معركة غزة

عبد الستار قاسم

عبد الستار قاسم

جحيم ينهمر على غزة، وسيستمر. ضحايا كثيرة ستسقط، والتضحيات الفلسطينية الجسام مطلوبة، وهي متوفرة بإرادة واعية وعقيدة صلبة. إسرائيل لا تبحث عن مجرد ليّ ذراع، وإنما تريد تدمير حماس تماما، وكل المقاومة الفلسطينية في القطاع. إسرائيل لا تبحث عن وقف إطلاق الصواريخ، وإنما تهدف إلى قلب الأوضاع في غزة لكي تعود غزة إلى بيت الطاعة المتمثل في المشروع الإسرائيلي الأمريكي لتصفية القضية الفلسطينية. لكن ماذا بيد إسرائيل أن تفعل؟ أرى التالي:

أولا: من الناحية العسكرية، لدى إسرائيل الخيارات التالية:

1- استعمال الطيران بكثافة، وهذا ما تقوم به الآن. سينجح الطيران بضرب أهداف كثيرة عسكرية ومدنية، وسيوقع الكثير من الضحايا، وهذا ما حصل حتى الآن. لكن الطيران مقيد بأمرين وهما: ا- المعلومات المتوفرة لدى أجهزة المخابرات حول المواقع ذات الأهمية الأمنية والعسكرية؛ ب- أن الطيران لا يحسم المعركة على الأرض. بالنسبة للنقطة الأولى، واضح أن إسرائيل تعاني من نقص في المعلومات من حيث أن الخسائر في صفوف المقاومين الفلسطينيين قليلة مقارنة بالخسائر التي تكبدتها أجهزة الشرطة والمدنيون. وبالنسبة للنقطة الثانية، يتوضح لإسرائيل الآن أن كثافة القصف الجوي لم تفلح في دفع المقاومة الفلسطينية نحو الاستسلام.

 2- تتمثل الخطوة العسكرية الثانية في اجتياحات برية هامشية على أطراف المدن. هذه الاجتياحات أيضا لا تحقق هدف تغيير الوضع القائم في غزة، وسبق لها أن فشلت على الرغم من الخسائر الكبيرة التي أوقعتها في النفوس والممتلكات. من المحتمل أن تستعمل إسرائيل هذا التكتيك من أجل أن تستكشف قدرة المقاومة القتالية والتسليحية. إسرائيل تتخوف من أسلحة فتاكة قد تكون موجودة بيد المقاومة، وهي لا ترغب في تكرار فشل حرب عام 2006 ضد حزب الله. وفي كل الأحوال، اجتياحات من هذا القبيل لا تجدي نفعا إلا إيقاع خسائر كبيرة في الجانب الفلسطيني.

 3-   أما الخيار الثالث فيتمثل بالاجتياح البري الشامل. لهذا الخيار محاذيره الكثيرة وهي:

 أ‌-  القدرة العسكرية التكتيكية لأي جيش نظامي في قطاع غزة ضعيفة وذلك بسبب الازدحام السكني والسكاني، بينما القدرة التكتيكية للمقاومة عالية. الازدحام السكاني يعرقل حركة الجيش النظامي، بينما يساعد المقاوم على الكر والفر. هذا يعني أن خسائر الجيش الإسرائيلية ستكون مرتفعة، بينما الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين ستكون عالية. الخسائر في صفوف الجيش ستجلب استياء عاما لدى اليهود في فلسطين المحتلة/48، وستجلب الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين سطوة الإعلام العالمي بسبب التقارير الإعلامية التي ستملأ الشاشات حول أشلاء الأطفال ونحيب النساء. إسرائيل لا تريد هذه النتيجة، ولا تريد تلك.

ب‌-إسرائيل لا تأمن ماذا بحوزة المقاومة من أسلحة. ماذا لو تبين أن لدى المقاومة أسلحة تفتك بالدبابات؟ وماذا لو تبين أن المقاومة مخندقة جيدا، ولا تستطيع معها إسرائيل أن تخرج من الشرك؟ إذا كانت المقاومة الفلسطينية مخندقة (وهي مخندقة بالفعل) وتملك أسلحةة مضادة للدبابات، فإنه من المتوقع أن تكون خسائر إسرائيل كبيرة، ومن المتوقع أن يقع جنود إسرائيليون أسرى.وقوع أسرى سيقلب الطاولة على رأس إسرائيل ورؤوس أنظمة الإعوجاج العربي.

