأمة في مقاومة الغزو العسكري ميسورة، هي السلاح والفداء والجهاد، بينما لا يجدي مثل ذلك في مقاومة الغزو الفكري، لأن العدو هنا غير مرئي ولا تقتله النار، فلابد للأمة أن تلجأ إلى أسلحة أصعب كالارتفاع إلى آفاق الأخلاق والثقة بالنفس وكرامة الذهن العام.

وبسبب هذه الاعتبارات كلها يسهل أن تغزى الأمم المتوحشة غزواً فكرياً، أما الأمم العريقة المتحضرة، فإنها سرعان ما تنهض وتقاوم وتنتصر لأن روحها لا تموت.

ولقد عرفت الأمة العربية الغزو العسكري مراراً عديدة دون أن تعرف الغزو الفكري، ووجه ذلك أننا كنا في الماضي مصدر المعرفة والضياء في العالم، وقد أعطينا حضارتنا إلى الأمم المجاورة حتى ونحن مغزوون يحكمنا الأجانب، ومن أبسط الأدلة على هذا أن الفرس الذين حكموا الأرض العربية فترة، لم يحكمونا إلا عسكرياً لأننا كنا خلال ذلك نحكمهم فكرياً، فلم يغادروا أرضنا إلا وقد اتخذوا ديننا ولغتنا، ولذلك تعج لغتهم اليوم بآلاف الكلمات العربية، فإذا تكلم الفارسي بفصحى الفارسية تحول كلامه إلى العربية مع تغيير بسيط في قواعدها.

وأما في عصرنا هذا، بعد قرون الغزو الطويلة التي أنهكتنا وشلت حياتنا، فإننا فقدنا القيادة العلمية والصناعية، وبات علينا أن نتعلم الدروس التي فاتتنا، ولقد كان يمكن لنا أن نختار ما نأخذ عن الغرب، فلا نسمح له أن يمس روحيتنا وجوهر حضارتنا، غير أن الذي وقع غير ذلك، فقد غزانا الغرب على جبهات حياتنا كلها، فلم يترك جانباً إلا حاول اقتحامه وهدمه، وقد كنا حتى الآن سلبيين في موقفنا من الغزاة، فتركناهم يغيرون نظام بيوتنا وطراز مدننا، وسمحنا لهم أن يلقنونا آداب مجتمعهم في السلوك والمعاملة وأسلوب الحديث وبتنا نلبس ما يلبسون ونأكل ما يأكلون، وما من شك في أن بعض ما أخذناه عنهم نافع وإنما ننكر موقفنا العام من هذه المدنية الوافدة، فقد بتنا نترك ما هو جوهري في حضارتنا وما نتفوق به على الغرب، لنأخذ مكانه بضاعة رخيصة تضر بنا.

ولقد عرض للفكر العربي انهيار مماثل بإزاء الحضارة الوافدة، بلغ في هذه السنين الأخيرة أقصاه، حتى أصبحنا نقلب المجلات العربية فنجد فيها مقالاً عن (أرثر ميلر) يجاوره مقال عن (بيير كورني) يليه مقال عن (برونو) ثم مقال عن (فولتير) فنعجب من أن تفكيرنا بات منحصراً في آداب الغرب فلا نتحدث إلا عنهم، وكأن ليس لنا أدب على الإطلاق. يضاف إلى ذلك أن هؤلاء الكتاب لا يتخذون موقفاً عربياً مما يكتبون عنه من أدب الغرب، وإنما يصدرون في تعليقاتهم عن عين الموقف الذي يصدر عنه الكاتب الغربي.

فلو ترجمنا المجلة إلى لغات أوربا لما وجد الغربي فيها أي جديد يشوقه، وما من انهيار يصيب أمة من الأمم أفظع من هذا، فإن نتاج هؤلاء الأعلام الغربيين يحتوي على اتجاهات ومبادئ تخدم الفكر الغربي في صميمه، فلو ارتفعنا إلى مستوى شخصيتنا الحضارية لكانت لنا تحفظات واعتراضات على ما يقولون، لا لأننا ننكر ما في إنتاجهم من جوانب الجمال، وإنما لمجرد أننا أبناء أمة لها أدبها وحضارتها ودينها، فاختلاف وجهات النظر أمر بديهي متوقع، وأما الإعجاب بكل ما يقولون ويعتقدون، فلا يدل على أكثر من أننا قد فقدنا إيجابيتنا وبتنا لا نفكر.

