الرحلة إلى الذات

م . محمد عادل فارس

الرحلة إلى الذات

م . محمد عادل فارس

في تشخيص أحوال الأمة لا بد من الوقوف على الأسباب والعوامل الداخلية المؤثّرة في نهضتها وفي تقهقرها ، من أجل دراستها وبيان نسب تأثيرها وآلية عملها … وهو ما تضمنه قول الله عز وجل : ] قل : هو من عند أنفسكم [ آل عمران : 160 .

إن ما أصاب أمتنا من انكسار حضاري ، وتخلّف وتبعية ، وتراجع في فاعلية المسلم ، لم يكن بسبب عوامل خارجية بعيدة عن إرادتنا وذاتيتنا ، وذلك أن وراء كل ظاهرة خارجية عوامل داخلية  تهيئ لها ، وتمنحها القابلية للوجود ، وتُحدّد اتجاهاتها ، وترسم أُطُر تفاعلاتها ... وهذا ما حدا بمفكّرٍ مسلمٍ ، هو مالك بن نبي ، أن يصف حال المسلمين اليوم بـ " القابليّة للاستعمار " .

إن العامل الخارجي لا يكون ذا أثر ما لم يتمكن – من خلال الصراع مع العوامل الخارجية – من إزاحة أحد هذه العوامل عن موقعه ، أو أن يجد بعض هذه العوامل وقد تعطّل عن أداء دوره !

وهذا لا يجعلنا نغُضُّ الطرف عن أننا نعيش في عالم تنازع البقاء ! فكل مصنع نقيمه في أرضنا يراه الآخرون منافساً لمصنع عندهم ، وكل نبتة نزرعها ينظرون إليها على أنها خطوة على طريق التحرّر من هيمنتهم ، وكلُّ سلعة نكُفُّ عن شرائها من إنتاجهم ستوجد نوعاً من الانحباس في أسواقهم ...

وهذا ليس بعيداً عن أصل الصراع القديم العميق الذي أشار إليه كتاب الله تعالى : ] ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم [ البقرة : 120 . إنهم لن يرضَوا عن المسلم إلا أن يصبح جزءاً من رصيدهم ، أو تابعاً لملّتهم ، أو خادماً لهم ... فهم يتصيّدون أيّ موقفٍ له ليصفوه بالعدوانية والإرهاب … إلا أن يستسلم لبغيهم .

إننا لا نستطيع أن نقنع الأعداء بالكفّ عن أذانا ، كما لا نستطيع منع الثلوج من السقوط ، ولكننا نستطيع أن نُحصّن أنفسنا من كيدهم ، ومن سقوط الثلوج فوق رؤوسنا !

إن أرقى أنواع الوعي هو الوعي بالذات ، وإن أعظم أنواع الجهل هو الجهل بها .

ومن الوعي بالذات الوعي بالعقائد والتصوّرات والقيم والشرائع ... التي تؤمن بها وتختزنها … والوعي بما يموج به المحيط مما يتوافق أو يتضارب مع " الذات " .

والوعي بالذات ليس انغلاقاً عليها ، ولا تعبُّداً في محرابها ، ولكنه الإدراك الحسن لحدودها وشروط وجودها ، والظروف الأكثر ملاءمة للحفاظ عليها ، وترقية درجة عطائها ، فالرقم /7/ مثلاً غير ذي قيمة لو لم يكن جزءاً من نظام عددي ، فهو يستمدّ قيمته من الأرقام التي تسبقه والتي تلحقه .

وحتى نتمكن من وعي المرحلة التي نَعْبُرُها لا بد من معرفة المراحل التي يعبرها الآخرون ، وهذا يدفعنا إلى الانفتاح مع إدراكنا أهمية البحث عن الذات .

وإن غياب الوعي بالذات يوقع الأمة في محذورَيْن خطيرين :

الأول : تشرّب عناصر ترفضها ثقافة الأمة ، لاصطدامها مع بعض منظوماتها العقدية أو الشعورية أو التاريخية ، مما يؤدي إلى صراع بين ثقافة الأمة وهذا الوافد الجديد ، ويؤدي أيضاً إلى ضرب الموازنات العميقة للأمة ، والانحباس في تقدّمها .

الثاني : هو الجمود والعزلة عن تيارات الثقافة العالمية ، وهذا يجعل الثقافة المنعزلة هدفاً للاضمحلال والضمور .

فالمسلمون أصحاب رسالة وأهداف ، والمقدمات النظرية لثقافتهم تركت هوامش واسعة في ذاتية الأمة تسمح لها بالتفاعل مع الآخرين أخذاً وعطاءً ، فلم يبقَ بعد هذا وذاك أمامنا من سبيل سوى أن نرسم حدود ذاتنا موضّحين المركز والإطار في كل ما نأتي ونذر ، مُتذرّعين إلى ذلك بالاجتهاد الدائم على شتى الصُّعُد .

حينئذ نستطيع أن نسبح مع التيار وضدّه ، ونزداد مع ذلك قوة ومناعة ، دون أن نخشى من الغرق !.

والتفكير الموضوعي هو أول خطوة على طريق الوعي بالذات ، وعلى طريق إدراك جذور كثير من انحرافنا وأسبابه ومظاهره .

ولا نغالي إذا قلنا : إننا في معركة مع أطراف أخرى تريد أن تفرض ذواتها وتمحو ذاتنا . فهي تجعل من ثقافتها وقيمها ومواضعاتها مقياساً للحق والصواب ، وتحكم على ما يخالف ذلك بأنه الباطل الذي يجب إلغاؤه ، فإذا انصاع أصحابه وسلّموا بهذا الإلغاء فقد " اتّبع ملتهم " ورضوا به ذيلاً ذليلاً ، وإذا أبى إلا المحافظة على ذاته فهم يهدّدون بالقوة الغاشمة ، ويشيرون إلى " رأس الذئب المقطوع " .

وإذا كان الذين يستمدّون قيمهم من أهوائهم ، يحرصون هذا الحرص على فرض قيمهم هذه ، فما أحرى الذين يأوون إلى ركنٍ شديد ، ويستمدّون قيمهم وقُواهُم من لدن حكيم عليم ، قوي غني … أن يدركوا ذواتهم ، ويرفعوا رؤوسهم ، ويتمسكوا بالحق المبين !