الحرية والشتائم التقدمية

أحمد الجمال الحموي

الحرية والشتائم التقدمية

بقلم الشيخ أحمد الجمال الحموي

عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام

ما تزال تلك الحكمة التي نطق بها المتنبي منذ مئات السنين صامدة راسخة، لم توهن عزمها الأيام ولم تُبْلها الأعوام، ولم يُضْعف بريقَها وألقها مر العصور وكر الدهور. ولقد حواها بيتٌ أو صدرُ بيت من إحدى قصائده ألا وهو:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله    وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

وكيف لا يشقى ذو العقل وتودعه السعادة وتهجره الراحة، وهو يرى تبجح الباطل وانتفاشه وتطاوله، يحاول أن يعدو قدره مستغلاً شعار الحرية الذي شرّق الناس في فهمه وغربوا.

وكي لا يستغل ماكر خبيث أو أبله غبي هذا الكلام أقول: إن الذين يعشقون الحرية كثيرون، لكنني وحدي بكل من يعشقها. وإنني لأهيم بها أعظم مما يهيم العاشق الموله بمعشوقته، ولا أرى الحياة حياة إلا بها وإلا معها وفي حضنها الدافئ الحاني. وأي حياة لإنسان محجور على عقله وتفكيره، وقد عُقد لسانه، وأغلق فمه وقيدت يداه ثم غلتا إلى عنقه فلا يقدر أن يضرب بسيف ولا أن يكتب بقلم. ثم راح يجره ويذله لكع ابن لكع جر الحيوان، مستخفاً بإنسانيته، جاعلاً كرامته تحت قدميه، ولو صلح الحال وعادت المياه إلى مجاريها لما بلغ ذلك اللكع مرتبة تقبيل النعال، فضلاً عن أن يطأ الأحرار بالأقدام. وصدق محمود سامي البارودي رحمه الله عندما قال:

ليس بـدعاً إذا تعالى وضيع       واستباح الحمى الحرام إباحي

قد تحوك الأقدار من لبدة الليـ     ـث وشـاحاً للغانيات الملاح

لكن الحرية مظلومة من وجهين، بينهما أوثق رباط وأقوى وشائج القربى، والوجهان متلازمان حتى لكأن أحدهما نتيجة للآخر.

فهي مظلومة أولاً في تحديد معناها ورسم حدودها ومبناها، إما جهلاً عند بعض البسطاء أو الحمقى، وإما عمداً عند الأشرار المتعالين أدعياء التقدم والرقي، وكل فريق يصوغ لها تعريفاً ويرسم حدوداً بالقياس الذي يريده وبالشكل الذي يحقق مصالحه ويوافق أهواءه ورغباته، حتى غدت كلمة لا معنى لها، أو أصبحت مرادفة للفوضى والانفلات.

وهي مظلومة ثانياً في تطبيقها وإسقاطاتها على الواقع وأمور الناس، بل ومستغلة ببشاعة مقرفة مقززة، فما من باطل ولا شر ولا عهر يراد له أن يندس في حياة الناس ويزاحم القيم والأعراف والأنظمة والقوانين إلا اتخذت الحرية دريئة له لتدفع وترد سهام الحق عن الباطل اللائذ بها المختفي وراءها، المحتمي بحماها. ولست أعني فيما قلت أعداء الحرية الذين يرفضونها ويبغضونها جهاراً نهاراً، وإنما أعني أدعياء محبتها المتاجرين بها.

ولقد ذكرني هذا الواقع المحزن بما حدث في الثورة الفرنسية التي لعب اليهود فيها دوراً خطيراً، ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، وكان مما صنعوه أنهم نادوا بحماسة وبصوت عال وباندفاع وإلحاح مع المنادين بإطلاق الحريات، ولهذا النداء كما هو معلوم جاذبية وفعل كفعل السحر، غير أن هذا لم يكن حباً في الحرية ولا حرصاً على فرنسة ولا على شعبها، وإنما أرادوا بذلك أن تطلق أيديهم الآثمة المقيدة في مجتمع نصراني متعصب يحاصرهم وينبذهم ويمقتهم، نعم ما كان نداؤهم مع المنادين بالحرية إلا ليتاح لهم أن يفكوا القيود، وأن يُنْفذوا إلى مواقع القرار فتسهل السيطرة والإفساد في الأرض، وكل ذلك باستغلال الحرية وركوب موجتها العاتية.

