القاضي الإسباني وعقدة لا كيميرا لاماري

الدكتور هيثم مناع

القاضي الإسباني وعقدة لا كيميرا لاماري

الدكتور هيثم مناع *

منذ اليوم الأول لاكتشافي قضية الخلية السورية-الإسبانية، يوم حدثني تيسير علوني على شط الخليج عن قضية اعتقالات غريبة يمكن أن يذهب ضحيتها عدد من الأبرياء بعد أيام من عودته من أفغانستان. ثم في لندن، حدثني طبيب سوري-إسباني عن هذا الملف طالبا أن نخرج من موقفنا المكتفي بالإدانة في مأساة إنسانية اتفق على إعادة كتابة السيناريو الخاص بها، بعد أن تم حفظ الملف عام ألفين، كل من قاضي الإرهاب بالتاثار غارثون ورئيس الوزراء خوسيه أزنار، منذ ذلك اليوم وأنا أتابع قضية مجموعة من المواطنين السوريين فيهم الغني ومنهم الفقير، فيهم ذوي الانتماء السياسي السابق ومنهم من لم يقبل يوما فكرة التنظيم.. أبناء جالية ممزقة بإدمان حالة الطوارئ في بلدها الأصل تبحث عن سبل العيش الكريم تلتقي في الأعراس والوفيات وأحيانا الخدمات المتبادلة تعيش في مناطق قريبة الطباع من بلدها الأصلي لكنها تعيش أيضا في حالة تفاعل وتداخل مع المجتمع الإسباني الذي لا يواجه مشكلة أساسية مع الجاليات العربية الصغيرة ويفضل أن يصب جام نقده وغضبه، بل و عند البعض، عنصريته، تجاه الإخوة المغاربة. تابعت الملف بأكبر قدرٍ من التجرد، كنت أتصل بالخصم قبل الصديق واسمع للناقد قبل المتعاطف. كان لنا تجربة نضالية مع بالتاثار غارثون في مسألة تشرّف كل قاضي، هي متابعة مجرم ضد الإنسانية اسمه بينوشيه، وكنا كلجنة عربية نتابع عدة جرائم في أفغانستان وغوانتانامو، الأعداء كثر وينتظرون "زلة الشاطر". لكن وخلال ثلاث سنوات، في كل يوم كنت اكتشف زيف القصة التي تتحدث عن منظمة إرهابية.. كنت أشعر بأن العلاقة بين هؤلاء يختلط فيها التعاطف الديني مع الموقف الأخلاقي المتضامن مع المظلوم أكثر منه قضية إيديولوجية وهياكل وتدريب على السلاح وتخطيط للتخريب والتفجير. في كل مرة كنت أسأل نفسي السؤال: هل يمكن أن أكون بسبب علاقتي التي يمكن القول أنها طيبة مع الإخوان المسلمين وصداقتي لتيسير وبكاء زوجة هذا المعتقل أو ذاك تحت تأثير العاطفة؟

في كل مرة كنا نترجم فيها ورقة من الإدعاء العام كنا نكتشف خللا كبيرا في ملف الادعاء، في كل مرة كنا نتعرف أكثر على عناصر الاتهام ونكتشف أن الملف لا يتمتع بالحد الأدنى من الجدية المطلوبة في الملفات الجنائية. صار همنا اكتشاف القضاء الإسباني. النقاش مع المحامين لنفهم الطبخة أكثر. كانت المفاجأة أن نكتشف أن نقطة الضعف الأساسية في الديمقراطية الإسبانية هي استقلال القضاء، ونقطة الضعف الأساسية في الجهاز القضائي هي القوانين الاستثنائية. صارت مهمتنا معرفة هامش التحرك مع هذه المعطيات. لدينا سبيل وحيد، عندما يكون القضاء ضعيفا تقوى تعبيرات السلطة الأخرى من التنفيذية والأمنية إلى السلطة الرابعة. لذا أصبح علينا التعرف على أسباب وقوف الإعلام الإسباني ضد هذه "الشلة السورية" التي لم تدخل الفضاء الإسباني إلا من خلال شهرة تيسير علوني العالمية ونجاح بعض رجال الأعمال السوريين؟ فإذا بنا نكتشف ولاءات وصداقات فاعلة في الصحافة مع البوليس القضائي، خدمات متبادلة بين الأمن ووسائل الإعلام، استعمال حزبي للإرهاب وتوظيف للاعتقالات والمحاكمات.. باختصار، كل شيء مباح في هذا البلد إلا قرينة البراءة.