ولقد شاع بين الناشئة العرب اليوم إحساس ضعيف تمكن في نفوسهم مؤداه أن علينا إذا أردنا أن نبني الأدب العربي أن ننبذ تراثنا وماضينا جملة (وأن نقبل) التراث الغربي دونما مناقشة أو تدبر، وعلى أساس هذا الإحساس غرق الناشئة في الأخذ والاقتباس والتقليد، حتى بلغ الأمر مبلغ الخطورة، ولقد تأملت مظاهر الغزو في أدبنا الحديث طويلاً فوجدتها تكمن في أربع جهات سأجملها فيما يلي:

1- موقفنا من الأخلاق:

وأول مظهر من مظاهر الغزو في أدبنا اليوم أننا فقدنا اللمسة الأخلاقية فيما نكتب، فمن سمات الفكر العربي الحق أنه فكر أخلاقي، يدعو إلى ارتفاع العقل الإنساني إلى مراتب الخير والكمال، وحسبنا من ذلك أن كلمة (أدب) عند العرب كانت ترتبط بأدب النفس كل الارتباط، فالأديب هو الذي يروي من الشعر والنثر ما يرتفع بالروح ويسمو بالخلق، وقد بقي الشعر العربي، قبل اختلاط العرب بالأعاجم، صورة تنطق بالفضيلة والمروءة وكمال النفس، وقد قال أحد الخلفاء الأمويين لمعلم أولاده (علمهم الشعر يمجدوا، وينجدوا) لأن الشعر كان صورة النفس الماجدة ذات المروءة والخير، وقد ثبت هذا المعنى في عصورنا كلها، فبقي الأدب من شعر ونثر يعرض أروع الصور في السلوك والمعاملات كما يحفل بنماذج صافية من الأخلاق الجنسية، وبحسبنا أن نتذكر العشرات من دواوين الحماسة والشعر، ومجموعات الخطب والرسائل وأقاصيص النجدة والمروءة، وكتب الإرشاد الأخلاقي، وقد ترك المتصوفة وحدهم تراثاً أخلاقياً عظيماً كله نبل وإنسانية، وحسبنا على سبيل المثال أن نشير إلى كتاب (الفتوحات المكية) لمحيي الدين بن عربي فقد وردت في الجزء الرابع منه مئات الصفحات في الأخلاق فيها من الخلق الكريم مالا حدود لجماله وكماله، على أننا لا نحتاج أن نذهب بعيداً في التمثيل فإن كتابنا الكريم (القرآن) يعرض من صور الأخلاق ما يكفي للإفصاح عن روحية العرب، ومثله في الحديث النبوي وأخبار الصحابة وأدعية السجاد الإمام زين العابدين، وأمثالهم، ومؤلفات أدبية لا حصر لها في أدب النفس ومعاني الأخلاق، وقد تمثلت هذه القيم عملياً في قصصنا الشعبي عن سيف بن ذي يزن وعنترة العبسي وأبي زيد الهلالي وأمثالهم من قصص المروءة والبطولة.

ولم تفقد كلمة (أدب) مدلولها الأخلاقي إلا في عصرنا، فنحن اليوم نكاد نصدر في ما نكتب عن المفهوم الغربي للكلمة حيث تعني كلمة أدب Liteerature المعلومات والعلم، ولا تتصل بالأخلاق، ويرجع فصل الغربيين بين الأدب والأخلاق إلى عهود قديمة فنحن نجد في مذهب أرسطو الذي أدرجه في كتابه عن الشعر Poeties أن جمال الأدب لا يستند إلى الأخلاق، وإنما هو معنى منعزل لا شأن له بأية قيمة خارجية، ومن السائغ عند أرسطو أن يكون الأدب جميلاً كل الجمال حتى وهو غير أخلاقي، فلا دخل للمبادئ والمثل في الأدب.

وقد سيطر هذا المذهب على الفكر الأوربي فبقي ينحدر من صفحة إلى صفحة عبر تاريخ الأدب والنقد، وممن أسنده وأضاف إليه الناقد الألماني (ليسنغ) في كتابه المعروف Lnocoon ولسنا ننكر أن طائفة صغيرة من مفكري الغرب قد رفضوا هذا المذهب ودعوا إلى ما يقرب من المفهوم العربي، ومن هؤلاء الشاعر الروماني هوراس، والناقد الإنكليزي (فيليب سيدني) والشاعر الألماني (فريدريك شيلر) إلا أن هذه الأصوات تاهت في خضم الفكر المادي فلم تؤثر تأثيراً محسوساً، وبقيت الصورة الثابتة لآداب الغرب منفصلة عن الأخلاق حتى قال الفيلسوف المعاصر (بنديتو كروتشه) نصاً: (لا شأن للأخلاق في الأدب) وهذا الحكم يعبر أفصح تعبير عن تيار التبذل والتحلل في أدب أوربا اليوم، وتمتد جذور هذا التيار إلى القرن التاسع عشر، وقد بالغ في الدعوة إليه أنصار المذهب الطبيعي، الذين جعلوا واجب الأديب أن يصف كل ما يقع للإنسان دونما اعتبار لقيم الأخلاق ومصلحة المجتمع، وحسبنا للتمثيل أن نشير إلى قصة (أميل زولا) المعنونة (غرمينا) فقد هبط إلى أدنى مستويات الروح والخلق، فوصف عالماً موبوءاً تلعب به الغرائز الحيوانية على شكل يلغي الحضارة ويرد الإنسانية إلى عهود الوحشية والبربرية، وما من شيء يبدو لنا أشد إيلاماً من هذا، فكان (زولا) يرتفع في القصة نفسها إلى آفاق عالية من الفن والإبداع، فكأنه يضع فنّه وإنسانيته في خدمة التفسخ، ويساهم في قتل الحضارة.

