أوتار الحنين إلى حلب

د. محمد علي الهاشمي

أوتار الحنين إلى حلب

تهتز في أعماق الشاعر محمد الحسناوي

د. محمد علي الهاشمي

  في قصيدته بعنوان : " هل من عود إلى حلب " يصور الشاعر محمد الحسناوي اعتمال الشوق في أعماق نفسه إلى مدينته حلب ، حيث مراتع طفولته ، ومغاني شبابه ، ومطارح ذكرياته ، بعد غربة امتدت خمساَ وعشرين سنة ، لم تكتحل خلالها مدامعه برؤيتها ، ولم يقرّ لقلبه قرار مما عانى هو واخوته المغتربون معه  من بطش الطغيان وصلفه وتنكيله :

     الشوق   أقتل ما يفري  إذا  احتجبا          والعمر ضاع  إذا لم  نلتقي حلبا

   خمس وعشرون:لم تكتحل   مدامعنا           ولا تناهى الذي في  حبها  التهبا

  خمس وعشورن من صد ومن صلف           ومن سكاكين ما أبقت لنا عصبا

    وينظر إلى الطيور التي تغدو وتروح إلى أعشاشها حرة طليقة مبتهجة ، فيغبطها ، ويرى البون شاسعاَ بين حالته وحالتها ، إذ هو المعنّى الملذّع القلب الذي لا أوبة إلى بلده ولا رجعة :

كل الطيور إلى أعشاشها انقلبت            إلا معنّى ، كسير القلب ، ما انقلبا

    وكأن أحد إخوته يهوّن عليه ما به من حنين ، ويذكّره بنعمة الاستقرار في مغتربه ، فإذا هو يردّ عليه بحدة وانفعال :

إليك  عنّي ،  فلا  أرض ولا بلد             و لا  سماء  إذا  لم  تعطني  حلبا

    ويقوده استعار الشوق في أعماقه إلى بلاد الشام ، يقوده إلى استعراض الأمجاد التي حلّى التاريخ بها جيد بلاده ، وإلى ذكر الشخصيات التي خلّدت ذلك التاريخ بعطائها الجم الغزير ، ذلك العطاء الذي عبّ الشاعر منه كؤوساَ دهاقاَ مترعة :

    ياليلة  من  ليالي  الشام  أذكرها            ذكر  الميامين  ..  مجداَ  تالداَ  وأبا

   وحدي مع الليل والأنسام تنفحني            عطراَ شذيّاَ ، وشعراَ يكشف الحجبا

   (أبو فراس)و(سيف الدولة)استمعا          شجوي المندّى،وحولي أيقظوا الحقبا

    كلُ  سقاني  بكأسِ  من  شمائله             و من  شمائلهم  ما  أسرج  الشهبا

    ألقوا إلى ( المتنبي ) سمعهم فشدا            ما  هزّهم طربا ، واعتادني  وصبا

    ويرتفع صوته بعد ذلك معلناَ للعصبة الطاغية المتسلطة في بلاد الشام أن أولئك الأقوام الأماثل البهاليل هم قومي الذين ساموا الروم سوء العذاب ، وحفظوا بلاد الشام عزيزة منيعة ، لا أنتم الذين أرخصتم النسب والعرض . أولئك قومي الذين كان همهم دحر العدو، وأنتم لاهم لكم اليوم إلا الصغار وجمع السحت من المال :

    أولئك  القوم  قومي .  يا مزيفة            وجوهكم ،  وقفاكم يلعن  العربا

    أولئك القوم ، ساموا الروم داهية           وأنتم ترخصون العرض والنسبا

    مصارع القوم قد كانت لهم دابا            وأصبح الفلس  والأدنى لكم  دأبا

    لقد كانت بلاد الشام مهد الحضارة العربية الإسلامية ، وكانت عصيّة على الطغاة ، لم ترتطم يوماَ بطاغية اغتصب سلطانها إلا ثلّت عرشه ، وجعلته هباء منثوراَ :

الشام  عرباء  لم  تسلم  لطاغيةِ             إلا  لتنثره  مثل  التراب  هبا

    ويعود الشاعر من هذا الاستعراض التاريخي إلى التساؤل المفعم بالمرارة والألم واللوعة والحنين إلى حلب :