ت‌- اجتياح قطاع غزة لا يضمن لإسرائيل هدوء القطاع على الرغم من أنه من الممكن السيطرة على مسألة إطلاق الصواريخ. بقيت إسرائيل في قطاع غزة حوالي 39 عاما، ولم تستطع القضاء على المقاومة، فهل ستستطيع القضاء عليها خلال عدة أشهر من الاحتلال؟ إسرائيل تعي تماما أن المقاومة الفلسطينية ليست مجرد عدد محدود من الأفراد، وهي مقاومة ممتدة في العمق السكاني.

ث‌- وفيما إذا حصل الاجتياح وسقطت غزة، لمن ستسلم إسرائيل القطاع، وهل سيستطيع المستلم الجديد السيطرة على الأوضاع؟

ج‌- إسرائيل تحسب أيضا الأضرار التي يمكن أن تنعكس على أنظمة الإعوجاج العربي والتي تسميها هي بأنظمة الاعتدال. تلقت هذه الأنظمة حتى الآن من الشتائم والسباب على طول الوطن العربي وعرضه ما يكفيها لعدة سنوات، فكيف يمكن أن تتطور المظاهرات العربية والاحتجاجات إذا حصل الاجتياح البري وبدأ سقوط المدنيين بكثافة مرعبة؟ إسرائيل حريصة على هذه الأنظمة العربية، وتعي تماما أن بقاء هذه الأنظمة يخدم مصالحها التكتيكية والاستراتيجية. لا شك بأن هذه الأنظمة تتصل بإسرائيل باستمرار وتطلب منها السرعة في إنجاز المهمة مع ضرورة التقليل من الخسائر في صفوف الفلسطينيين، وتؤكد لها ضرورة تجنب وضعها في المزيد من المواقف غير المشرفة.

 في النهاية أقول إن الخيار العسكري عبارة عن مغامرة، ولا يوجد ما يجعل إسرائيل متأكة من الانتصار، وتغيير الأوضاع في القطاع وفق هواها. وواضح الآن أن قادة إسرائيل العسكريين والسياسيين منكبون على تقييم الأوضاع الميدانية، وهم متحسبون جدا من كل خطوة يقومون بها.

 ثانيا: على المستوى الشعبي

تظن إسرائيل ومعها أنظمة عربية عدة أن القصف والقتل سيثوّر الشارع في قطاع غزة ضد حركة حماس، وسيتحرك من أجل إسقاطها. هذا كان هدف الحصار المستمر منذ حوالي ثمانية عشر شهرا. ظنت إسرائيل ومن معها من الأنظمة أن حماس ستسقط خلال فترة تمتد إلى ثلاثة أشهر على أبعد تقدير، لكن الأشهر مرت وحماس بقيت. ربما تطور الظن الآن إلى أن الناس سيتحركون تحت وطأة الخسائر الهائلة.

مما لاحظت في الآونة الأخيرة، أستبعد أن يهب الناس في وجه حماس بسبب قاعدتها الشعبية الواسعة والمرتكزة على بعد عقائدي. صحيح أن هناك أناسلا مناهضين لحماس، ويكرهونها بشدة، ومنهم من يشعر بالارتياح للقصف الإسرائيلي، لكنني لا أرى أن لديهم قدرة على تحريك الشارع الغزي ضد حماس، ولا أرى أن لديهم قدرة على مواجهة مؤيدي حماس إن خرجوا إلى الشارع محتجين.

الشارع العربي يشكل دعما قويا لحماس ولو بطريقة غير مباشرة. الشارع العربي يتظاهر الآن في دعم أهل غزة ومقاومة غزة، وبما أن حماس هي التي تشرف على القطاع، فإنها بصورة أو بأخرى تحقق الفائدة الكبيرة من الاحتجاجات العربية، وتجعل من إشرافها على القطاع أكثر قوة وأكثر قبولا. حركة الشارع العربي تشكل رادعا لإسرائيل لأنها حركة تهدد الأنظمة العربية، أو على الأقل تضعها في موااقف محرجة، وربما تجد إسرائيل نفسها تحت ضغط هذه الأنظمة للتخفيف من حملتها العسكرية أو لوقفها تماما.

