مره أخرى تيسير علوني في المعتقل
مره أخرى تيسير علوني في المعتقل
عشاء غرناطي مؤجل مع تيسير علوني
خالد الحروب
الاتحاد الاماراتية
أما زلتم في أشبيلة؟ يأتي صوت تيسير علوني, الهادئ كالعادة, مهاتفاً من غرناطة. يقول, "غرانادا" تدعوكم لتناول العشاء في الثامنة من مساء الغد. شكراً تيسير, نلتقي هناك, وتماماً حيث تدعونا وتحب, في حي "الباثين", المدينة العربية القديمة الهانئة في سفح قصور الحمراء, علّ ملكاً من بني الأحمر يجالسنا لليحضرنا طيفه! في الثامنة مساء من ليلة الغد كنا هناك. في تلك الساعة بالضبط من يوم الجمعة الماضي، بالضبط، كنا نعانق تيسير مصدومين ومشدوهين, نودعه عوض أن ننادمه على عشاء موعود. جاءت شرطة فرناندو وإيزابيلا لاعتقاله قبل محاكمته, على غير ما موعد. فوجئنا جميعاً. كنا في مؤتمر في أشبيلية مجاورين له, ودعانا لنزوره ونتعشى معه. جئناه فشهدنا اعتقاله واندهشنا به. يا لمفارقات الزيارات. كان يبتسم مرحبا بنا, صار يبتسم حاضنا أبناءه واحدا واحدا مودعاً وساهماً. التقطنا له صورة أخيرة مع أصغرهم. صار يعتذر مبتسما وساخراً أن موعد العشاء معنا سيتأجل, ولربما لفترة طويلة. على عتبة البيت في حي "الفكار", أو "الفخار" كما هو أصله العربي, ودعته فاطمته وعانقته, وهمست في إذنه همس العاشقين.
دمعت عينا لميس ترقب المشهد, الأولاد يودعون أباهم ربما للسجن لتسع سنوات قادمات, والفاطمة القوية كأسوار الحمراء, تكافح أن تنهار, قد هدتها رباطة الجأش فيها. هممت أن أغادر بعد أن غادرت سيارة الشرطة ومعها تيسير كي أفسح لها إن شاءت أن تذرف دمعاً ساخنا تحجر في عينها ويخجل منها أن يسح. جلت بنظري في التلال المجاورة كأنما أبحث عن الناصر أو المعتمد. لا أحد هناك. ودعته وقلنا لبعض: ما زلنا على موعد العشاء الغرناطي يا ابن غرناطة ويا ابن دير الزور. قال مازحاً نراكم بعد تسع سنين. كانت فاطمة قد اتصلت للتو بالمحامي الذي نقل إليها ما كان قد فوجئ به هو نفسه في ذات اليوم, ذاك أنهم قدموا موعد المحاكمة وأن القاضي أبلغه بأنهم سيصدرون حكماً على تيسير لتسع سنوات. صدمت فاطمة, وصدم تيسير, وصدمنا. مع الصدمة يأتي سكون غريب, كأنما يهدأ الكون كله ويتيح للمصدومين هنيهات تأمل. رجال الشرطة الواقفون على عتبة البيت يرقبون المشهد وينتظرون, تأدبوا ولم يتواقحوا – تركوا المشهد يكتمل, كانوا على ثقة بأن لا معتمد ولا ناصر سيأتي. دلف تيسير في سيارتهم التي غابت في الطريق. ظل الصمت والوجوم وراءه, ووراءها!
فاطمة أكبر من الصمت, أقوى من الوجوم. مدهشة هذه الأندلسية. لم نعرف ماذا نقول لها. كانت أكبر من أية كلمة مواساة. وطبعا أكبر منا كثيراً.
