يا أهلنا في لبنان
يا أهلنا في لبنان
عبد الله الطنطاوي
والله إن جرحكم هو جرحنا، وإن قرحكم هو قرحنا..
نحن جميعاً من بلاد الشام التي دعا لها رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه، سوريين، ولبنانيين، وأردنيين، وفلسطينيين، ونحن جميعاً عرب، مسلمين، ومسيحيين، وتجمعنا لغة واحدة، وأرض واحدة، وتاريخ واحد، وحضارة واحدة، ومصير واحد، وواقع معيش واحد..
فإذا نزل الاستعمار بأرضكم نزل بأرضنا جميعاً..
وإذا سامكم الظالمون المستبدون ألواناً قاتمة قاسية من الظلم والاضطهاد والاستبداد، فقد فعلوا بنا جميعاً مثل ما فعلوا بكم وزيادة..
اغتصبوا الحكم كما اغتصبوه عندكم..
وحكموا البلاد بالحديد والنار، كما حكموكم، وما يزالون يحكمونكم ويحكموننا..
قتلوا أكثر من ستين ألفاً في سوريا الحبيبة، كما قتلوا من أبنائكم..
اعتقلونا وسجنونا عشرات السنين كما سجنوا العديد من أبنائكم..
شردوا مئات الألوف منا، كما شّردوا أحراركم..
اعتدوا على أعراضنا، كما اعتدوا على أعراضكم..
نهبوا ثرواتنا، وأفقرونا، كما نهبوا ثرواتكم، ونهبوكم..
أفسدوا ذمم كثير من أبنائنا، كما أفسدوا ذمم الكثيرين منكم، ممن صاروا لهم أتباعاً وخدماً مطيعين لا يعصون لهم أمراً..
فرطوا بأرضنا، ولم يفعلوا شيئاً من أجل استعادة الجولان الأسير، كما فرّطوا بأرضكم، عندما لم يتصدوا للصهاينة الذين غزوكم، واحتلوا أرضكم وعاصمتكم الحبيبة بيروت، بل لم يدافعوا عن وجود جيوشهم الجاثمة فوق أرضكم، من أجل الدفاع عنكم، كما زعموا ويزعمون..
ولو أردنا أن نعدّد ما ارتكبوه بحقنا وحقكم، بحق شعبينا الشقيقين، لرأيتم التطابق الكامل بين أحوالنا، حتى فضّل بعض من أبناء شعبينا، الغزاة من الخارج، على الغزاة من الداخل، كما في الحالة العراقية تماماً، لشدة ما لقي الناس من ألوان العنت والقهر والظلم، والافتئات على أبسط حقوق الإنسان، على أيديهم الآثمة الملوثة بالدم الحرام، والمال الحرام، وكلّ ما هو محَّرم..
يا أهلنا في لبنان
نقول هذا الكلام في هذه الظروف العصيبة التي تجتاح منطقتنا، وكان حكامنا.. حكامكم.. سبباً وجيهاً في خلقها، ولسنا ندري ما إذا كنا نستطيع فعل شيء من أجل استنقاذ ما يمكن استنقاذه، أم أن أوان الاستنقاذ فات..
ولكن الذي لم يفت، ولا يمكن أن يفوت، علاقات الأخوّة فيما بيننا نحن أبناء الشعبين الشقيقين.. فنحن إخوة، وأشقاء، برغم أنوف الحاكمين الظالمين المستبدين الذين أكلوا قرابة نصف قرن من حياة شعبينا، وأشاعوا التباغض والإحن بين أبناء الشعب الواحد، والأمة الواحدة، ومزقوا اللحمة والسَّدى معاً، بسياساتهم الداخلية الرعناء المبنية على أمزجة مريضة، وأنانيات قاتلة، وأحلام طائفية وعشائرية ما كان شعبنا يعرفها حتى جاؤوا بانقلابهم الآذاري المشؤوم، واستبدلوا بالجيش المحترف قطعاناً من الأتباع والمرتزقة، وتركوا الجولان، وتوجهوا بهم نحو أبناء الشعب ومدنه وقراه، فدمروا نصف مدينة حماة، مثلما دمّروا في بيروت وطرابلس، واستباحوا حلب ودمشق وجسر الشغور وسواها، كما استباحوا المدن والقرى اللبنانية، سواء بسواء..
أنتم ونحن كنا وما زلنا في محرقتهم.. وهي محرقة حقيقية.. تصوروا مئات الآلاف من أبناء الشعب السوري مشردين في أنحاء الأرض، بلا وثائق تثبت أنهم سوريون، مئات الآلاف، طوال ربع قرن، بلا هويات ولا جوازات.. ثلاثة أجيال.. من العرب والأكراد السوريين ارتكب نظام البعث بحقهم هذه الجريمة النكراء التي لا تقل عن جرائم القتل والاغتيال التي ارتكبها ويرتكبها هذا النظام.. اغتيال ثلاثة أجيال لا ذنب لهم سوى قول: لا، لانتشار هذا الطاعون الذي لم يحفظ للشعب كرامة، ولا أرضاً، ولا ثروة، وحدوداً..
وكلمة أخيرة أيها الأحباب..
هؤلاء العمال السوريون الذين هربوا من نظام القمع والتجويع إلى بلادكم.. وهم مئات الألوف.. لجؤوا إلى أرضكم ليعملوا من أجل لقمة العيش التي غدت مغمسة بالدم والدموع في مدنهم وقراهم.. هربوا من بلادهم ولجؤوا إلى بلاد أشقائهم اللبنانيين، ونظام القمع والتجويع سعيد بالخلاص منهم، وهو – النظام البعثي – سيكون أسعد لو قتلتموهم كلهم، ليتاجر بدمائهم من جهة، وليتخلص منهم من جهة أخرى، فلا تكونوا عوناً للشيطان عليهم، لا تكونوا عوناً لجلاوزة النظام على هؤلاء البائسين.. ضموهم إليكم، فهم جميعاً يكرهون النظام الجاثم على صدور السوريين واللبنانيين معاً، ويتمنون زواله، ويدعون عليه ليل نهار: (اللهم دمر نظام البعث ودمر عليه.. اللهم دمرهم ودمر عليهم).. هكذا نسمع دعوات هؤلاء العمال السوريين حيث كانوا، في لبنان وغير لبنان..
إننا – أيها الأشقاء اللبنانيون – نرجوكم أن تفوتوا الفرصة على نظام القمع والقهر والغزو، الذي يريد زرع البغضاء والإحن بين شعبينا، ونخشى أن يرتكب أزلامه جرائم بحق أولئك العمال المظلومين، وينسب تلك الجرائم إلى الشعب اللبناني الشقيق الذي عشنا معه، ولنا فيه صداقات كما لنا في بلادنا.. لنا فيه أصدقاء أحباء، نحبهم ويحبوننا، ووقفوا إلى جانبنا، ودماؤنا مهدرة وإيواؤنا يكلف حياة من يؤوينا..
الله الله في إخوانكم العمال السوريين يا شعب لبنان المظلوم، ولن نزيد.