 من الناحية الأخرى، ماذا عن المقاومة؟ أرى التالي:

 أولا: واضح أن الناس متماسكون في قطاع غزة على الرغم من الخسائر الهائلة التي يتكبدونها. يبدو الشارع الفلسطيني متكاتفا متضامنا، ومستعدا لامتصاص الصدمات والضربات. يبدو أن الناس في غزة قد تخلوا كثيرا عن الأنا، وهم بتعاملون على مستوى نحن بحيث تمتد أيدي المساعدة بصورة متبادلة.

 ثانيا: هناك مؤشرات على أن استعداد المقاومة الفلسطينية في غزة جيد، أذكر منها:

أ‌-     استطاعت قناة الأقصى الفضائية الاستمرار في البث على الرغم من أن مبناها الرئيسي قد دمر.

ب‌- العالبية الساحقة من الشهداء من أفراد الشرطة والمدنيين، بينما الخسائر في صفوف المقاومين المحترفين قليلة جدا. هذا يدل على الاستعداد الكامن لدى المقاومة.

ت‌- لا يلاحظ المراقب ظهورا عسكريا استعراضيا في شوارع غزة، وهذا سلوك جديد في تاريخ المقاومة الفلسطينية.

ث‌- الكلام الكبير الاعتباطي حول قدرات المقاومة غير موجود، وهذا يشير إلى عمل صامت قد يخفي مفاجآت كبيرة.

ماذا عن السلطة الفلسطينية؟

تقديري أن السلطة الفلسطينية هي أكبر الخاسرين في هذه المعركة. إن تغير الواقع في غزة واستلمت السلطة الفلسطينية المسؤولية فإنها ستبقى في دائرة الاتهام الشديد لأنها اعتمدت على الاحتلال في إعادتها إلى غزة. وهي لن تكون أفضل حالا إن بقيت المقاومة صامدة على اعتبار أن أسهم المقاومة ستنال منها بعد استقرار الأحوال؛ فضلا عن أسهم الناس.

النتائج

إلى ماذا ستؤول الأمور؟ أرى التالي:

المقاومة الفلسطينية ستصمد، وستظهر شراسة قتالية منقطعة النظير على الرغم من شحّ السلاح وتفوق العدو العسكري. كلما طال صمود المقاومة يتزايد الدعم لها على المستويات الشعبية، وربما على بعض المستويات الرسمية العربية. لاحظنا في اجتياحات سابقة أن المقاومين الفلسطينيين لا يتركون مواقعهم، وهذا أشد ما يخيف إسرائيل. الروح القتالية لدى المقاومة عالية جدا، وسنجد فلسطينيين يفجرون أنفسهم بالدبابات الصهيونية.

تدرك المقاومة الفلسطينية أن هذه المعركة على أرض غزة هي معركة تاريخية فاصلة، والقضية الفلسطينية لا تحتمل هزيمة أو تراجعا، وإلا فإن الفلسطينيين سيفقدون دورهم الريادي في تحرير وطنهم.

إسرائيل لا تحتمل حربا طويلة بسبب وضع الأنظمة العربية الهش، وهي تدرك أن أنظمة الإعوجاج العربي عبارة عن عبء كبير على كاهلها الآن، وأنها لا تستطيع الاستمرار في القتال الدامي إن طال أمد الصمود. الأنظمة العربية أشد رغبة في إنهاء المعارك من إسرائيل، لكنها ليست هي التي تقاتل على الأرض.

صمود المقاومة الفلسطينية هو النصر بحد ذاته، وإذا تحقق فإن أوضاعا فلسطينية ستتغير، كما أن تعامل دول عربية كثيرة مع المقاومة الفلسطينية سيتغير .

              

لن يمروا ... ولن تستمروا ..

كتاب مفتوح إلى الرئيس محمد حسني مبارك

أحمد معاذ الخطيب الحسني

خطيب جامع بني أمية الكبير سابقاً

الرئيس محمد حسني مبارك رئيس جمهورية مصر العربية :

سلام الله عليك متبعاً للهدى ، سديد الرأي ، حريصاً على أمتك ، وبعد : فإن موقعكم الخطير يوجب مواجهتكم ببعض الحقائق المؤلمة ، حرصاً على الأمة أولاً وأخيراً ثم عليكم.

قد تكون بعض الأمور شديدة التعقيد والاستعصاء على الأرض العملية ، ولكنها في الخلاصة تعود إلى مفردات في غاية البساطة ، وأعتقد أنها غائبة عنكم.