ولقد اقتبس أدباؤنا العرب هذه النظرة إلى الأدب في اتجاهيها.. السلوكي والجنسي حتى أصبح أدبنا يضم أشنع النماذج في الإنسانية والخلق، فالقصاصون المحدثون يصورون في قصصهم أشخاصاً يعاملون آباءهم في قسوة وخشونة واحتقار، ويرسمون أطفالاً يتطاولون على أساتذتهم، وكم في القصائد والقصص من بذاءة وتبذل في اللغة، وقد أصبح نموذج البطل أن يجعله المؤلف كثير السب واللعن، ضيق الصدر، ضعيف الخلق، لا يترفع عن شيء، وشاعت صورة البطل المثقف الذي يبصق في الطريق ولا يعترف بأية قيمة للأشياء والأشخاص. وكل هذا مناقض لأدب النفس العربية الذي عرفه تراثنا، وإنما هو موقف منقول من الغرب، فذلك ما تجده في القصص الحديثة هناك وفي المذكرات والرسائل، فكان من علامات الثقافة الجديدة هناك أن يكون الإنسان متبذلاً قاسياً مغروراً لا يتورع عن شيء.

أما النظرة الجنسية في أدبنا الحديث فنلمسها في ذلك الركام الهائل مما كان قبل يسمى بالأدب المكشوف، فأصبح اليوم لا يُسمّى حتى بذلك، لأن أدب الجنس أصبح يعتبر مظهراً من مظاهر الواقعية والتحرر الفكري والثقافة الحديثة، فما يكاد الناشئ يكتب حتى يصطنع الغرق في الرذائل والاستهتار بالقيم، ولا نهاية اليوم للكتب والمجلات التي تقذف بها المطابع ويصور فيها الإنسان العربي، وكأنه قد تحول إلى حيوان أعجم لا يرتفع إلى أعلى الجسد والحواس، وقد قرأنا في دواوين الشعر التي صدرت هذه الأعوام عجباً عجاباً من الإسفاف والجموح، حتى أصبحت هذه ظاهرة أكيدة تطبع الإنتاج الجديد، ومن عجب أن الحكومات العربية ما زالت غافلة عن هذه الظاهرة، فلا تراها تتخذ إجراءاً بإزائها، لا في حقل النشر ولا في حقل التعليم والتوجيه، والواقع أن وراء هذه الظاهرة ثلاثة معان كلها خطيرة تنذر بالشر:

أ- المعنى الأول: أن هذا الأدب المتحلل الذي يهدم الأخلاق والمجتمع، يتعارض مع الدعوة القومية التي يعيش لها المجتمع العربي اليوم، فالقومية بناء وحياة، بينما أدب الجنس هدم وانتحار، وتهدف القومية إلى بعث الأمة العربية بقدراتها الأصيلة وماضيها الحضاري الوهاج، بينما يهدف أدب الجنس إلى هدم الأخلاق والعقائد والقيم ومن ثم إلى هدم المجتمع. قال ابن خلدون في مقدمته: (إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل، وسلوك طرقها، فتفقد الفضائل منهم جملة ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم) واستشهد بالآية الكريمة (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) والحق أن من يتأمل هذا الأدب الجديد تأملاً نزيهاً ينتهي إلى الشعور بأننا نعمل للقومية العربية بينما نترك أدبنا يعمل ضدها.

ب- المعنى الثاني: أن هذا الأدب لا يعبر تعبيراً سليماً عن البيئة العربية المعاصرة، وذلك لأن الفرد العربي المتوسط ما زال يعدّ قضية الشرف فوق كل القضايا، والمثل الأعلى في حياتنا الشعبية وفي حياة الأسرة العربية، هو مثل العفة والاحتشام وأدب اللسان، وإذن فإن هؤلاء الأدباء الناشئين قد انبتّوا عن بيئتنا وباتت مراياهم تعكس أشباحاً وظلالاً من خارج الوطن العربي..

ج- والمعنى الثالث: أن هذا الأدب ليس أدباً صحياً سليماً، لأن تضخيم أثر الجنس في الحياة يتم عن انحراف في الطبيعة الإنسانية، والإنسان السليم مزيج متوازن من العقل والروح والعاطفة والغريزة، لا يطغى فيه جانب على جانب، ومن كمال المجتمع أن تكون أغلبية أفراده من المتزنين الذين يعطون كل جانب من طبيعتهم حقه ولا تظنه يخفى أن الاستغراق في حمأة الحواس ينتهي إلى زوال الكرامة وضعف الإرادة واختلاط الذهن، ومن ثم فإن طغيان المعاني الحسية على أدبنا ليس أقل من مظهر يدل على عدم التوازن وينذر بتصدع خطير في حياتنا العامة.