ما الذي يحدث، كيف يتحول المدعي العام لمحلل نفسي ليقرر أن علوني كان جالسا في حضرة بن لادن كالمرؤوس أمام رئيسه في المقابلة التي أجراها معه، وأن يصارحنا رئيس المحكمة الوطنية خبير غوميز بير موديز بأن ذكاء تيسير علوني من أسباب زيادة الحكم عليه؟

أذكّر بأننا في أوربة يوم 26/9/2005 في مدينة مدريد.

خلال ساعتين مدة لقاءين مع رئيس المحكمة الوطنية، أحدهما قبل الحكم بأسبوع والثاني بعده بدقائق، كان هدفه إقناعنا بأن المتهمين لم يفهموا الفرق بين الثقافات والتجارب وأن ما هو مسموح به في بلد ممنوع في بلد آخر. حاولت تذكيره بأن المتهمين والحاضرين أمامه من الذين أمضوا تقريبا نصف عمرهم في هذا الشاطئ من المتوسط والنصف الآخر في الشاطئ المقابل. وأن هناك 12 مراقبا من الثقافات القانونية الأكثر تماسا مع "الحرب على الإرهاب": الأنجلو سكسونية واللاتينية والعربية الإسلامية. وأننا أمامه بوصفنا مناضلين أمميين ندافع عن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وليس مجموعة عربان تتضامن مع أبناء عمومتها. أخبرته بأنني أدعي معرفة الحركات الإسلامية السياسية كدكتور في أنثروبولوجيا الإسلام ومتابع، وأن هؤلاء "الشباب" لا يحملون أي من مواصفات تنظيم القاعدة الذي يمكن وسمه بما نشاء إلا بالباطنية، وأن إخوة الظواهري كانوا يدخلون المحكمة في مصر بصرخة الله أكبر رغم حفلات التعذيب قبل وبعد هذا المشهد، وأن الخلية الإسبانية ليست جبانة لتدخل بصمت وذهول ولكنها ليست كما يعتقد، وأننا كنا نتمنى الاستماع لأدلة قانونية لا اعتبار ما سمته المحكمة "الخبرات التقنية" دليلا لأحكام وصلت إلى 27 سنة.

في إجابات رئيس المحكمة كان باستمرار عصاب الإيتا وعقدة لا كيميرا لاماري. يعتقد رئيس المحكمة بأن القاعدة ستصدر بيانا تتبنى فيه خليتها السورية بعد الحكم كما يفعل المسلحون الباسك، ويعتقد أن طمأنينة المواطن الإسباني لا يمكن أن تحدث دون الحزم مع كل ما هو موضوع شك. وقد روى مرتين لنا قصة لا كيميرا لا ماري، وعندما خرجت من الاجتماع سألت فاطمة الزهراء علوني عن هذا المصطلح حتى لا أسقط في زلات المترجمين التي ننتقدها، فأخبرتني بأن أحد القضاة أمر بالإفراج عن محكوم بالتواطؤ مع الإرهاب من أصل جزائري (اسمه العماري) قبل انتهاء محكوميته، وأثناء تمييز الجثث في حوادث الحادي عشر من آذار (مارس) المجرمة، وجدت جثة العماري بين الضحايا، وخلصت الشرطة إلى أنه أحد منفذي العملية.

من هنا، وحتى لا يتكرر الخطأ القضائي، قرر رئيس المحكمة، ارتكاب أخطاء قضائية جسيمة بحق 19 شخصا ضمن منطق الحرب الوقائية والمحاكمات الوقائية والسجن الوقائي. في البلد ربما الوحيد في العالم الذي يعطي القاضي الحق بأن يقول "أنا اعتقد بأن هذا الشخص مذنب" كمادة إدانة قضائية. لقد أشعرتنا خفة التعامل مع القضية بخفة وطأة الأحكام، فمن يصدر أحكاما بهذه القسوة بهذه الطريقة، قادر على لملمتها بالطريقة عينها  في حال وجد صوت حقوقي وقانوني قوي، ورأي عام يرفض الاستخفاف بحقوق الناس.

لقد احترم رئيس المحكمة كل القواعد الشكلية للتعامل مع المراقبين الدوليين والمتهمين، ولكنه لم يتمكن من الخروج من منطق القضاء الأمني، وكم كانت دهشتي شديدة عندما أصر على القول بأنه بالفعل يخشى من هرب تيسير علوني.

