الأدب السياسيّ

odaba

الأدب السياسيّ

يحسب بعض الناس أن الأدب السياسيّ، من أدب الوقت.. أدب آنيّ، يموت بانقضاء الحقبة التي يتحدث عنها، أو بموت المشكلة موضوع هذا الأدب.

ولو كان الأمر كذلك، لما قرأنا هذا الكمّ الهائل من الأدب السياسيّ لعرب وأجانب، وفي أحقاب مختلفة.. ولما أحسسنا بكلّ هذه المتعة ونحن نقرأ الآن شعر الشاعر السياسيّ الأول في العربية، المبدع أحمد مطر.

قرأ الناس لنجيب محفوظ، وعبد الرحمن منيف، ونزار قباني، وبدوي الجبل، وحميدة قطب، وأمينة قطب، ومحمد الحسناوي، والحمامصي، وحسن عشماوي، والزبيري، وشريف الراس، والماغوط، وونوس، وسواهم، وكان من أجمل ما كتبوه، هو أدبهم السياسيّ الذي قرأه الناس، وتفاعلوا معه، وما زالوا يتفاعلون، وسيبقون، لأنه أدب حيّ يعبّر عن معاناة الإنسان المسحوق، ويؤرّخ -فنياً- لحقبة مهمّة في تاريخ الشعوب المغلوبة على أمرها.

ومن هذا القبيل كان حرص الناس على قراءة المذكّرات السياسيّة والعسكريّة. وعندما ظهرت كتب (أيام من حياتي) لزينب الغزالي، و(في القاع) لخالد فاضل، و(حمامات الدم في سجن تدمر) لعبد الله الناجي، و(خمس دقائق فقط) للسيدة هبة الدباغ، و(تدمر.. شاهد ومشهود) لسليم حمّاد، وسواها، تلقّفها الناس، ونفدت نسخها من الأسواق، وتمنّى الناس المزيد من هذه الكتابات المهمّة، في هذا العصر المليء بالمآسي الإنسانية.. بشلالات من الدماء والدموع.. بسحق الإنسان وكرامته تحت بساطير الانقلابيين.. حتى تشكّلت مدارس للنفاق، يرتع فيها مشايخ ومثقفون وصحفيّون وكتّاب وشعراء، وتشكّلت مدارس للذّعر والخوف، وصار بعض الكلمات تخلع القلب، وتزيغ البصر بعد أن ارتبطت تلك الكلمات بالأجهزة القمعية، وما فيها من ملاحقة، ومطاردة، واعتقال، وسجن، وتعذيب، وحتى صار خرّيجو هذه المدرسة من حزب (يصطفلوا) ، وأعضاؤه -كسائر أبناء الشعب- يلهثون وراء لقمة العيش.. يُمضون الساعات يومياً من أجل الحصول على بضعة أرغفة، وشيء من السُّكّر والرّز، والزيت النباتيّ الرديء، وسواها من المواد التموينية التي كانت مبذولة قبل قدوم حكم الانقلابيين الذين ألمّوا بالوطن، وفرّطوا بأرضه، وبأمن شعبه، وأذلّوا كرامات الناس، وروّعوا الآمنين، ودمّروا عليهم بيوتهم، وأحياءهم، ومدنهم..

الأدب السياسيّ -إذن- ضرورة، وليس شيئاً كمالياً يمكن الاستغناء عنه، وهو التاريخ الحقيقي للأمّة، والشعب، والوطن، والقيم، وليس ما يكتبه المؤرخون الذين يستمدّون مادتهم من الوثائق الرسمية، بما فيها من كذب، وتزوير وتضليل يجعل الشياطين في مصافّ الملائكة، والخونة أبطالاً، واللصوص أمناء، كفعل مدرسة النفاق في هذا الزمان.

وما كتبه ويكتبه الأدباء الأحرار صدىً لما جرى ويجري، وفيه رصدٌ صادق وأمين لواقع معيش، في حقبة سوداء، عاشها أبناء شعبنا لحظة بلحظة، وعانوا منها ما لم يعانوه أيام الاستعمار، وأيام الحرب العالمية الثانية، وقد سمعنا شهادة من عايش تلك الأيام وعاش فيها، وذاق أهوالها، ثم عاش في حقبة الأنظمة الشمولية، و (فاضلَ) بين الحقبتين، وقايس بينهما، فوجد الأولى أخفّ وطأة، وأقلّ كوارث ومظالم.. أما نحن الذين أصابهم ما أصابهم في هذه العهود المظلمة، وتحت (رحمة) الجبت والطاغوت، فنلعن الاستعمار والطغيان معاً، وندعو أصحاب الأقلام النظيفة، والعقول التي لم يلحقها التخريب، وأصحاب العواطف المتزنة، أن يكتبوا مشاهداتهم، وما حصل معهم، أو مع ذويهم، أو مع جيرانهم وأبناء قراهم ومدنهم.. فشهاداتهم مهمّة.. مهمّة.. ولن تهتمّ الأجيال القادمة بسفاهة السُّفهاء، ولا بنفاق المنافقين والمأجورين، فشهادات هؤلاء مزوّرة، غير مقبولة، وسوف يُحاسبون عليها في الدنيا والآخرة، ولن يتسامح معهم أحد، مهما كانت أعذارهم.. وكتابة كل حر عمّا شاهد وسمع، شهادة من مجموع شهادات، نلحّ عليه في كتابتها، بأسلوبه الساخر، وبقلمه النظيف الذي يقف مع أهله في وطنه المنكوب، ومع أرضه وقيمه.. وإننا لمنتظرون.

عبد الله الطنطاوي