2- موقفنا من الدين:

كان لإقبالنا الشديد على قراءة آداب الغرب ونقلها إلى لغتنا أثر سيء في حياتنا العقلية الحديثة، ما لبث أن أصابها بالانحراف، فقد أخذنا عنهم –فيما أخذنا- موقفهم من الدين، والتقطنا نظرتهم المادية إلى الحياة، وموقفهم من الدين يختلف اختلافاً جسيماً عن موقفنا نحن فإن الدين الإسلامي يرتبط كل الارتباط بالفكر، وقد قامت حول القرآن أركان اللغة والأدب والفقه والمنطق والتصوف والفلسفة جميعاً بحيث تعد هذه العلوم كلها تفريعات لعلم القرآن ترتكز إليه وتدور حوله، لا بل إن طلب العلم ونشره قد بقي هو نفسه واجباً دينياً مفروضاً يؤديه الطالب والعالم قربى إلى الله، ومن ذلك أن النحوي العلامة ابن مالك كان يخرج ويقف على باب مدرسته ويقول (هل من راغب في علم الحديث أو التفسير؟ قد أخلصتها من ذمتي) فإن لم يجد راغباً أو طالباً قال (خرجت من آفة الكتمان) وتفسير ذلك أن العربي كان يعتقد أن لله حقاً (فيما استودع العلماء من فهم وعلم وأنه آخذ عليهم البيان) "صورة معدلة من عبارة لعبد العزيز بن يحيى الكناني (الحيدة) تحقيق جميل صليبا" فلا يصح لهم السكوت عن نشر العلم وإظهار الحق وتعرية الباطل.

أما في أوربا فإن الدين يتصف بشيء من الانعزال عن الحياة فلا يرتبط بالأدب والفكر إلا من بعيد، فالغربي يعد الدين لله، والأدب للحياة، وكأن الحياة نفسها ليست لله، كما يعتقد العربي، ولذلك الموقف سببان اثنان:

الأول: أن المسيحية بتقريرها لقيام الخطيئة الأولى وبدعوتها إلى التكفير بالرهبنة والامتناع عن الزواج، قد احتفظت بنظرية مثالية لها جمالها غير أنها عسيرة التطبيق، ولذلك بعد الدين عن الحياة بعداً طبيعياً وهو أمر لم يعرفه المجتمع المسلم، حيث الدين يجعل الزواج سنة مفروضة.

الثاني: أن المسيحية التي نزلت في بلاد العرب قد فشلت في تحويل الغربي تحويلاً كاملاً عن وثنية آبائه، فبقي ثنائي المعتقد، يصلي لله ويؤمن رغماً عنه بآلهة الإغريق، حتى أنه يقسم في حياته اليومية بجوبتير كبير آلهة الإغريق، وهو يذهب يوم الأحد إلى الكنيسة للصلاة، ولا يلبث أن يرجع إلى منزله ليقرأ الفلسفات اليونانية ويكتب أدباً طابعه وثني تتردد فيه أسماء الآلهة الشريرة التي كان يعبدها اليونان والرومان، وإنما توصف هذه الآلهة بأنها شريرة كما قرر سقراط نفسه لأنها لا تتورع عن ارتكاب الشر والجريمة والصغائر، فهي كالبشر وإنما تتفوق في القدرة على الإيذاء والظلم، وبسبب هذه الوثنية الغربية بقي المسيحيون العرب أوثق صلة بالمسيحية الحقة من مسيحيي الغرب.

ولقد دعا الغزاة وأعوانهم عبر السنين الماضية إلى أن تحتضن الثقافة الغربية بكل ما فيها دونما تدبر أو مناقشة، فكان مما أخذناه عنهم هذا الفصل العجيب بين الدين والحياة، وقد كان لذلك تأثير سيء في حياتنا وفكرنا، لأن الدين الإسلامي يكاد يكون هو الحياة نفسها، فلا تستطيع انتزاع أحدهما إلا بانتزاع الآخر، فقد كان الإسلام ديناً إلهياً، وثورة سياسية وفكرية واجتماعية معاً، ولذلك اهتزت له الأرض العربية اهتزازاً خصباً، وأحدث انقلاباً عميقاً في مناحي الحياة معاً.

ولم يترك الإسلام في حياة العربي شاردة ولا واردة إلا ضبطها وأحصاها، وقد كان القرآن كتاباً شاملاً فيه الأدب والشريعة والأخلاق جميعاً، فبني عليه تراثنا كله، فإذا فصلنا الدين عن الحياة لم يكن معنى ذلك إلا أن نفصل العروبة عن تراثها وحضارتها، ونحب أن نضيف إلى هذا، أن القرآن –باعتباره كتاب الدين الإسلامي والثقافة معاً- سيبقى أبداً كتاب كل عربي مهما كان دينه، فالمسيحي العربي الحضارة، لا يستطيع أن ينزع من نفسه وذهنه آثار القرآن، لأن التراث الإسلامي قد كان وما زال الثقافة الكبرى للعربي، وها نحن نرى إخواننا المسيحيين يحققون غير قليل من كتب التراث الإسلامي في إخلاص يثبت ما نقول أجمل إثبات.

ولقد اتخذ الأدب الجديد الذي ينشره اليافعون العرب موقف الغربيين من الدين، فظهرت عندنا الوثنية مصحوبة بالإلحاد في أدنى مستوياته، وهو مستوى الكفر بدافع التقليد والنقل، فلاشك في أن هذا الإلحاد أوطأ مرتبة من إلحاد مصدره شك يعتري النفس فيضللها ويحيرها، وقد واكب هذا ابتعاد الجيل اليافع عن القرآن وما فيه من أجواء روحية وكنوز أخلاقية وثروة لغوية وأدبية، وكل ذلك لا يبشر بالخير فإذا مضينا فيه قطعنا جذورنا الحضارية وأضعنا الروح العربي جملة.

