حتمية خلاص... موت أو حياة...

د. سماح هدايا

د. سماح هدايا

 حتى الآن لم نعرف أنفسنا ولم نعرف عدوّنا...وإن لم ندرك مرتكزات الواقع الحالي ودعائمه، فسنظل في تيه معارك طاحنة. إنّ قراءة المستقبل بيقين الخراب والتشكيك الهدام، ليس إنصافا...كما ترسيخ يقين النصر من دون دراية وبصيرة وعمل، شكل عميق من الفوضى...

 قد تكون الفوضى مؤقتة، وغير عميقة وعابرة؛ ثم يأتي الفرج، على الرغم من كل هذه الفوضى عند منعطف خفي، فتسير الأقدام بهدى، وتمسك الأيدي بالبوصلة الجماعية الجمعية، لتسيير العمل والتنظيم والانضباط وفق منظور أمّة، لا بتخبط الفرقاء وعرج الارتجال والعشوائية والقطيعية. المعركة تحتاج جموعا وليس فقط أفرادا. التوحّد وجمع قدرات المختلفين والمتشابهين في سياق حرب تحرير شعبية نهضوية وضمن مفاهيم أولية مشتركة لها سمو القيم، هو القادر على حسم النهايات.

 لا مجال لليأس؛ فالحرب مادامت مستمرة؛ فهي لا تسير بشكل واحد ثابت. عواملها وأحوالها متغيّرة. والأمل موجود رغم الألم. وقد يشطّ بنا الأمل ليتحوّل إلى طموح جاد يرد على حالة الفوضى الشديدة المربكة، التي سدّت الآمال، لصناعة قادة مهرة، يأتون كالصاعقة، ويباغتون الأعداء الذين لم يتوقعوا مجيئهم، ولم يسهموا في تسويقهم أو في صناعتهم، فيخوضون المعارك الوطنيّة الناضجة ويصنعون نصرا كبيرا، وعلامة فارقة في معركة الثورة؛ تعويضا عن فقدان الثقة بالقيادات السياسية والعسكرية، الذي أثّر عميقا في إشاعة الفوضى وفي تحويل بندقية الاقتتال نحو الذات، وفي زعزعة اليقين بالنصر ومصداقية الثورة.

 القوى المضادة للثورة، راهنت، أنّه بالحصار والحرب الطويلة والتفقير والتجويع والتقسيم، يمكن صدع جبهة النضال وإحداث الانهيار...: بداية بانهيار الروح المعنوية وإسقاط الشرعية القيمية للثورة، فبانطفاء الحماس وخوران القوى، ثم بانكسار المقاومة...لذلك توسّعت صورة السلبيات والفضائح في مشهد الثورة، وحلّت المبالغة في تضخيم الفئوية والفردية بديلا عن الجمعية والروح التشاركية، علما بأن المعارك الكبرى والثورات تحتاج جموعا مؤمنة بيقين، مسترشدة بشرعية أخلاقية وقيادة، ليس فقط إيمانا بأفراد وفئات نخبويّة، فهي تحتاج التوحّد وجمع قدرات الجميع في سياق أمة، لا في فصائل وكتائب وفرقاء وأحزاب شتى مختلفة، لكل هدفها الخاص وغايتها ومجال تسلّطها...

 من أهم النقاط التي أضعفت الثورة هو الجهل بالذات وبالعدو. والخلط بين الصديق والعدو في مرحلة مؤقتة خطيرة عارمة بالفوضى. كذلك المقولات الراسخة التي اسست للهزائم؛ مثل مقولة أن الشعب السوري واحد، وقد اتضح أن الشعب سوري عدو بعضه، مقسّم مشرذم، غير موحد على قضية مشتركة... انعكست الصراعات الفئوية وصراع المكاسب والتناحرات بشكل مريع على كيان المعارضة السياسي المفترض به تمثيل الثورة والمعارضة والسياسية: فقام بتمثيل رؤوسه وصراعاتها وعقائدها، بدل تمثيل المشروع السياسي الثوري.

 إساءة فهم الحرب المضادة المتموضعة في حلف الأقليات مع رجال الأعمال وأصحاب المكاسب والنفوذ والسياسة أتى بمعارضة مزيفة بعيدة عن الفعل الإيجابي، لاعبة في زوايا جانبية لا علاقة لها بمشروع الثورة، أحكمت السلطة على تمثيل الثورة والمعارضة، كرؤوساء طغاة لدولة فاسدة خفية موازية لدولة الاستبداد، وحاربت الثورة عن عمد، ومن دون قصد، حفاظا على تشكيلاتها ونفوذها ودويلتها الموعودة بها.

 العمل على انهيار القوى المعنويّة كان نقطة الارتكاس في الثورة السورية وقد استخدمته الحرب المضادة للثورات في كل مكان.. وكان تسويق الانهيار عملية في غاية الأهمية والخطورة، اعتمادا على التضليل الإعلامي وفشل العمل الميداني: العسكري والإغاثي والمدني، بدعم من عوامل محليّة توازت مع التفاهمات السياسية الإقليمية والعالمية. وأعقبه تخويف الثورة والناس بالإرهاب الديني، وبداعش التي أُتخمت كأسطورة إرهابية لا يمكن قهرها، ليصب في الهدف نفسه.