إنني لم أنتم في حياتي إلى أي تيار سياسي ، والتيار الوحيد الذي أنتسبت إليه هو جمعية التمدن الإسلامي [والتي شرفت برئاستها سنوات عديدة] ، وهذا التيار كان قد عبر عن رأيه في القضية الفلسطينية منذ أكثر من ستين عاماً من خلال كتاب وجهه إلى اللجنة العربية العليا في فلسطين عام 1948: "وملخص هذا الرأي أن تستثمر فلسطين استثماراً جماعياً .... كما تستثمر الشركات المساهمة .... إن استثمار الفلاح العربي لأرضه منفرداً لا يتفق وروح الزمن الحاضر، وخاصة في فلسطين التي أصبحت فيها الصهيونية تدير مستعمراتها بطريقة مشتركة، إن الاستثمار المشترك يساعد على التقدم السريع والاستفادة من المخترعات الحديثة .... يقولون إن اليهود أغنياء وعلماء! وأنا أقول كلا! وإنما أصبحوا أغنياء باتحادهم! وأصبحوا علماء بمعرفتهم كيف يستفيدون من العلماء! فهل هناك مانع يمنع من أن نحذو حذوهم في استثمارهم المشترك!

أيها العرب! أيها المسلمون في أطراف الأرض إذا كنتم تحبون فلسطين فجودوا عليها بالمال ، فليس كالمال المنظم من منقذ لها مبدئياً"[1]. وذكر أحد قادة الجمعية مايلي :"إنني أحب أن ابتعد قليلاً عن آفاق الشعورالعربي القائل: لنا الصدر دون العالمين أو القبر، فأريكم ميداناً من ميادين العمل فأحدثكم بالشعور المادي، والتنظيم الاقتصادي ... إنكم لو نظرتم إلى فلسطين باعتبارها تربة ومزرعة، وأنشأتم الشركات التي تحب المال، تحب الربح، إذاً لا ستملكتم أراضي فلسطين بشركات تعاونية أو مساهمة، تبذرون أسهمها في جميع الأقطار العربية إن لم تحتاجوا ما وراءها من ديار النصرة ... لقد كانت عواطفنا غالبة ومساعينا هزيلة ... وإن ماصارت إليه قضيتنا في فلسطين هو ثمن هذا الموقف الهزيل، فاعرفوا قيمة الأعمال بنتائجها، ولا تؤخذوا بأوهام مخادعة ..."[2].

لقد كان لتيارنا نظر بعيد سابق لوقته ، ونحن اليوم نفهم تماماً أن هناك أوضاعاً دولية وضغوطاً ، وحسابات وقوى إقليمية وعالمية ، وظروفاً اقتصادية وسياسية واجتماعية ، ومطامع من جهات عديدة .. ونتفهم تماماً أيها الرئيس أن الظروف لم تعد تسمح بتلك الحروب الحماسية ، التي هي أقرب للتمثيليات [في رأيكم] ، والتي تقرر قوى كبرى مصائرها.

كما أنه لا يستطيع أحد أن ينكر دور مصر العظيمة ملجأ الأمة بعد الله في كل عصر ، ومنبع التحرير من الغزاة ، ونقدر حرصكم على المصلحة العامة [ضمن منظوركم] ، ولكنني أحب أن أنقل لكم وجهة نظر أتبناها ومعي الكثيرون ، وأرى أن نبض معظم الأمة يجري من خلالها. وبعض الكلمات التي ستقرؤونها هي في صالحكم وليست ضدكم ، ومن خوَّفكَ حتى بلغ بك الأمان خير ممن أمنك حتى بلغ بك الخوف.

أيها الرئيس المحترم : رغم خبرتكم التاريخية التي لا تنكر إلا أنكم شخصياً ومعكم القادة العرب قد أصبحتم وراء التاريخ في فهم شعوبكم.

إنني أريد أن أسألك : لماذا يحق لكل أمة في الأرض أن تحدد مصيرها إلا العرب والمسلمون! ، ولماذا يتاح لأي كيان أن يعكس إرادة شعبه ، إلا الشعوب العربية والإسلامية فعليها أن تعيش تحت هيمنة القوى الدولية ، وهي التي تقرر لها! ، لماذا تخدم حكومات الأرض مصالح شعوبها ، ووحدها الأمة العربية والإسلامية يحكمها فراعين وطغاة ، ينكلون بها ويفتحون السجون لأحرارها ، ويخنقون كل صوت نظيف فيها.

