كثير الكارات قليل البارات

د. حبيب بولس

د. حبيب بولس*

أعرف أن "أنا" الشعراء والأدباء بشكل عام منفوخة قليلا وهذا الانتفاخ مشروع طالما انه يرضي غرور صاحبه ولا يضايق أحدا. ولكن أن يصبح هذا الانتفاخ مرضا يصل بصاحبه إلى حد النرجسية فهذا أمر مرفوض ذلك لأنه عندئذ سيضر بالأديب نفسه, ومن ثم بالحركة الأدبية بشكل عام.

ونحن إذا تفحصنا حركتنا الأدبية نجد أنها لا تخلو من بعض النرجسيين الذين لا يرون في الساحة الأدبية سوى أنفسهم, ولا يتملوْن في مرآة الإبداع غير أدبهم. وقد وصل الأمر ببعضهم حدا بعيدا, حيث صار لا يقرأ سوى أعماله ولا يستمريء إبداعا غير إبداعه. فتراه مدفوعا بنفخة العظمة لا يتورع عن أن يُصدر وعلى نفقته الخاصة أعماله الكاملة, وهو ما زال في عزّ عطائه, متمثلا في ذلك بكبار الأدباء. وينسى أو يتناسى أن هناك فارقا "بسيطا" بينه وبينهم, ينسى أن كبار الأدباء تتسابق دور النشر المعروفة عربيا وعالميا وتتنافس على نشر أعمالهم الكاملة, بينما هو لا يسابق ولا ينافس سوى نفسه, هذا من جهة, أما من أخرى, فحين يرضى أديب كبير وتوافق دار النشر على إصدار أعماله الكاملة, يكون متيقنا من انه قد وصل الى نهاية مرحلة أو شارف على نهاية المسيرة أو أن تجربته قد اكتملت.

والسؤال لماذا هذا التهافت من البعض واللهاث وراء نشر "الأعمال الكاملة" والأديب ما زال يتنقل في حقول التجربة, وما زالت أمامه فرص كثيرة لترسيخ أدبه وتطويره والوصول به إلى أرقى المستويات, لماذا هذا الجري السريع والهرولة وما زال الأديب يملك عمريه الزمني والإبداعي؟ حيث يكون باستطاعته أن يُغني تجربته وان يثري عالمه وان يرفد عطاءه

 بالكثير الكثير.

ألا يعرف هذا الأديب أن الأدب الذي ينبع عن هرولة يأتي فجأة ويموت سريعا؟ ألا يعرف أن الأدب كي يكون أدبا حقيقيا ذا مستوى عليه أن ينضج على نار هادئة؟! لماذا التسرع إذن؟ ألا يعمل هذا الأديب حسابا للمتلقي؟! الجواب عن كل هذه التساؤلات وغيرها واحد, هو اشتهاؤه للشهرة, فنحن غالبا ما تسحرنا الشهرة فنلهث وراءها لأننا نريد أن نصلها سريعا, ولا يهمنا في ذلك أن ندوس على الكثير من الثوابت والمرتكزات, وربما على الكثير من القواعد الأدبية.

ومع غياب حركة نقدية جادة متواصلة, يتسيب الإبداع فيستغل هذا الأديب المنتفخ الفراغ النقدي الحاصل ويتسرب من ثغراته كي يرضي أناه المتضخمة. تلك "الأنا" التي تقوده إلى أكثر من الذي ذكر. تقوده مثلا إلى أن يرى أدبه متفوقا وهو بعد في بداية الطريق أو في وسطها. الأمر الذي يدفعه إن لم يجد أحدا يعزف له على أوتار غروره إلى أن يشبع ويروّج عن نفسه ولها إشاعات لا صلة لها بواقع ولا تمت إلى الحقيقة, لا من بعيد, ولا من قريب, كأن يطلب ما أحدهم أن يقوم بترجمة بعض أعماله إلى لغات أخرى, وطبعا على نفقته الخاصة, بحيث يسجل على هذه الأعمال حين يصدرها وأيضا على نفقته الخاصة اسم دار نشر معروفة وهي من الأمر براء. وطبعا أنها هي التي رجته إلى ذلك. أو أن يقوم بتسجيل صوته بنفسه وهو يلقي بعضا من قصائده على شريط ويوزعه على الآخرين, مدعيا أن شركة كبيرة طلبت إليه ذلك, وكأن شعره منقطع النظير والناس عطشى, وكل هذا على نفقته الخاصة " لا شركة ولا من يحزنون"

