محمود درويش

مراد السوداني

المنشدُ الهوميري وقوسُ الإيقاعِ اللَّفاح

مراد السوداني

بقليلٍ من التَّأملِ الجمِّ، وكثيرٍ من عتادِ الصَّبرِ، أنحازُ للبكائيَّاتِ، وبحّةِ النَّايِ المَجروحِ بالدَّرغلاتِ الغُفْل.. سأسوقُ الكلامَ بدفٍّ شفيفٍ كدمعِ الينابيعِ على حَجرِ الظَّهيرةِ الكَابي، وأُطلقُ فرائسَ التَّحديقِ من فخاجِ الحقولِ، لأنَّ الزَّمانَ كثافةٌ للمكانِ صارَ، وصارتِ المكانةُ صنوَ الكينونةِ المحتشدةِ بسرسباتِ الجموحِ الفذّ، وإغفاءةَ الظَّبي في ظلالِ سّريسةِ الوعرِ، وبلَّوطةَ الوادي الرَّاهبةَ الوحيدة.. لا المراثي استفاقتْ على صحوهِ العندميِّ، ولا القلبُ أَمهله ساعةً لإطلاقِ نظرتهِ الماكرةِ إلى سُلّمةِ الأُفقِ النَّحيل..

لا الوقتُ أفاضَ عليهِ نعماءَ البقاءِ، ولا مدارجُ حلمهِ حملتهُ للنَّجوى فَيرضَى أو يضيءُ القلبَ مثلَ فواختِ البرّ البريء..

لا صوتهُ يعلو فيرتجّ المَدى بالصَّمت فعّالاً ونهنهاتِ الجمرِ حيثُ النَّبعُ يشهقُ بأغنياتٍ ذابلاتٍ كالمسيلِ الخصبٍ والفيض الكريم.. لم يغيّبه البياضُ، ولم يزّوجْ قلبَهُ للطيرِ، فالطيرانُ مهنتهُ ودربتهُ على خفقِ القصيدةِ، والتماعِ مطالعِ الشُّعراءِ فوقَ الماءِ، أو تحتَ السماءِ بغيمةٍ أو غيمتين.. بدمعة أو دمعتين.. أو..

هو الذي قادَ الغنائيةَ من قَرنيها إلى سدرة الانتباه، وأعلى كعبَ الصِّياغةِ الفارهةِ على مَسربِ البياضِ اللفّاح، فاقترحَ جماليَّات الإيقاعِ الطَّاغي، والنبرَ الرَّشوف، وعلى عكّازةِ المجازِ، ومراوغةِ الكنايةِ، أسندَ كتفَهُ الشعريَّ ليعينَ القصيدةَ على اندفاعِها الدفّاق..

أقلُّ الوفاءِ أن يرقدَ في قبرهِ المأمولِ، قربَ خرّوبةِ الغروبِ الغريبِ في فلسطين المحتلَّة العام 1948. أقلُّ الوفاءِ أن يجاورَ حفافي البئرِ القديمةِ، والمفتاحَ العتيقَ، ووردَ السياجِ والصبّار على الشَّارعِ الجانبي بقربِ البوابةِ الحديدية..

النقيضُ يعيدُ إنتاجَ النَّفي للأحياءِ والموتى في "بروة" الشاعرِ كعادتهِ منذُ ما يَزيدُ على مائةِ عامٍ، وهو هو يحولُ بين الشَّاعرِ وقبرهِ.. أرضهِ ومستقرّهِ الأخير.. نفي النفي إثباتُ اقتدارِ الشَّاعرِ الباقي، وأبناءُ شعبهِ على الفعلِ وسياقاته، والحياةُ وفضاءاتها الجامحةُ الطامحةُ.. مرهقاً بالتفاصيل.. مرهفاً ومتوتراً بدا في اللقاء به، أنا وصديقي الشاعر عبد الرحيم الشيخ.. اقترحنا عليهِ قبلَ سفرهِ حواريةً مختلفةً، وقلنا له: أنتَ لم تُحاور بعدُ.. نريدهُ حواراً استثنائياً.. كان معنياً بأدقِّ زوايا الكلامِ (عن ماذا ستكونُ مدارجُ القولِ؟ قال.

- عن تجديدِكَ الإيقاعي، فنحنُ في جيلِ التسعينياتِ عرفناكَ من خلالِ المعلِّم حسين البرغوثي في مُحاضراتهِ حولَ قوانينِ الشِّعرِ العربي العام (1995).. لقد قاربكَ نقدياً كما لم يَفعلْ ناقدٌ من قبلُ.. سنواصلُ الطَّريقَ..

- أرجو أنْ ننأى عن السياسةِ.. قالَ وحاورَ بتوترِ العنيدِ والرَّائي الشَّفيف..

كلَّما هَممْنا بالرَّحيلِ أجلسَنا، وكذلك فعلَ غيرَ مرّةٍ.. قال: أنا لستُ محبطاً، فقط، من المشهدِ الثقافي، بل أنا يائسٌ. قلنا: إذا كنتَ بكلِّ حمولتكَ المعرفيةِ والشعريةِ، وهذه التجربةِ الطويلةِ وكلِّ هذا الوجعِ تقولُ ذلك.. ماذا نقول نحن؟! طالبناهُ بدورٍ فعّالٍ لدى المؤسسةِ الرسميةِ لإعلاءِ المقولةِ الثقافيةِ، وإعادةِ الاعتبارِ للمثقفينَ في الشَّتاتِ والوطنِ، مؤكِّدين غيابةَ النسيانِ التي تلفّ معشرَ الشعراءِ والمبدعينَ، فيرحلونَ بصمتٍ وغربةٍ كاويةٍ. قال: أفضلُ شيءٍ أن لا يموتَ الإنسان!!.. وضحك عالياً، فكان ذلك ذروةَ المفارقةِ الساخرةِ في مقاربةِ الواقعِ وفجائعيتهِ النَّكراء..

في أمّه.. لا تتركيهِ معلقاً كالسَّيفِ فردا!

ويا أمّه.. ازرعي على قبرهِ الطِّفلِ وردَ الكلامِ وأقحوانَ الدَّمعِ

ويا أمّه.. مسّدي شعرَهُ بالأغاني وترويدة الفقد

ويا أمّه.. علِّقي شالَكِ العبقريَّ على قُصفةِ القصيدةِ الأخيرة

ويا أمّه.. بلِّلي أرضَ أحلامهِ بالدُّعاء المُعافى.

ويا أمّه.. أمّه.. أمّه.. أيقظي حجلَ الوعرِ على تلّةِ أجدادهِ العالية

ويا نساء بلادي.. شيّعن هذا الغريبَ القريبَ بحنّاء القلب، وسعفِ الغارِ الغامرِ

ويا نساء بلادي.. ارفعنَ للنَّجمِ هدهدةَ النحيبِ وشبوبَه المرنانَ ليكتملَ طقسَ الغيابِ بهللِ الشِّعر والجمالياتِ العليا.

ويا نساء بلادي، ويا ندّابات الشاعرِ الرمزِ.. رددّنَ تناويحَ الشجرِ العالي، وأقواسَ الدَّمعِ اللائب

يا ندّابات فلسطين.. أعدنَ على روحهِ رحمةَ القولِ وشِلح النَّدى الأرجواني.. أعدنَ له ضحكةَ الطفلِ، وبرقَ الكلامِ اللَّعوب.

يا ندّابات.. رحلَ المغني والمنشدُ العاتي، فغنّين باسمه يا بلادي، وليرتفعَ الصداحُ المرّ في أعالي النشيج!