لماذا يسعى حكام كل كيان في الأرض إلى بسط نفوذه في كل اتجاه ، ووحدهم العرب ينكل بهم حكامهم ، ويقلصون نفوذهم ، ويدمرون مرجعيتهم ، ويبقون [إسرائيل ، وفقط إسرائيل] تتحكم بمصائر كل دول المنطقة! وتقرر هي ما الذي ينبغي أن يصير.

لماذا تختار أغلب شعوب الأرض حكامها ، ووحدهم العرب والمسلمون ، تفرض القوى الدولية عليهم حكامهم [مئات الدراسات والتقارير الغربية تذكر أن النظام في مصر نظام استبدادي وفاسد ، ولكن لا تسمح القوى الغربية بتغييره ، لأن البديل هم الإسلاميون ، وهو شيء لا يمكن مجرد التفكير به].  

من الناحية الشرعية فإنني أعتقد بحرمة امتلاك أو استخدام الأسلحة النووية ، ولكن لماذا نسيت الأنظمة العربية قصف [إسرائيل] للمفاعل النووي العراقي ثم مهاجمة منشأة سورية ، ولم تتسابق يوماً إلى منع [إسرائيل] من امتلاك السلاح النووي وهي مقدمة هيمنة مخيفة للغرب ، بينما هي تتوجس من امتلاك دولة إقليمية إسلامية له مما لا يؤذي أحداً ، ولكنه يمكن أن يشل يد الهيمنة العالمية على المنطقة بأسرها.

أيها الرئيس: لقد فرض التواصل الإعلامي العالمي أسئلة محرجة فصار حتى الأطفال يريدون جواباً من الحكام العرب : مادام حمل السلاح لم يعد مناسباً ، وأجواء السلام ينبغي أن تكون السائدة ، وقضية الصراع العسكري قد انتهت ، فما هو البديل؟ ماذا بنيتم لشعوبكم؟ ماذا أعددتم لها كمستقبل وحضارة ودور على صعيد العالم؟

سياسة الغرب لا تعتبرنا [حكاماً وشعوباً] من البشر أصلاً ، وتتصرف من خلال نزعة استعلاء واحتقار ، معتبرة نفسها مركز العالم  ووحيه المطلق.

فكيف هو التعامل مع ذلك؟ هل هو فكر صدامي نرفضه شرعاً وعقلاً ، مميزين بين الأنظمة الظالمة والشعوب البريئة ، أم هو مزيد من التنازلات وعري حضاري غير مسبوق!

إن الحكام العرب أيها الرئيس لم يبنوا دولاً ولا أمماً ولا حضارات ، بل بنوا مزارع ومداجن وسجوناً بعقليتهم البدائية والعائلية والعشائرية والقبلية ، وكل فرعون كبير يريد أن يرحل يوصي لفرعون صغير قادم بعده! فهل هذه هي الإنجازات!

إن الحكام العرب لم يؤسسوا لمجتمعات آمنة ومنظمة ، متوازنة ومنضبطة بالقانون ، بل استباحوا هم كل قانون وجعلوا العرب أضحوكة العالم.

إن الحكام العرب لم ينجزوا شيئاً بل جعلوا أممهم متسولة على موائد أمم الأرض ، ولم تتقدم بهم أممهم بل تنكفئ كل يوم على أيديهم أعواماً إلى الوراء.

لسنا فكراً ولا شعوباً بدائية ،  بل نحن ورثة عشرة آلاف سنة من الحضارة الإنسانية ، وانتماؤنا الأول للإسلام.

نعم نحن مسلمون لا على مقياس شيوعي ولا رأسمالي ولا أميركي ولا أوربي ، مسلمون لا ندجن ولا نعلب مهما سفكت دماؤنا التي ستكتب كل قطرة منها على الأرض : إسلام .. إسلام .. إسلام  ..

لماذا تخوفون الشعوب من الإسلام ، وتتذرعون بأن الفكر المتطرف سوف يسود مع أن هذا الفكر المتطرف إنما زرعته الأنظمة السياسية التي كانت أقمأ من أن تستوعب طموحات الشعوب ، فقهرت الناس وفتحت السجون ، وامتصت دماء الناس وأموالهم وانتهكت كرامتهم وإنسانيتهم ، وفرضت على الأمة فرضاً مرجعيات دينية هزيلة لا يعترف بها أحد ، وقفزت فوق آلام الأمة وعقيدتها وانتمائها وهويتها ، ظانة أن القفز فوق الحبال ، والتلاعب بالناس سيعطيها الشرعية [التي لن تجدها أبداً ولو بقيت فوق رؤوس الأمة ألف عام].