وتبلغ الأنا المنتفخة أقصى العهر حين يكتب هذا الأديب الأخبار عن نفسه ويوزّعها على الصحف وعلى وسائل الإعلام, دون أن ينتظرها هي كي تلاحقه. مع انه من المعروف أن الأديب الواثق من نفسه لا يلهث وراء الإعلام, بل على العكس, الإعلام يلهث وراءه ويتحين الفرص للنشر عنه. وهذا المنفوخ ينسى أن كل وسائل الإعلام على أنواعها مهما اجتهدت لن تجعل منه أديبا مشهورا, إنما إبداعه فقط, هو الذي يفعل ذلك. وحين يجد صاحبنا أن كل ما بذله من أموال ومشقة وشائعات ذهب أدراج الرياح يروح يفتش عن وسائل أخرى تقربه من المشتهى. مدفوعا بشهوة الشهرة يقوم بالاتصال مع صحف ومجلات ومعاهد العالم العربي, علها تنقذه وترضي أناه. وأصحاب الأمر في عالمنا العربي, مع أنهم لم يسمعوا باسم هذا الأديب, يكتفون بتعريفه لنفسه عل انه "أديب فلسطيني من عرب ال48". وكلمة "فلسطيني" ما زالت تلعب دورا ساحرا, فمن باب التعاطف يفتح هؤلاء لصاحبنا الأبواب, سواء للنشر أو للدعوة إلى مؤتمر أو مهرجان, أو حتى في توكيله تزويدهم ببعض المواد التي تنشر عندنا. وحين يتسلم مثل هذه المهمة لا يؤديها بإخلاص, بل يتحايل نزولا عند رغبة أناه فينتقي نصوصا لأدباء يرى فيهم أقل منه إبداعا ومعرفة وخبرة, كي لا يطغى اسم عليه فترتج عندها أناه وتصاب بمشكلة. ويحرص هذا المنفوخ دائما ألا يقدم عليه احد, فهو كثير العتاب دائم اللوم, لأنه كثير الغيرة, فهو يغار من أي اسم. فيعاتب الصحف والمحافل الأدبية لأنه لم يُدْعَ ليشارك في حدث ما, ويعاتب الصحف لان ما كتبه لم ينشر في صفحة بارزة, ويلعنها لان اسم فلان تقدم على اسمه فهو يريد كل شيء لنفسه.. وليذهب الآخرون إلى الجحيم. ولا يدري هذا المسكين انه, وهو يفعل ذلك, يصير محط تندّر وسخرية وتفكُّه لا يعرف انه بمثل هذه الهرولة يضر بسمعته الأدبية وإبداعه في آن معا. وكي يتجاوز هذا الأمر وسعيا منه في تحقيق الشهرة المشتهاة, نراه يقحم نفسه في كل حدث فلا يفوت شيئا وليس مهما  إذا كان الحدث من اختصاصه. فهو أشبه بالبرغي الذي تستطيع أن تدقه كيفما شئت وأينما. شئت وينسى صاحبنا أن كثير "التنقل" لا يمكن أن يعطي أدبا عميقا. لان التنقل لا يتيح التعمق بل يدفع إلى التسطح, وهذا يُذهب الجهد سدىً تماما كما قال مثلنا الشعبي: "كثير الكارات قليل البارات". هذه الأنا المنفوخة أدبيا ظاهرة مقلقة,مضرة ومسيئة, لذلك علينا أن نضع لها حدا, إن كنا فعلا نحرص على أدبنا ونتوخى الموضوعية فيه. إذ أن الأديب الحق هو الذي يترك للآخرين أمر اكتشاف أهمية أدبه. الأديب الحق هو الذي يترك للدارسين اكتشاف أهميته لا ذاك الذي يسعى إلى الشهرة بأي ثمن.

الأديب الحق هو ذلك الأديب الذي لا يلهث وراء الإعلام والنفاق لان كل ما ذكر على أهميته لا يصنع أدبيا, بل يصنع وهما, ونحن في عصر الحقائق لا في عصر الأوهام, من هنا لنتريث قليلا, ولندع الأمور تسير  على طبيعتها, فالنار الهادئة وحدها هي التي تنضج معها ما نريد بشكل جيد. وليست النار الحارقة التي كلما نفخنا فيها عرضنا كل شيء للاحتراق وللضياع!

              

* د. حبيب بولس – ناقد أدبي  ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية.