عاشق غرناطة
أحمد رمضان *
ليسَ اختيارَنا أن نكونَ هنا ..
هُم أوقدوا لنا شمعةً تمتدُّ ألفَ عام ..
غرناطةُ ليست تاريخنا الجميلَ فحسب ..
بل شاهدة على اهتزاز راية وأفولِ حضارة ..
خلفَ شمسِكَ أحدَ عشرَ كوكباً يحتمون بقامتك الشامخة ..
يرسمون غدهم أملاً وبسمة ..
حسِبوا أنَّ عاصفةً تكسِرك ..
حربٌ .. أولى .. فثانية .. فثالثة ..
قصفٌ .. فمحاولة اغتيال .. فأسر ..
واهمون حدّ الاهتراء .. إذ حسبوا أن تهدّج صوتك ضعفٌ ووَهن ..
سكارى حدَّ الثمالة .. إذ شربوا مِدادك المِهراق فحسبوه خمرةً لذة للشاربين ..
هُم كمموا فِيكَ بشمعٍ أحمر .. وقذفوا بنا إلى جزيرة أسموها "أرضَ الخلد" ..
سياجُها قيود .. وسماؤها سَوط .. وأرضُها لهيب ..
شربنا نخبها عقوداً .. وقلنا نريدُ أن نكونَ مثلكم ..
نقفُ إلى يمينِكم .. شمالِكم .. أمامَكُم .. وخلفَكُم ..
نريدُ أن نكونَ مثلَكم .. هل تقبلون ؟!
قالوا: كونوا معنا وليسَ مثلنا ..
ما الفرق ؟!.
أجل، كونوا معنا وليسَ مثلنا ..
تكونون حيثُ نكون .. تنطقون حينَ نريد .. تصمتون حينَ نريد ..
كونوا ظلَّنا وليسَ مثلنا ..
وكنّا عقوداً .. فعلنا ما ترغبون .. مقلدونَ ناجحون ..
فرحُنا في أيديهم .. غضبُنا في أيديهم .. أملُنا في أيديهم ..
حاضرُنا في أيديهم .. مستقبلُنا في أيديهم .. ووطنُنا في أيديهم ..
ثمَّ مللنا صمتنا .. كرِهنا ثوبنا .. وهجرنا وَهمنا ..
فقرّرنا أن نكونَ صوتَنا ..
قلنا: ليكن لنا صوتُنا ..
لا رهبة .. لا رجفة .. لا انكسار ..
تريدونَ رأيكم ؟! .. هو حاضرٌ .. ولكن لنا رأينا الحرُّ المبين ..
قالوا: أنتم تعبثون !
أرضكُم لنا .. وسماؤكم لنا .. وبحركُم لنا .. ونفطكُم لنا .. وكلَّ ما تملكون ..
فأينَ تهربون ؟!.
هو تحدٍّ إذن ؟!
دعونا ننطلق ..
*******************
هذا صوتُنا يولدُ من عَدَم .. فأينَ أصواتُكم المجلجلة ؟!.
لنا مِداد قلم .. ولكُم كلُّ قرقعةِ السلاح ..
فلماذا تقولون إنكم هُزمتم في منازلة العقول والقلوب؟!..
أيهزِمُ قلمٌ كل هذي الجيوش؟!..
إنّ قلماً غراسُه ألفَ سنة في الأرض وألفاً في السماء لا ينكسر ..
يموتُ الطغاةُ كلُّهم ولا ينكسرُ القلم ..
يفنى المستبدون كلُّهم ولا ينكسرُ القلم ..
يرحلُ الغزاةُ كلُّهم وينتصرُ القلم ..
أَفِلَت أزمنةٌ وانكفأت أخرى .. وتحررَ العقلُ والقلبُ والعاطفة ..
لِمَ لا نكون .. صفاً أول .. ولتنتهي عهودُ الزيفِ والهوان ؟!
إنه صوتُنا يولدُ ثانية وثالثة .. وينتشر ..
إنه شعارنا يزيّنُ شاشاتِهم ..
أحقاً نقولُ وتسمعون ؟! ..
أحقاً ننطقُ وترددون ؟! ..
*******************
إذن لنبدأ مرحلةً تالية ..
أوقفوهم حيثُ هُم ..
قصفاً ؟! .. لِيكن ..
اغتيالاً ؟! .. لِيكن ..
أسراً ؟! .. لِيكن ..
وكانَ عاشقُ غرناطة أولَ الضحايا .. مرَّ بأطوارها الثلاثة ..
عاصفةٌ تمرُّ ولا ننحني ..
ألهذا الحدِّ لا تركعون ؟! ..
يا سادتي ..
الوليد لم يعد كذلك ..
لقد شبَّ عن إساره .. وآنَ له أن يلِدَ ذاته في غير مكان ..
أن ينطق بكل لغاتِ الأرض ..
أن يمتزجَ بكل حضاراتها ..
آنَ له أن يكتُب لغة العصر .. حيثُ لا قيودَ ولا سجان ..
هل تفهمونَ لغتي ؟! ..
أنا الإنسان .. وأدعوكم لمنازلةٍ أخرى في أرضِ الحرية ..
لكُم حريتكم .. ولي حريتي ..
لكم قوتكم .. ولي حقي ..
لن أسلبَكم سَطوتكم .. ودعوا لي إنسانيتي ..
*******************
يا عاشق غرناطة ..
لكَ منّا السلام .. خلفَ قامتك المديدة تحتمي الكلمات ..
تفرشُ لها نسيجاً من طيبِ الأرض وعبقِ التاريخ ..
بعد قليلٍ يبزُغُ فجرنا ..
صحفيونَ ومثقفونَ ومفكرونَ من أجل الحقيقة .. ولا شيء سواها ..
مدريد، 31 كانون ثاني (يناير) 2005
ألقيت في ندوة "مخاطر قضاء الإرهاب على القانون والحريات (حالة تيسير علوني)"
* مدير عام ورئيس تحرير
وكالة "قدس برس" إنترناشيونال للأنباء