متى كان الناس في مصر يتحدثون عن طائفية بغيضة بين المسلم وأخيه القبطي ، ومتى كانوا يتذابحون لأن أحدهم سني وآخر شيعي في العراق ، ومتى كانوا يحتقنون لأن أحدهم عربي وآخر بربري في المغرب!

لقد كان هناك إسلام سمح [لم يبنه أي نظام عربي] ، وكانت هناك قومية راشدة [لم يساهم بها أي زعيم عربي] ، وكان هناك ألفة ومحبة وعيش حقيقي مشترك بين كل الناس ، مؤمنهم وكافرهم وصالحهم وفاسدهم ، وكانت هناك ثوابت يحترمها الجميع اقتربوا منها أم ابتعدوا.

ثم أتت الأنظمة تلعب على شعوبها ، وتنكأ بعض جراح التاريخ ، وتؤدي بطيشها إلى إصلاح جزء وتخريب ألف جزء ، فأنبتت هي لا غيرها فكراً أعرج أعوج متطرفاً ، فإذا وقعت المصائب نصبت الأنظمة نفسها وصية على الشعوب وحكماً وقاضياً ، وهي سبب الفتنة وأم البلاء.

لسنا نريد دولة دينية بالمعنى الذي ينفر الحكام الناس منه [وإن كان من حق كل أمة اختيار النظام الأصلح لها] بل نريد دولة  فيها أمران ، وفقط أمران : عدل وحرية ، من دون وصاية أية هوية غريبة على الأمة ، وهو أمر لم يقدمه نظام عربي إلى شعبه.

تتحدث أيها الرئيس وسائل إعلامكم عن دور النظام المصري في إيقاف هيمنة بعض القوى الإقليمية التي تريد الالتفاف على أهل السنة في المنطقة!

وأنا أسألكم : ماهو البديل الذي قدمتموه للأمة على الصعيد الإسلامي أو القومي في مواجهة ذلك، إذا كانت هناك أطراف معينة تسعى للهيمنة ، وهي ذات بعد عقدي ومذهبي أفلا تحتاج إلى مقابل يدفعها؟ ومن هو المقابل؟ شعارات فارغة مقابل عقائديين في غاية الصلابة! أم مرجعية دينية هزيلة لولا بقية احترام لموقعها [لا لها] لقلنا أكثر من أنه لم يكن في تاريخ الأمة الحديث أسذج ولا أكثر استغباءاً للناس منها ، في مقابل مرجعيات راسخة متمكنة!

ماهي القدوة الشخصية التي تمثلونها في وجه قوة هائلة ، كثير من قياداتها ورموزها من الراكعين الساجدين الاستشهاديين!

ما هو المقابل وأنتم تعتقلون كل يوم كوادر جماعة الإخوان المسلمين والتي [رغم كل الأخطاء المحسوبة عليها] لم يسفك أحد دمه لأجل قضايا الأمة وخصوصاً فلسطين ، مثلما فعلت تلك الجماعة ، والتي هي المقابل الأقوى العاقل والإيجابي للتعامل الراشد مع أي فكر زاحف يريد الهيمنة على أهل السنة [كما تقولون].

إن الشعوب العربية تتفرج عليكم وأنتم تتشاركون مع النظام الصهيوني بإحراق تلك الجماعة ، ولكن من يأبه لكم أيها الرئيس!

نعرف أن النظام المصري ، بل العربي كله صار بحالة ضعف مؤلمة ، ولكن لم يطلب أحد منه العون بالسلاح ولا إرسال المجاهدين ، وهو الذي يبيع الغاز لدولة الإجرام.

لنقل أن هناك إتفاقات دولية ، وضغوطاً سياسية ، وظروفاً وقناعات تمنع مصر أن تتدخل في الأمر ، فهل تنقص كرامة مصر العظيمة إذا فتحت المعابر للغذاء والدواء بلا قيد ولا شرط ، بدل أن تقف منظمات الإغاثة مثل الشحاذين على أبواب معبر رفح.