وقريب من هذا صنيع الدونمة مع دولة الخلافة وبعد سقوطها، إذ خَدَعوا من عنده استعداد للانخداع بشعار الحرية والعدالة والمساواة، وهم أبعد الناس عن هذه المعاني ولقد حققوا بهذا المكر وتلك المكائد كثيراً من أهدافهم ووصلوا إلى مبتغاهم. فماذا كان بعد هذا الضجيج المفتعل، والهتاف الكاذب للحرية، من أصحاب الوجوه المتعددة سدنة الحرية الكذابين.

لقد أصبح بيان تلاعب الأحبار بالتوراة وتحريفهم لها، وبيان جرائم اليهود خلال التاريخ، ثم ما ارتكبوه من فظائع منذ احتلالهم فلسطين وحتى الآن جريمة كبرى.. وشَرعت كثير من الدول عقوبات لهذا الغرض تحت عنوان محاربة السامية، وبعد أن يسكت المرء عن جرائم اليهود لا عليه أن يطعن فيمن يريد، وأن يُبغض شعوب الأرض بالطول والعرض.

وفي ديار الغرب، وعلى رأسها فرنسة أرض ثورة الحرية، الويل لأنثى ترغب بالستر، ولرجل يحرص على عرض زوجه وبناته فهذان متخلفان خارجان على القيم المقدسة فحق لهما أن يعاقبهما القانون ويحال بينهما وبين حريتهما الشخصية بالقوة، وقس على ذلك..

وآخر بلاء ماحق حل بالحرية أنه قد تم ذبحها بمنتهى الرقة من الوريد إلى الوريد جهاراً نهاراً، مع تزويق الذبح في وسائل الإعلام النزيهة الموضوعية الخاضعة للعم سام، وتقديم هذا الذبح في صورة عمل إنساني جبار، وإنجاز حضاري رائع، والحجة فيما يفعلون في الحرية المظلومة هي محاربة ما سموه الإرهاب وقيم الهمجية والتخلف. وكأن صدور سادة القوم في الغرب كانت قد ضاقت بنسمات الحرية، حتى لم تعد صدورهم تستسيغ استنشاقها ولربما حشرجت منه، وتلك الحرية على الرغم مما فيها من ثغرات كانت أفضل ما حققوه، وخير ما انتزعوه من الكنيسة ورجالها ومن الملوك والحكام المتسلطين أو المتألهين، بعد صراع مرير صبغ ثورات الشعوب في سبيل الحرية بالأحمر القاني واستمر في بعض المناطق مئات السنين.

ولأن كثيراً من شعوب الغرب تغذيهم أفكار كنسية تعادي الإسلام أو أفكار قومية متعصبة ضيقة، وفي الوقت نفسه لا يألو حكامهم جهداً في تخويفهم إلى درجة الهلع من الإسلام والمسلمين، وإيهامهم أن المسلمين زاحفون نحوهم للقضاء على حضارتهم المتميزة بسرعة الضوء، ويوشك أن يناموا ذات ليلة فلا يستيقظون، أو أنهم يستيقظون على وقع سنابك خيل خالد بن الوليد وأبي عبيدة وطارق بن زياد تجوس خلال ديارهم، وبسبب هذه الأمور كلها فإنهم يربطون بين الإسلام والإرهاب، لذا صدرت القوانين التي تنسف الحرية وتذروها في الرياح قبل أن يرتد إلى القوم طرفهم، لما علموا أنها لإيذاء المسلمين ومحاربة الإسلام، بعد أن استغرق انتزاعها من فك الحكام وإيقافها على قدميها عقوداً بل قروناً من التضحيات الجسام.

ومن اللافت للنظر أن قوانين مكافحة الإرهاب التي تصيب الحرية بسهم مسموم في سويداء القلب لم تقتصر على من يحمل السلاح في الشوارع أو يختفي في المغاور والكهوف بل كانت حرباً شاملة على الإسلام وأهله، انتظمت الأفراد والدول والحكومات، وامتدت بوقاحة وصفاقة إلى الفكر والقيم والمناهج والمساجد والمدارس والجامعات والجمعيات الخيرية وبأسلوب استفزازي عدواني متعجرف.