3- موقفنا من اللغة العربية:

كانت وسيلة الغزاة العظمى في إضعاف لغتنا في الترجمة، والترجمة في ذاتها إغناء للغات ومد لآفاقها، فهي حق لنا وضرورة نتمسك بها، غير أن الأشياء النافعة في الحياة الإنسانية يمكن أن تتحول بسوء النية إلى شر وضرر، ولذلك حرصت بعض المؤسسات المشبوهة والجماعات المغرضة على أن تعهد بترجمة أمهات الكتب العربية إلى كتاب ضعاف غير متمكنين من العربية، فصاغوا تلك الكتب العظيمة صياغة حرفية ركيكة، كان لها أثران سيئان في حياتنا الفكرية:

الأول: أن كثرة قراءة هذه الترجمات قد نجحت في تحويل الركاكة إلى مذهب في التعبير، فأدى ذلك إلى إضعاف المستوى العام للغة.

والثاني: أن هذه الترجمة الركيكة حرمتنا فرصة تكتسب فيها لغتنا تعبيرات عربية جديدة لها الفصاحة والجدة معاً، لأن الكتاب المترجم إذا صيغ بعربية سليمة لها خصائص لغتنا أفاد اللغة وأغناها، أما إذا ترجم حرفياً فإنه يخسرنا كما نخسره.

والمثل الذي نختاره للترجمة الركيكة وما تصنع هو ترجمة الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، فقد ترجم هذا الكتاب (الجليل) الذي يقدسه المسلم والمسيحي معاً!! ترجمة ركيكة لا يقبلها الذوق السليم فأثرت في إضعاف الذوق الأدبي العام وأشاعت فينا العجمة، وإخواننا المسيحيون العرب ذوو حظ كبير من البلاغة العربية وقد نبغ منهم كتاب كبار وباحثون وشعراء أغنوا مكتبتنا فلا يصح لهم السكوت على مثل هذه الترجمة التي تشوه كتابهم ولغتهم معاً وتحرمنا قراءة سيرة السيد المسيح والتمتع بما لها من روحية وجمال.

وقد انحطت لغة الترجمات واقتربت من الحرفية عاماً بعد عام، حتى درجت اليوم منها لغة ركيكة قواعدها وأساليبها غير عربية، وسوف ندرج فيما يلي مظاهر العجمة العامة في هذه اللغة.

1- كثرة الاصطلاحات الأجنبية التي يصر المترجمون على إبقاء صيغتها الغربية مثل قولهم (فلكلور وأيديولوجية وأكاديمية وكلاسيك، ومتافيزيكية وبيروقراطية وتكتيك، وليبرالية، وامبريالية) وأمثال ذلك كثير.

2- استعمال قواعد النحو اللاتيني مع أنها في مقاييسنا النحوية تعد غلطاً، مثل تعدد المضافات إلى مضاف إليه واحد وهو ما يسمى عندنا بلغة (قطع الله يد ورجل من قالها) ومثل الفصل بين المضاف والمضاف إليه بكلمات أجنبية، وهو ركيك مستحيل في لغتنا، لأن المتضايفين ينزلان منزلة الاسم الواحد، ومن هذه الأساليب السقيمة تقديم الحال على عامله كقولهم (محملاً يعود سيدي) ومنها تتابع الإضافات كقولهم (تقرير رئيس لجنة مكافحة أمراض المنطقة الحارة) وكل هذه الأساليب الغربية تصدم السمع العربي صدماً أكيداً.

3- استعمال أساليب بناء العبارة اللاتينية، وهي تخالف أساليبنا مخالفة مرجعها إلى الفروق بين طبيعة اللغات، ومن ذلك تأخير الفعل في الجملة فلا يرد إلا بعد أن يتقدم عليه سطران كاملان من الظروف والمجرورات والمعطوفات كقولهم (بعناية شديدة واهتمام، ومن دون أن يتحدثوا في ذلك الموضوع مباشرة، أو يثيروه على نطاق عام، وبعد أن فرغوا من دراسة التقرير، اشتغلوا في توزيع الملابس على سكان الحي) وهذا مخالف لما تعرف لغتنا، حيث يتقدم الفعل على معمولاته، لأنه أشرف ما في العبارة، ولا يتقدم المعمول إلا في حدود الفصاحة في مجالات بلاغية محدودة.

4- استعمال وسائل البلاغة اللاتينية بدلاً من العربية كقولهم (انسحب بانتظام، والسوق السوداء، والحرب الباردة، ومؤتمر القمة) حتى نكاد ننسى أن لنا تلك الكنوز من وسائل البلاغة ولسنا بهذا نحاول أن نغلق لغتنا بإزاء استعارة جميلة قد تنفعنا ترجمتها، وإنما نريد التنبيه إلى موقفنا العام من ذلك فنحن اليوم نكاد نقف عن التفكير باللغة العربية فنترجم كل صيغهم دونما تدبر.

5- تقليد العبارة الغربية الحديثة في تعقيدها وغموضها كما في كتب (هنري جيمس) و (ولتر بيتر) وذلك بالإكثار من الجمل الاعتراضية، والفصل بين المبتدأ والخبر بكلمات كثيرة تربك القارئ، ومنه أيضاً استعمال العبارات الطويلة طولاً فادحاً، وكل ذلك مما لا تسيغه بلاغتنا.