ماذا ينقص من كرامة مصر أن تحتال لإدخال الغذاء والدواء احتيالاً ولو كانت هناك ألف اتفاقية دولية! لا دعماً لحماس ، بل من أجل الأطفال الجياع ، والنساء الثكلى والمدنيين والأبرياء.

هل هناك خطة لمعاقبة حماس بآلام الناس؟ إن من يريد ذلك قد أخطأ السبيل لأنه حشد لحماس [بغبائه الذي لا خيار له فيه]  أجيالاً من الاستشهاديين ، يتصل أولها وآخرها من المحيط إلى المحيط ، وستتقوض كل قوى الظلم والاستبداد في الأرض ولن ينتهي مدها الظافر بإذن الله.

ألم تدرك أيها الرئيس مغزى حذاء الزيدي الذي مرغ به أنف أكبر مجرم على وجه الأرض ، والذي ناب به عن أمة العرب والمسلمين ، مختصراً جملة الأذناب والفراعين في شخص كبيرهم.

ألم تحس بالعار أيها الرئيس وأنت تطلب قوات دولية على معبر رفح ، وهو ما لم تطلبه [إسرائيل] ، ثم ألم تشعر بالخجل وخارجيتك تحيل إلى مجلس الأمن موضوع غزة ، بدل أن تبقي لحكام العرب مرجعية ولو شكلية تحفظون بها ماء وجوهكم لدى شعوبكم التي ملت منكم وما عادت تطيق أن تسمع حتى أسماءكم. ألم يستيقظ في نفسك رشد وأنت تصرِّحُ قبل ساعات بأن أرض غزة محكومة بالاحتلال الإسرائيلي!! [وهو أمر خجلت إسرائيل من ذكره].

لا يليق بك هذا أيها الرئيس ، لأن غزة وأي أرض إسلامية ليست لك ولا لأي حاكم عربي ، أرض الأمة لهذه الأمة ، وإذا كنت وأمثالك أعجز من مواجهة المشروع الأميركي – الصهيوني فيها وفيما حولها ، فدع كرسيك لمن هو أقدر منك وأشجع وأكثر غيرة على الأمة وفهماً لروحها وآمالها وآلامها وأكثر احتراماً لهويتها ، وإن شئت فلا تدع كرسيك ، فسينتزعه ملك الموت منك، وقد تسبقه أمة لم تعد تطيق الذل والإهانة وتمريغ عزتها واستقلالها في التراب، وثق تماماً أنه ستأتي أجيال وراءها أجيال ، وطوفان وراءه ألف طوفان ، ولن ترفرف على أرض هذه الأمة إلا رايتها.

أيها الرئيس ، إنني لا أستطيع أن أعلمك ما أنت أخبر الناس به! من أن اليابان وألمانية انكسرتا في الحرب العالمية لكنهما مضيا يشقان الطريق بندية كاملة ، وفرضتا قوتهما من خلال الاقتصاد. كما أن الولايات المتحدة بكل وحشيتها لم تستطع أن تهزم الشعب الفيتنامي العظيم لأنه كان يتعامل معها بندية ، ويملك إرادة الانتصار ، وكل الغطرسة الأميركية لم تستطع تقويض كوبا الصغيرة ، النائمة عند أنياب الوحش الأميركي.

إن الظروف السياسية عامل استثنائي أما الأساس فهو إرادة الانتصار وهو الشيء الذي ما زلنا نحن المسلمون نملك منه ما لا يتصوره الظالمون. (وحسبك جنوب لبنان العزة ، وغزة الصمود ، وصومال الكرامة) ...

بعد كذب مطلق حول أسلحة الدمار الشامل ، وحصار لئيم استمر عشر سنوات ، وإبادة ما يقارب مليون طفل عراقي ، وبعد تصديع النظام ظنت الولايات المتحدة أنها قادمة إلى نزهة تستمر أسبوعين ، فغرقت في مستنقع ستدشن فيه عامها السابع بكل خزي واندحار.

وظنت جيوش الغرب أن بدائية الأفغان لن تصمد في وجه الزحف الصليبي الخاسر، فإذا بالمقاومة الإسلامية تكسر كل يوم ناباً من أنياب الاحتلال الفاجر.

وظن بعض الحكام العرب اتباعاً للغرب التوراتي ، أن طفله المدلل [إسرائيل] سيأكل المنطقة في لقيمات وهاهو فيها منذ ما يزيد عن ستين عاماً لم يهنأ ولن يهنأ باستقرار ، ويزداد كل يوم ضعفاً. إن [إسرائيل والنظام الأميركي] متجهان إلى ضعف غير مسبوق ، فلماذا نعطيهم القياد.