 كاد ذلك أن يصيب الثورة وحواضنها بعطب نفسي وبانهيار حقيقي نافذ.. وأصبح تحديا صعبا للثورة ولفصائلها المناضلة والعاملين على دعمها، تحت رعونة الحصار والضغط الإعلامي لمختلف وسائل الإعلام، المترافق ونضوب العتاد العسكري والتأييد السياسي مع تراجع وطنيّة الخطاب السياسي ومصداقيته. فأخفقت الثورة في الحؤول دون حدوث بعض العواقب الوخيمة لحالة الانهيار، على الرغم من بذل الجهود الكبيرة للكثيرين من العاقلين الناضجين الذين يقودون المعارك ويتصدون للدفاع عن الثورة؛ لأنّ الرحى كانت تعمل بقوة شديدة على تكسير المقاومة؛ فقد لعب التمويل المربوط بالأجندة الاستعمارية دوره في الدفع نحو حافة الانهيار؛ فجرى استغلال الموضوع المالي لإضعاف مجموعات من الناس؛ وتقسّمت بسببه القلوب والضمائر وتضاربت المواقف، وصار قلب بعض الناشطين الضعفاء ملوثا بالمنفعة والولاء والمصلحة.. وتآمر بعضهم على غيره وخان. ولم يصمد في المعركة سوى المخلصين والأوفياء. وكان لاستنزاف موارد الناس؛ التي فقدت بيوتها ورزقها وعملها وتبخّرت معاشاتها مع ارتفاع الأسعار والحصار، دوره في استغلال النفوس غير المحصنة، ومن ثم الوقوع ضحية الإغراء بالمال. فالحروب الطويلة تنهك المقاتلين المحاصرين. نضوب المعين المالي وانقطاع الرواتب عن الناشطين والمقاتلين والمعارضين، جعل قوى الضعفاء تخور وتتهاوى، وراحوا يتقاعسون عن الدخول في قلب المعارك، أو يدخلون لمكسب ، وليس بعزيمة صافية الإيمان والمبدأ والوطن، فتباطأت عملية النمو القتالي الأخلاقي المنظّم...

عقدة النقص والدنو تقهر الجبابرة..، وقد عملت محركا لكبح نمو الثورة. وللأسف كان واضحا أنه عند إحراز الثوار لأي نصر حقيقي يبدأ الإعلام والجيوش المضادة وقطيع الغوغائين والمأجورين، التشكيك بالانتصارات ومغزاها وقيمتها وجدواها، لتحطيم القوة الذاتية للمناضلين وشل عزيمتهم وقلب الصورة ضدهم. وجاءت تشكيلات العسكرة والمعارضة مسبوقة الصنع بما يلائم مصالح القائمين على التمويل والمتنفذين بالقرارات الدولية فوقية متعالية سلطوية، حاولت إنكار القوة الشعبية وتقزيم أي قيادة واحتكار القرار وتسويقه.

 لم يعد يكفي توصيف آفات المعارضة بضآلة البصيرة وقصور التفكير السباق وضعف الاستشفاف وتقص الرؤية، والعمالة. لابد من تخطى الإنشاء وحدود القول المعتاد والمألوف وغير المنهجي، إلى أعمال جادة لإفساد مخططاتهم ..لكي تتضح الرؤية وتتقدم الإرادة الجماهيرية نحو الفعل وفق طموحاتها التي تبذل لها الدماء. إقصاء المعارضة التقليدية ضروري؛ فأزلامها شكل آخر من الطغاة والباغين. هؤلاء يجب حصارهم وإسقاطهم لكيلا تتسع ساحة المخاطر والمكائد ويمتد الخراب.

 الفاسدون في كل الثورات يتخبطّون ويتقاتلون ويهيمنون على مساحة الثورات ويستولون على احتفالات النصر؛ لكنّ وجودهم مؤقت، مجرد فصل من فصول المعركة. فالأرض أصلب تحت أقدام الذين يتّصفون بالنبالة والبسالة والحكمة السياسية والوفاء الوطني، ولا يسقطون المبادىء والمثل العليا والعقائد السامية القابلة للحياة والسائرة، وفق نظام مكين من نظام أعمالهم وحربهم.

التنازع مستمر بين إحباط يؤسس لإخفاق، وبين ألم يمسك على الزناد محمّلا بالعزيمة والأمل ...الفوز ونجاح الثورة السورية أو فشلها ...ليس مجرد نجاح طرف نزاع، وهزيمة طرف آخر. ..فهي ليست مطمعا ضيقا، ولا رغبة فصيل أو فرقاء.. هي مسألة حياة أو موت.. حتمية خلاص. وتبقى النتيجة مرهونة بالعمل الجاد لمحاربة الانهيار وتعزيز العزيمة والإيمان. وهو مسؤولية جمعية.

 مسؤولية حماية أنفسنا من الهزائم تقع على عاتقنا. عندما نحصن أنفسنا ولا نعطي الآخر فرصة لهزيمتنا وسحقنا باستغلال نقاط ضعفنا وفشلنا.. بل نعمل ضمن مطالبنا المشروعة للقيام من مطباتنا، وقنص فرصة النصر.

الشعوب الثائرة العاملة بيقين وجديّة، ستقهر الحصار المكين وستنتصر على الطغيان...لكنّ الثمن فادح ..دماء الشعب الذي اكتمل وعيه وتبلورت تجاربه هي التي تقرع شمس الحرية، وباحتراقها القدسي توقظ نهارات الأمة.