لكن من المفارقات التي سيكون لها انعكاساتها أن هذه القوانين الجائرة البائرة قد امتد ظلها الثقيل غير الظليل لينتقص بطيشِ مشرعي هذه القوانين من حرية الشعوب الغربية نفسها، على نحو لم يألفوه منذ أن قاموا بثوراتهم الدامية في سبيل الحرية، وهكذا فإن عمى البصيرة وضيق الأفق يحمل في طياته بذور دماره، وإنني أتوقع أن لا تصبر الشعوب الغربية طويلاً على المساس بحريتها وسيكون رفضها مدوياً عندما تكتشف حقيقة خرافة محاربة الإرهاب كما صوره بعض حكام الغرب.

أما في تركية فبعد تثقيب الآذان بالشعارات البراقة جُلدت الحرية، ثم خُنقت، فَمُنع الأذان، وفرض الفساد، وأجبر الناس على لبس قبعة غريبة الروح والشكل، وصار تعليق صورة أتاتورك واجباً لا يصح التهاون أو التفريط فيه، وأضحت مبادئ أتاتورك أكثر قداسة من كلام الله تعالى ومن مبادئ الإسلام، ولم يقف الأمر عند نزع القداسة عن الإسلام وأحكامه بل غدا الكلام في الإسلام طامة كبرى، وويل لمن يفكر في التحرك باسم الإسلام أم من أجله، على الرغم من الإسلام روح الأتراك وهل يتخلى المرء عن روحه، فأين الحرية من هذا وأين الذين هتفوا بها. وما أرى إلا أن هذه المسرحية الهزلية تعرض مرة أخرى على خشبة هذا الجزء من أرض الله سبحانه بوجوه جديدة في صورها غير أن بين قلوب أصحاب وقلوب يهود فرنسة ويهود الدونمة رحماً موصولة وزماماً غير منقضب.

فهاهم بعض المحسوبين على أمتنا من الذين ينطبق عليهم ما جاء في الحديث الشريف (قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب) يرفعون عقيرتهم منادين بالحرية (لكن على طريقة يهود فرنسة ويهود الدونمة) وأنعم بالحرية وبالمناداة بها وياله من نداء آسر جميل لكن إذا صدق المنادون، وأكرم بالحرية الحقة التي تحمي الفضيلة، وتحوط الكرامة وتكسر القيود وتطلق الإبداع من غير أن يستغلها الأشرار، أو يركب موجتها الفجار.

والآن ما الذي يقوله الواقع، وهل الواقع يصدق ظاهر كلام بعض المنادين بالحرية، الواقع يقول إن بعض العلمانيين يريدون حرية الكفر لا حرية الفكر، ويريدون حرية الإلحاد والرذيلة والفساد والإفساد ليس غير.

وبياناً للحق أقول إن بعض العلمانيين يربؤون بأنفسهم عن هذا الدرك، ويحذرون هذا المنزلق، ويأنفون من الغوص في المستنقع الآسن الذي يغوص فيه صغار العلمانيين وجهلتهم.

وسأعرض بعض الصور التي تبين سخف هؤلاء الصغار وبعدهم عن الفهم الصحيح لمعنى الحرية، حتى لقد تمادى بعضهم فصار نسخة شائهة لسيء الذكر الغابر الخاسر فرعون الذي قال (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) فتراه فيما يكتب يسمح بأشياء ويمنع أشياء، ويبيح تشكيل أحزاب على أساس كذا ويمنعها على أسس أخرى حتى ليخيل لمتابع تلك الكتابات أن هذا الإنسان سيكون شر المستبدين لو كان له من الأمر شيء، وهذه بعض الصور التي توضح فهم الصغار للحرية وتطبيقهم لها:

1- كتب أحدهم مقالة فكان من جملة هذيانه فيها قوله إن الإنسان هو الذي خلق الله تعالى وليس الله هو الذي خلق الإنسان والمصيبة أن هذا الهذيان يُقدم للناس باسم التقدم والحرية، وكأن الحرية تعني احتقار القيم ونسف الحقائق الكبرى والاستخفاف بمشاعر المسلمين، فإذا ما حملت الغيرة مفكراً مسلماً على كتابة رد على هذا الهراء لبيان ضحالة هذا الفكر وبعده عن الصواب اعتبر الرد عدواناً على الحرية وحجراً على الفكر وضياعاً للأدب، ثم لا يكون من هذا المستوى من العلمانيين إلا أن يمطروا المفكر الذي كشف سخفهم وزيفهم بسباب علمي وشتائم تقدمية وسخرية لاذعة، ويسمون ذلك مناقشة موضوعية.