ليست القضية أيها الرئيس منظمة حماس ، التي يتبارى القادة العرب [المعتدلون في المنظور الصهيوني والأميركي] في الغمز واللمز فيها ، ولكنها قضية أمة تبحث عن الهوية ، تبحث عن الكرامة ، تبحث عن رسالتها في الحياة. ليست القضية قضية عصابة [ بتعابير بعض المرتزقة الإعلاميين] بل قضية عقيدة ووطن ومبدأ وانتماء.

لقد سئمت الأمة كل مفاهيم الغرب ، الانتقائية والمتحيزة التجارية المنافقة ، وتبحث عن هويتها خالصة بلا تغريب ولاذوبان ، وإن المد يتقدم لكنس بقية المشروع الأميركي- الصهيوني ، يتشارك فيه اليساري والقومي والعلماني والمسيحي ويتوجهم إسلامي ما زال في جعبته الكثير ، مهما علقت له المشانق ، وشربت زنازين الحكام العرب من دمائه مما لم تسفكه من دماء جنود الاحتلال.

استفق ياسيادة الرئيس وعد إلى هذه الأمة عقيدة وهوية وانتماءاً .. وإن مكانتكم كموقع وشخص أعظم من أن يكون تماهياً في المخططات التوراتية للمنطقة .. 

إن فجر الأمة آت ، مصبوغاً بدم الأطفال من العراق وأفغانستان وجنوب لبنان وفلسطين.

فجر الأمة آت مع هدير الله أكبر ، ومع إرادة الانتصار التي لن تنكسر أبداً.

فجر الأمة آت مع وجوه الأطفال الكالحة وقبضاتهم الصغيرة تحمل الحجر بعد أن انسحبت الأنظمة بقواها الهائلة من الساحة بكل لؤم وصغار.

فجر الأمة آت رغم أنف الغرب كله ، وستصنعه لا الأنظمة الجبانة المتخاذلة المتماهية في مخطط الإدارة الأميركية، بل ستصنعه دماء الشهداء وأنات المعذبين ، وزفرات المضطهدين.

فجر الأمة سيشرق على أيدي حملة القرآن ، وسيبزغ من عيون الأطفال التي تنظر إلى مستقبل لم يبن لهم فيه على أيدي الحكام إلا الخراب.

سينبع من وعي يتعاظم بالأمة وعقيدتها وهويتها ، والتي حاولت الأنظمة طمسها بكل طريق.

لا أكلمك بالعاطفة وإن حفت كلماتي ، ولكني أقول لك : استطلع نبض الأمة ، وضميرها ، وانظر كيف أن ما ظنه المحللون موتاً إنما هو مجرد لحظات لا استراحة بل كمون ...

مهما كان الكلام خشناً فإنني آمل من سيادتكم أن تخرجوا من أسر الهيمنة السياسية الأميركية ، وأن تخرجوا من هالة الرعب الصهيونية ، وأن تلتصقوا مرة ثانية بأمتكم .. وكن على ثقة أيها الرئيس أن الصهاينة من غزة لن يمروا [مهما كان الثمن] ، وأن الحكام العرب بهذا الذل والجبن لن يستمروا ...

قبل أن أنسى : باعتبار أنكم صادرتم المؤسسات الدينية ، وصرتم أنتم الذين تعينون شيخ الأزهر [ وهو ليس حقاً لكم ولا لأي حاكم ، لأن قائد العلماء يعينه العلماء ، وفقط العلماء في أي بلد] ولكن مادام لديكم شخص تسمونه : شيخ الأزهر ، فلمصلحة نظامكم أنصحكم بتغييره لأن مواقفه لا تليق بالأزهر العظيم ولا بمصر راية النصر وكنانة الأمة.

ألهمكم الله الصواب ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

دمشق الشام : الجمعة 6 محرم 1430 هجرية / 2 كانون الثاني 2009م

              

[1] - محمود مهدي الاستانبولي ، مجلة التمدن الإسلامي س 12، جمادى الأولى 1365ه/حزيرن 1948م ، 127.

[2] - محمد بن كمال الخطيب ، مجلة التمدن الإسلامي ، كيف ننقذ فلسطين،  س 12، شعبان 1365ه ،275-277.