    فهل إلى الشام من عود ، إلى حلب       إلى  زمان تقضّى صبوة وصبا

    ومرة ثانية يقوده الحنين إلى الإشادة بمساجد بلاد الشام العامرة بتلاوة القرآن   ومدائح الرسول صلى الله عليه وسلم ، تلك البلاد التي باركها الرحمن ، وجعلها الرباط دوماَ لتحرير القدس كلما غلب عليها معتد أثيم ، يشهد لذلك سيف صلاح الدين البتار ، وخيول بني مروان المسوّمة :

    قرأن (أحمد) غنى في مساجدها            فأرسل  الكون  اسماعا له ، طربا

    و في  مسامعها  أزجت  بلابله            في ذكر (أحمد) ماأصبى وما سلبا

    الشام، باركها الرحمن، مافتئت            أرض الرباط، ليوم القدس، مرتقبا

     ما كان سيف (صلاح الدين) من خشب ولا  خيول  ( بني   مرواننا)  قصبا

    ويختم الشاعر قصيدته بالقطع الجازم المؤكد بأن هذا الجمع المغتصب لبلاد الشام لابد من هزيمته أمام أمة هذا تاريخها ، وهؤلاء هم قادتها ورجالاتها الميامين :

سيهزم الجمع ، لاشك ولا ريب        سيهزم الجمع ، طال العهد أم كربا

    لقد عبر الشاعر الحسناوي عن مشاعر جيل النكبة في سورية الذي اكتوى بنار الطغيان والدكتاتورية ، وأُرغم على الرحيل من بلاده الحبيبة إلى ديار شتى في أصقاع الأرض .

    وزاد في استعار نار الشوق إلى البلاد طول سنوات المحنة التي نافت على العقدين من الزمان ، وحُرم فيها المغتربون من رؤية أحبتهم وأهليهم في بلادهم ، ومن الاستمتاع بطيبات ونعيم وخيرات بلاد الشام وماكان يعينهم على الصبر على تلك المحنة إلا استمساكهم بحبل الله المتين ، واحتسابهم ما يلقون من عنت وضيق وكرب في سبيل الله الذي وعد المهاجرين في سبيله الصابرين على ما يعانون من مرارة العيش ولأوائها الأجر  العظيم في الدنيا والآخرة كما في قوله تعالى : ( والذين هاجروا في سبيل الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة، ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ) : الآية 41 من سورة النحل .

    ومع هذا كله كانت تعتري نفس الإنسان المهاجر المغترب لحظات لا تسلم منها نفس بشرية ، يحس فيها المغترب بالضيق والكرب ، وهذا ما عبر عنه الشاعر بقوله :

  خمس وعشرون من صد ومن صلف       ومن سكاكين ما أبقت لنا عصبا

    ومن هنا كان من حق الشاعر الحسناوي أن يردّ على من راح يهوّن عليه اغترابه بقوله :

    إليك  عني  فلا  أرض و لا  بلد         و لا سماء  إذا  لم  تعطني حلبا

    ويزداد حب الوطن حرارة حين يقترن ذلك الوطن بالمقدسات والبطولات والأمجاد والمآثر التي حفظها التاريخ ، وهذا ما رأيناه من حرص الشاعر على التنويه بذكر أبي فراس وسيف الدولة والمتنبي وصلاح الدين وبني مروان ، وفوق ذلك كله وقبله التنويه بقرآن أحمد وترتيله وذكر أحمد صلى الله عليه وسلم المنبعث من أجواء المساجد الطاهرة في بلاد الشام .

    وكما يزداد حب الوطن حرارة حين يكون كذلك ، تزداد الثقة بتحريره وعودته إلى أصالته ونصاعته ونقائه مهما طال ليل الظلم وادلهمت الخطوب والنكبات .

    وقد عبر الشاعر الحسناوي عن هذه المعاني المتألقة في نفسه بأسلوب جزل متين ، قوامه اللفظ الكريم الفحل ، والعبارة الرضية الفصيحة، يعمره الإيقاع الهادئ الرزين الصين الذي لف القصيدة في أبياتها جميعاً ، معبراً بذلك كله عن صدق انفعاله بحنينه إلى بلاد الشام عامة ، وإلى مدينته حلب خاصة .