رئيس المحكمة لا يقبل أي تسييس أو تدخل سياسي، كما أصر على القول لنا قبل الأحكام بأسبوع. ولكن أليس هذا النهج في صلب السياسة القضائية الأمنية التي تفرضها الإدارة الأمريكية على الحليف والصديق بل والعدو، أليست المحاكمات الوقائية والقرارات التأديبية الإستباقية اعتناق لخط سياسي متطرف يمثله المحافظون الجدد ما وراء الأطلسي وبقايا الفرنكيين واليمين المتطرف الإسباني؟ أليس هذا الخيار هو صلب تسييس القضاء وقتل قدرته على بناء وتعزيز دولة قانون ومؤسسات.

إن كنا نرثي اختيارا قضائيا بائسا، فلا يمكن أن نصمت عن تهافت الصحافة الإسبانية. صحيح أن الأحكام قد تهربت قبل أيام كما اعترف لنا رئيس المحكمة، ولكن هل مهمة الصحافة النزيهة أن تواصل إصدار الأحكام خلال ثلاث سنوات؟  أين التضامن المهني؟ عندما اعتقلت القوات السوفييتية الصحفي الفرنسي فيليب روشو بتهمة التعامل مع "المخربين الرجعيين وعبور الحدود بشكل غير شرعي والتحرك مع مسلحين على أراضي الدولة الأفغانية"، وقف ما كان يسمى بالعالم الحر والصحافة الغربية يدا واحدة تضامنا مع صحفي التلفزيون الفرنسي الذي "نجح في الوصول إلى المجاهدين وعبور الحدود معهم وتسجيل سبق صحفي كبير" كما لخصت الأمر صحيفة الفيغارو يومها.

كذلك، كان حال الصحفيين الأمريكيين الذين نقلتهم وكالة الاستخبارات الأمريكية إلى المناطق التي يسيطر عليها الكونترا في نيكاراغوا. كانت الحكومة الساندينية  "دكتاتورية وشمولية وفاسدة وغير شعبية" (لا أدري إن نسيت شيئا من نعوت صحفيي التعليمات لها)، ولكنها أفرجت عن أكثر من صحفي تعامل مع المتمردين الكونترا وقع في أيديها، رغم أن محكمة العدل الدولية أدانت الاستخدام غير الشرعي للقوة ضد نيكاراغوا من هؤلاء المتمردين؟

لقد وصل بنا الأمر في الأشهر الخمسة الماضية لأن نتمنى على بعض الصحفيين التوقف عن الكتابة في الموضوع والانشغال بغيره ليبقى لدينا صورة غير مشوهة تماما عن قدرات بعض الصحفيين على الأذى المجاني لتيسير علوني وبشكل صفيق.

الديمقراطية الإسبانية عرجاء في قضائها وصحافتها، هيبة الأول على كف عفريت ومستوى الثانية يتدنى.. ولكن لا يمكن للضعيف أن يعطي دروسا لمن هو أقوى منه، ولا لمن يعيش في ظل الديكتاتوريات أن يحدّث الناس عن نقاط ضعف تجربتهم الديمقراطية. لم يتورع البوليس عن القول لأحد المتهمين الذين وقع عليه اعتداء في السجن فاشتكى: اذهب إلى سورية، هناك ستعامل في السجن بشكل أفضل.

لم يكن للمحكمة الوطنية الإسبانية أن تتجاسر على أشخاص يوجد من يدافع عنهم بكل المعاني، القانونية والثقافية والسياسية. لقد أعادت الولايات المتحدة لدول أوربة كل المعتقلين في غوانتانامو الذين يحملون جنسيتها، أما من البلدان العربية، فعاد فقط أربعة بالمائة. تفصح إذن، طبيعتك العربية والإسلامية عن نهج معاملتك!!

رغم كل شيء، اليوم يبدأ الفصل الثاني من معركة طويلة، وقف فيها نخبة من الأشخاص والمنظمات في المكان الأكثر عدلا والأكثر صعوبة، النضال ما زال في بدايته، وسنستمر، من أجل سمعة إسبانيا وحقوق من على أرضها، في خوض مغامرة اكتشاف جانب أساسي من كرامتنا، بالدفاع عن حقوق ضحايا المحكمة الوطنية في مدريد؟

         

* مفكر وحقوقي عربي بعيش في باريس. ورئيس اللجنة الدولية للدفاع عن تيسير علوني