ولابد لنا بعد هذا الاستعراض أن نذكر بأن إنكارنا للأساليب اللاتينية لا يعني أننا ننتقصها في لغاتها الأصلية، وإنما نعد تلك الأساليب بليغة في اللاتينية ركيكة في العربية، لأن لكل لغة قواعدها وقيمها البلاغية، وما قواعد اللغات إلا مزيج من نفسية الأمم وتاريخها وحضارتها، وفكر الأمة يرتبط بقواعد لغتها وأساليب بلاغتها كل الارتباط بحيث لا نملك أن نترجم لغات الغرب ترجمة حرفية إلا إذا قضينا أولاً على الفكر العربي، ومن الحق أن نشير كذلك إلى أن الترجمات الضعيفة في أسواقنا لا تصدر كلها عن سوء النية وإنما ضعف بعضها نتيجة الجهل باللغة والتراث.

وقد ابتليت العربية في هذا القرن بكثير من الدعوات المشبوهة التي نادى بها مغرضون يضمرون السوء للعروبة ولغتها، فرددها من العرب طائفتان: طائفة الشعوبيين الذين يقصدون إضعاف العربية، وطائفة البسطاء الذين تخدعهم ألفاظ الحرية والتجديد، فيسيئون دونما قصد، فمن هذه الدعوات، الدعوة إلى نبذ الحرف العربي واتخاذ اللاتيني في مكانه، والدعوة إلى استعمال اللهجات العامية في الإذاعة وفي أدب القصة والمسرح.. وقد تصدى لهذه الدعوات كثير من كتابنا الأفاضل فناقشوها وردوها إلى أصلها المشبوه المريب، وما من جهة تستفيد من إثارة هذه القضايا مثل الغزاة، فهم يعلمون أنه إذا وقع الفصل بيننا وبين تراثنا انتهى الأمر بنا إلى أخطر تصدع عرفته الأمة.

4- موقفنا من المعنوية الغربية:

يحرض الغزاة وأعوانهم من الشعوبيين على قتل المعنوية العربية، وإحلال المعنوية الغربية محلها، ويكادون اليوم ينجحون في ذلك، فقد طلع في السنوات الأخيرة أدب عربي جديد تنعكس فيه سمات النفسية الأوربية ومظاهر الأدب الغربي، وقد استعمل الغزاة في عملهم هذا بوسائل معنوية مكنتهم من اجتذاب الجيل العربي الناشئ الذي يملك بقلة علمه وتجاربه استعداداً فطرياً للتأثر، والوسيلة الكبرى للتأثير في اليافعين هي استعمال القيم الرفيعة التي يحرصون عليها مثل الإنسانية والحرية، فباسم هذه القيم يتم تضليلهم فيوجهون توجيهاً يحطم المعنوية العربية.

أما الإنسانية فإن الشر الذي يتستر وراءها اليوم هو قولهم (الأدب العالمي) وبه يوحون لليافعين أن هناك أدباً عالمياً يتخطى الحدود، ويعبر عن نفسية الشعوب أجمعين، بمعزل عن ظروفها وشخصيتها، وإن هذا الأدب لا يناقش وإنما يقبل في كل مكان، فمن لم يقبله كان جامداً أو رجعياً أو جاهلاً، وهم يضعون على عرش العالمية مجموعة من الأسماء الغربية في الغالب ويسألون الشباب أن يعجبوا بكل حرف يقوله أصحابها دونما فحص ولا مناقشة، وأبرز هذه الأسماء تأثيراً في حياتنا جان بول سارتر الأديب والفيلسوف الفرنسي اليهودي، وسارتر من الناحية الأدبية ذو فكر مبدع يسمو إلى الذرى العالية، وأنا أول من يقر له بالقيمة والقدرة، وإنما وقع الانحراف المغرض في فرض آرائه على القارئ الطالع، ووجه ذلك أن الأديب الغربي قد يكون عظيم الشهرة ذا تأثير في أوربا كلها دون أن يعني ذلك أن آراءه تنفعنا أو تتفق مع مطاليب حياتنا الاجتماعية والفكرية.

والواقع أن آراء سارتر في أغلبها تناقض روحيتنا وحضارتنا فلا مصلحة لنا في اعتناقها إلا إذا أردنا أن نهدم أنفسنا، ذلك أن جان بول سارتر ناشر فلسفة الغثيان، ومضمونها أن المجتمع بغيض وأن وجود الناس حولنا هو الجحيم، وأن الأخلاق والمثل والتقاليد سخافات يتلهى بها السطحيون!! وأن الحياة خواء فارغ فلا يستحق الاهتمام فيه إلا الجسد والجنس، وأن الإنسان غير مسؤول لا أمام الله ولا أمام الضمير ولا أمام المجتمع، ولقد انتهى الجيل اليافع إلى تصديق خرافة العالمية، فلم يقف عند الإعجاب بالأشكال الأدبية واللفتات الفكرية والأساليب التعبيرية، وإنما قلد النظرة واعتنق الآراء.