والأنكى من ذلك أن فريقاً من هؤلاء الصغار الذين لم يبق فيهم من الحياء والمروءة ذرة واحدة يعمد إلى تحريض الحكومات بأسلوبه العلمي للاحتماء بالسلطان والضرب بسيفه، ولعمر الحق أن الاستقواء بالناس –في مجال الفكر وساحة الحوار- من علامات الإفلاس ذلك لاعتقادهم أن الحرية حكر عليهم، وليس من حق المؤمنين أن يدعوا إلى الإيمان ولا أن يناقشوا الكفر ولا أن يرفضوه لكن من حق أولئك الصغار أن يرفضوا الإيمان ويزروا به، ويعلنوا الكفر ويفرضوه، ولو استطاعوا لمنعوا كل صاحب فكر من المساس بأفكارهم التي منحوها من عند أنفسهم قداسة انتزعوها ممن يستحقها ومنحوها لمن لا يستحقها.

2- يدعو بعض جهلة العلمانيين بحماسة طائشة رعناء إلى مفهوم مدمر لتحرر المرأة، وإلى التكشف والعري والاختلاط بلا ضوابط ولا حدود، فإذا ما رفض داعية أو مفكر مفاهيهم وآراءهم وهذا من حقه قامت قيامة المنادين خداعاً بالحرية، حتى لو استطاعوا لغيبوا صاحب الرأي الآخر عن الوجود.

 فالحرية كلها لهم ولدعواتهم المصادرة للذوق العام ومستقر الأعراف، وتاريخ الأمة وعقيدتها، وللخروج على الإسلام ليس إلا. وليس لمن يدافع عن الإسلام وقيم الأمة منها شيء، بل إن من يدافع عن دينه متخلف رجعي متعصب وقد يبلغ مرتبة الإرهابيين، ولا تعجب من منح أنفسهم حق الدعوة إلى التشبه بالبهائم وحرمان المؤمن من حق الدعوة إلى مواراة السوءات وستر العورات والترفع عن التشبه بالعجماوات.

3- وهذه صورة أخرى أكتفي بها على الرغم من كثرة الأمثلة والصور، تدل على استغلال بعض العلمانيين لدعوة الحرية وعلى حجر عقولهم وانطماس بصائرهم.

إن فريقاً من هؤلاء لم يزل منذ أمد بعيد يطالب بمنع تشكيل الأحزاب على أساس ديني، ويستدل بالأدلة المتهافتة الساقطة على فوائد ذلك، وقد طرب لهذه المطالبة واحتضنها حكام كثير من الدول العربية بعد أن وافقت هوى في نفوسهم ونفوس سادتهم من حكام الغرب الذين لا أرى بعضهم إلا مثل كهنة محاكم التفتيش في العصور الوسطى لكن بثياب عصرية.

وقد نسي الناعقون بهذا أن الأمة مسلمة وإن الإسلام يجري في عروق أبنائها، ولا يخفى حتى على أبسط الناس أنه لا خوف على أحد في ظل الإسلام الذي ينصف الجميع ويحميهم ويضمن حقوقهم.

أرأيت الحرية التي يريدونها، كل الأفكار والمبادئ لها مكان، وهي محل ترحيب وقبول، إلا دين الأمة وروحها وقلبها النابض ومكونها الأساس، وكأن الإسلام هو الطارئ الوافد أما علمانيتهم فهي الأصيلة المتجذرة.

يا عجباً أَتُمنَعُ البلابل الغِرّيدة من دوحها، وينادى على الغربان أن تتقدم وليتقدم معها حتى الشيطان، ولله در القائل: أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس.

وبعد هذا فإنني أرى فيما أوردته مقنعاً وكفاية لمن كان له قلب، ولعمر الحق لقد آن الأوان الذي يرفع فيه الأحرار الأنقياء نبات هذه الأرض وهذه الأمة أصواتهم معلنين أنّ شرف الكلمة ونفعها يساوي حريتها، وأن حرية الفكر البناء مضمونة، أما حرية الكفر الخارج على الأمة فهي مذمومة ملعونة، وأن أوقات المسلمين أعز وأثمن من أن تضيع بسفساف الأمور وضلالات الأهواء الشاردة تعرض باسم الحرية البريئة.