دخلنا البيت. مصعب ابنها الرضيع, يحبو ويبكي, وقد اربكته الوجوه الجديدة, وتتابع حركة الدخول والخروج من وإلى البيت. صوت فاطمة يشرح على "الجزيرة" تفاصيل الاعتقال بعد دقائق من حدوثه. كيف لا تنهار هذه المرأة الحديدية؟ ابنه أسامة قفز إلى الكمبيوتر يتصفح وكالات الأنباء ويقرأ لنا آخر ما نقله الإعلام الأسباني عن خبر الاعتقال. فاطمة تتكئ على مقعد نصف واقفة وفي يديها ثلاثة هواتف, تستفسر من زوجات أخريات عن بقية من اتهموا مع تيسير إن كانوا قد اعتقلوا في نفس اليوم أيضاً. خلال دقائق كانت الهواتف الثلاثة, هاتفها المتحرك, وهاتف تيسير, وهاتف البيت، ترن بلا انقطاع. صحافة أسبانيا والصحافة الأجنبية فيها انهالت على فاطمة. وفاطمة تقول لهم: كنا ننتظر البراءة لأن القاضى فشل في إدانة تيسير بأية تهمة. كلها ملفقة. ليست هذه قضية قانونية ولا محاكمة قضائية, ولا ما يحزنون. هذه محاكمة سياسية. قالت: كل من تابعوا المحاكمة منظمات حقوقية محايدة اتفقوا على خواء القضية وتفاهتها.
الأدلة التي قدمت سخيفة, كلها ترجمات سيئة لرسائل ومكالمات يمكن أن يقولها أو يكتبها أي متكلم للغة العربية.
لا ينقطع رنين الهواتف. لميس ترد عليها لتساعد فاطمة. طار الخبر في كل مكان. أصدقاء تيسير وفاطمة في العالم يريدون الاطمئان عليه بعد أن شاع توقع برائته. تحول البيت الهادئ في حي "الفخار" إلى عاصمة صاخبة من الهواتف والمكالمات.
مضت الدقائق بطئية. ظلت لميس تؤنس فاطمة, وخرجت أنا. قررت أن أن أذهب إلى حي "الباثين" حيث كنا سنذهب مع تيسير ليلتها. أريد أن أبحث عن بقايا عزيز, أو طيف أمير, أو عزف ناي, أو مناداة حانوتي, أو غناء موشح فرح لـ"ولادة". كأنما كنت أريد أن أقول لهم إن موعد عشائك يا تيسير لا زال قائماً, فليبقوا أبوابهم مفتوحة, وليبقوا أوتار أعوادهم مشدودة.
هناك, في زقاق ما, قلت لعبدالرحمن المغربي في مطعم جانبي, احجز لنا طاولة لأربعة, وأطلب لنا "الباقية" و"التاباز". أفرد عليها شرشفاً من نسيج "ألباثين", وجهز لنا أربعة أقداح من "أتايك" الفاسي الغلاب.
فغرناطتك يا نادل المطعم هي من عشق العاشق الذاهب إلى السجن. ذابت فيه وذاب فيها حباً وجذلاً. يصفها لنا في طريق استقباله لنا من محطة القطار إلى بيته: كل من يزور هذه المدينة الساحرة يعود إليها ولو بعد حين.
عشرون عاماً أيها الغرناطي, خلطت بها ما يحوم في الهواء, من عبق, وصور, وتاريخ كله اشتياق, بكل ما في عروقك من شام بني أمية.
غرناطتك ما قست عليك, من قسى عليك وأودعك الاعقتال غرناطة أخرى كئيبة, لا يعرفها الغرناطيون. غرناطتك بادلت الحب بالحب. غرناطة أبي عبد الله الصغير وصافعيه وهو يصغر أمامهم هي من قست عليك. هي من أصغت للواشين ومن لفقت ما لفقت عليك وضدك.
ينتصف علي الليل هنا في أزقة "الباثين" يا صديق العشاء الذي لم يتم.
أمشي بلا هدف, أتوه في عرجاتها الضيقة, أتباطأ في طرقها المرصوفة. يرى عبدالرحمن الفاسي نادل المطعم الطيب في عيني شيئا كثيرا, يسأل, فأطلب قلماً. أخربش حروفاً أناجي بها أطيافاً هي على مقربة مني, هناك في ساحة الأسود في القصر المطل على الحي. مع كل وقع خطى أنصت لسنابك خيل من بعيد. ألملم بقايا انكسار وعجز, بين سطور تناغي ما قد مضى, وخيول لن تأتي. أخدع نفسي بنفسي. كلما ألمح نورا ذاوياً هنا أو هناك أسير إليه لأقول لمن فيه إن مضيفنا الغرناطي قادم, فلا تطفئوا الأنوار. قلت لهم إنك ستأتي في الثامنة على موعد العشاء, ذاك أن بينك وبين "الباثين" موعداً دائماً. لن يكون بعد تسع سنين, سيكون الليلة أو ليلة الغد.