وأما القيمة الثانية التي يستغلونها في تضليل اليافعين العرب، فهي الحرية، وقد زعموا أنها معنى مطلق لا يتقيد بشيء فكل حرية أفضل من كل تقيّد، وما من إلحاد اجتماعي وأخلاقي أفظع من هذا. فإن المطلق معنى لا وجود له في الحياة الإنسانية، لأن منفعة الجماعات تتحكم فيه فتقيده وتشذبه، وهذا الزعم يجعل الحرية تتعارض مع الفضيلة، ولا ينبغي للأخلاق أن يتعارض شيء منها مع شيء، وحسبنا دليلاً على ذلك التعارض، أن الحرية المطلقة للفرد تناقض مصلحة المجتمع، ولذلك تقيد بحفظ حقوق الآخرين، ومصلحة الجماعة كلها، وعلى هذا تبطل حجة الذين ينادون بحرية الأديب في نشر أدب الجنس والإلحاد، فإن هذا الأدب يهدم المجتمع ومن حق الجماعة أن ترفضه، فلا يحق للمواطن أن يطعن أمته في صميم كيانها الروحي والخلقي بدعوى حقه في الحرية.

وهكذا اتجه أدبنا الحديث بدوافع من (الإنسانية وحرية الفكر) إلى ترديد آراء الغربيين دونما فحص أو مناقشة فانتشرت روحية التشاؤم في أدبنا وشاع الإحساس بأن الحياة عبث وأن العدم خير من الوجود، وأن المشاعر الطيبة قيد للإنسان، وأن الإنسان غير مسؤول أمام شيء، ولا يمكن للباحث المتأمل إلا أن يلاحظ مدى بعد هذه النظرة عن طبيعة الحياة العربية اليوم، فنحن نمر بفترة خصيبة رائعة، وقد رأينا مدننا الكبيرة تنهض من الفراغ في ظرف ثلاثين سنة فقط، وشهدنا الاستقلال من الحكم الأجنبي وقيام الحكومات الوطنية ونهوض التعليم، ورأينا كيف اختلف جيلنا في معارفه وأسفاره وعلومه عن جيل آبائنا، واليوم نعيش فترة انتصارات القومية العربية وتكاد أعيننا تكتحل بفجر الوحدة، وما من شك في أن الفرد العربي أحسن حالاً وأكثر أملاً مما كان فلا ندري من أين يأتي هؤلاء الأدباء بالعدمية واليأس وإنكار الحياة، أترى حياتنا الأدبية تسير في اتجاه معاكس لحياتنا القومية! ونبحث عن الجواب عند نقادنا فلا نجد لديهم أكثر مما نسمع من الناقد الغربي من أن هذا الجيل –كما يقولون- (ذو تركيبة مزاجية معقدة تعقد الحياة التي يحياها) فكأنهم لا يرون الفرق العظيم بين الفرد العربي والفرد الأوربي، والواقع أن بيننا وبين الغرب ثلاثة فروق جوهرية:

الأول: أننا أبناء أمة تؤمن بالروح والروحيات، وتضعها فوق المادة، بينما ما زال الغرب يؤمن بالمادة والماديات، ومن مظاهر إيمان الفرد البسيط هنا بالروح أنه يتوكل على الله في أموره كلها فلا يعرف اليأس ولا القنوط وهو مؤمن بالحياة كل الإيمان تنحدر إليه هذه النظرة من عهود سحيقة، وقد عرفنا في التراث العربي كله صفة الإيمان والتفاؤل، فحتى شعر الزهاد كان مليئاً بالحياة بما فيه من تطلع إلى  الله، وإيمان بالأخلاق والتضحية ومساعدة الآخرين.

الثاني: أننا نختلف عن الغرب في الظروف التاريخية التي نمر بها، فنحن نمر بفترة حياة وانبعاث تهتز لها أرضنا كلها، إن مشاكلنا القومية وزحفنا نحو فلسطين، ومعركتنا في حرب الفقر والجهل والمرض والبطالة كل ذلك يمنحنا هدفاً يستغرق حياتنا وكياننا، والمعروف عند علماء النفس أن المشغولين لا يجدون وقتاً للقلق، واليأس والإحساس بالفراغ، وفي مقابلنا يجد الغربي نفسه فارغاً له كثير من الوقت وقليل من الأهداف.

إن في حياته فراغاً روحياً عميقاً سببه عدم إيمانه بالله، وخلو حياته من الهدف الكبير الذي يضفي الجمال والرونق على الحياة.

ثالثاً: وآخر الفروق بيننا وبينهم أن الغربي يرى غذاءه يصل إليه عن طريق استعمار الأمم وسرقة قوتها، ومن ثم فهو يحس قلقاً غامضاً لا يعرفه العربي الذي يأكل القليل الحلال ويحمد الله وينهض إلى عمله، وقد أشار الفيلسوف الألماني المعاصر (ألبرت شفايتزر) في كتابه (فلسفة الحضارة) ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي، إلى أثر هذا الظلم في نفسية الفرد الأوربي الذي أصبح لا يقوى على الإحساس بجمال الحياة.

