مَن يزرع الدمَ لا يَجْنِ إلا الطوفان

محمد بسام يوسف

مَن يزرع الدمَ لا يَجْنِ إلا الطوفان

لعل أهم (بركات) انتفاضة الأقصى المباركة، أنها تحوّلت إلى ريحٍ خريفيةٍ عاتية، تتقن عملية (التعرية) بشكلٍ مذهل، فتتساقط بموجب هذه العملية الخريفية كل الأوراق دفعةً واحدةً .. لا سيما أوراق (التوت) السياسية، التي غيّبت وراءها مجموعاتٍ من المداوِرين البهلوانيّين، الذين يضحكون على الشعوب .. من أولئك الذين تمكّنوا ردحاً من الزمن، أن يحجبوا شمس الحقيقة بورقة (توت)!..

لعلّ أول ورقة (توتٍ) أسقطتها رياح الانتفاضة المباركة، هي تلك التي كانت تغطي زيف الدعاوى العِراض، بأنّ الجيش الصهيونيّ من أقوى جيوش العالم، فإذا به جيش من القتلة الجبناء الخائرين، الذين وصفهم الله عزّ وجل في محكم التنـزيل بقوله :

( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) (البقرة:96) .

واكتشف كل عربيٍ ومسلمٍ أنّ سقوط الورقة الأولى هذه، قد كشف أيضاً زيف الدعاية التي تبجّحت بها الأنظمة العربية، وأوهمت شعوبها بأنها غير قادرةٍ على مواجهة جيش الصهاينة الأسطوريّ!.. وهي ورقة التوت الثانية التي سقطت مع الورقة الأولى!..

وهاتان الورقتان جرّتا معهما ورقةً ثالثةً كانت تستر عورة الوهم، الذي صنعته النفوس المنهزمة، هو وَهْم نظريات (التوازن الاستراتيجيّ) المستحيل بزعمهم، الذي جرّ المنهزمون أمّتهم بموجبه إلى وهم (الخيار الاستراتيجيّ) الممكن!.. وعندما انزاحت ورقة التوت التي كانت تستر هذه الأوهام، اكتشفنا أن النفوس المنهزمة لم تفعل شيئاً لإغراقنا في المذلة والظلام والظلم .. سوى اقترافها لجريمة جَعْلِ الممكن مستحيلاً، والمستحيل ممكناً .. فأدخلتنا في نفقٍ مظلمٍ زاخرٍ بالمتاهات طوال عقودٍ من العذاب والضياع!..

لكنّ أوراق التوت الثلاث تلك، ليست وحدها التي سقطت!..

في مثل هذه الأيام منذ عامين (نيسان 2002م)، قاومت (جِنين) البطولة الجيشَ المدجّج بالجريمة، قاومت حتى الرصاصة الأخيرة!.. صمدت شامخةً تسعة أيامٍ متتاليةٍ بلياليها، كانت كافيةً لوصول أبعد الجيوش العربية والإسلامية إليها لنجدتها، ولدعم صمودها بعد أن حقّقت أسطورة (التوازن الاستراتيجيّ)، طوال تلك الأيام التسعة المشرقة، ولكن هيهات .. هيهات!..

جنين الشهيدة لم تستسلم، بل فضّلت الشهادة على الذل، والكرامة على الانبطاح الذي أتقنه غيرها من المناضلين التلفزيونيين، فكان رجالها من أنبل بني البشر وأعز بني الدنيا!..

ويتقدّم الزمان، وتتوالى قوافل الشهداء وبَذْل الدماء .. وتحتدم المواجهة بين الحق والباطل، ويقف الرجال .. الرجال، وقفة العز والشموخ أمام جبروت الظلم والعدو الواحد الصهيونيّ الأميركيّ، وتمضي مواكب الشهداء إلى أن يشاء الله، فالأرض التي لا تتشبّع بالدماء لن تتحرّر، والحرية لا تتحقق إلا بالتضحية والدم والجهاد والمقاومة!..

دماء الشهيد الرنتيسي رحمه الله .. ليست أول نهر الدم الذي يجري، ولن تكون آخره، فلابد لتيار النهر أن يكون غزيراً جارفاً، يجرف الظلم والاحتلال والباطل .. وها هم القادة الأفذاذ يعلّمون هذه الأمة، أنّ قيادة الجهاد والمقاومة لا تكون من وراء الميكروفونات، ولا من خلف الكاميرات التلفزيونية، ولا بالتصريحات الجوفاء وبيانات الاستنكار والتوسّل .. فالقيادة تبدأ وتنتهي في الميدان الحقيقيّ، حيث الرصاص والقتال والدبابات وطائرات الأباتشي والفانتوم .. والحرية لا تُحصَد إلا هنا فحسب: في ميدان المعارك الحقيقية .. وليس من قاعات مؤتمرات الزيف والاستخذاء والتسويف!..

القادة الحقيقيون يزرعون الأرض المحتلّة مقاومةً وجهاداً، والعدو المجرم الأميركيّ الصهيونيّ يهدر الدماء لأنه لا يتقن إلا سفك الدم، والدم الطاهر يروي الأرض المزروعة بالمقاومة، فتتفجّر تلك الأرض بمزيدٍ من المقاومة، شهيداً بعد شهيد، وجيلاً بعد جيل .. إلى أن تكتمل عناصر الطوفان، الذي سيجرف العدوّ المجرم المحتل بإذن الله، أليسَ هو الذي زرع الدم؟!.. فمَن غيره يمكن أن يجنيَ الطوفان؟!..

(وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات:173)

بقلم : الدكتور محمد بسام يوسف