إن هذه الفروق بيننا وبين الغرب تجعل نقلنا لموقف اليأس والعدمية والفراغ أمراً لا معنى له سوى تخلينا عن كرامتنا ومصلحتنا وشخصيتنا، فكأننا نبكي في يوم عيدنا، ويحاول بعض الأدباء أن يبرروا الموقف بقولهم: إن هذا الجيل اليافع هو جيل المأساة الذي شهد ضياع فلسطين، فهو ينكر الحياة ويدعو إلى الموت لذلك السبب، وذلك تعليل أبعد عن الحقيقة من السابق، فإن المأساة التي وقعت عام 1948 قد ألهبت الوطن العربي كله بنار الكفاح والعروبة فقامت الثورات العظيمة في القاهرة والجزائر وبيروت وبغداد واليمن، وعبر هذه السنين لم تكن نفسيتنا متخاذلة فقد انبعثت آمال عظيمة، ونهضت العزة القومية في القلوب، وشهدنا لحظات سعادة عميقة، وانتصارات لا تنسى، فاللون الذي يغلب على حياتنا لون أخضر بهيج، وفي مثل هذا الإطار المشرق يصبح الأدب المتشائم المعلق على الصلبان أبعد ما يكون عن التعبير عن نفسية الأمة، إن أدباءنا وقفوا عن التعبير عن مشاعرهم وراحوا يكررون ما يقول الأديب الغربي، ولذلك نجد القومية العربية تغني بينما مسجلاتهم تذيع النواح وصراخ العدم، والفجر يتنفس على روابينا أجمل ما يكون بينما تشع قصائدهم الظلام والموت.

5- الحلول والمقترحات:

يبدو أن الدواء الناجع في مثل أزمتنا أن تكون لنا فلسفة شاملة تمس كل ما هو جوهري في الحياة العربية، وتقرر المبادئ والمثل الكاملة التي ترفع مجتمعنا إلى ذروة الكمال، ومن دون هذه الفلسفة لا نستطيع أن نجابه عدواً غزا حياتنا على الجبهات كلها، والحق أن افتقارنا إلى  نظرية فلسفية كاملة للحياة العربية بأبعادها كلها يجعلنا مضيعين لا ندري أين نتجه ولا ماذا نأخذ أو ندع، فلقد دخل حياتنا من العلوم والفنون والفلسفات ما قلب تفكيرنا وأحدث في جونا الفكري بلبلة خطيرة وانشقاقاً في وجهات النظر، ولذلك نرى المثقفين في العالم العربي متشعبين في الموضوعات كلها، كل يدين بمذهب، وقد يقال: إن هذا من الحيوية، فنقول: إنه ليس كذلك، فإنما يكون الخلاف من علامات الحيوية حين يكون المخالفون قلة في مقابل إجماع الأغلبية على شيء ما، أما عندما يزول الإجماع ولا يبقى إلا الخلاف فإن ذلك ناقوس خطر يدل على قيام تخلخل ذاهب في الأساس الفكري للأمة.

أما بنود هذه الفلسفة التي نطلبها فينبغي أن ندعو إلى وضعها الحكومات العربية، على أن تجمع لها أهل العلم والفضل والنظر والعربية، فيتفقوا على ما ينفع ويضر، ويحددوا الطريق، فإذا اجتمعوا على شيء أخذت الحكومات على نفسها تطبيق هذه الفلسفة تطبيقاً كاملاً بالوسائل التالية:

1- تعديل مناهج التعليم في المدارس العربية تعديلاً يتناول الجذور والأسس مع الإلحاح على موضوع اللغة العربية، وإضافة موضوع الأخلاق إلى السنوات كلها.

2- إنشاء مؤسسة عربية كبيرة تشرف على الترجمة وتنسق جهود المترجمين العرب في ديارهم كلها، وسيكون من واجب هذه المؤسسة أن تدرس ما يحتاج المواطن العربي إلى ترجمته دونما نظر إلى عالمية الأسماء، فقد يكون الأديب عالمياً وتكون فلسفته مناقضة لأهدافنا فتسيء إلينا بدلاً من أن تخدمنا.

3- إنشاء قانون جديد للطباعة والنشر يجعل الصحافة والإنتاج في خدمة الأمة العربية، لا في مصلحة المؤسسات الأدبية وتجار الأفكار والقيم، وهذا كفيل بأن يطهر الأسواق من كتب الجنس والابتذال والسطحية.

4- تحديد مجال الإذاعات وخاصة المرئية منها، ووضع فلسفة عامة لمناهجها تراعي فيها مصلحة المواطن وستترفع هذه الفلسفة عن إقرار أفلام العصابات والسفاكين وروايات التفسخ الخلقي، لأن مشاهدة الصبيان والبنات لمثل هذه الأشرطة كل مساء حري بأن يهدم كل ما تبنيه المدرسة والتربية المنزلية من مثل أخلاقية.

وأخيراً أرجو أن يعنى المؤتمر بإقامة جمعية موحدة للأدباء العرب لها فروع في كل قطر، تعمل في نشر التراث العربي وكشف جماله للجيل الناشئ، بإقامة معارض الكتب وإلقاء المحاضرات وتنظيم المناظرات وإصدار المجلات وتشجيع التأليف المتزن السليم، ونحو ذلك.

ومن الله التوفيق.