عفوك شعب سوريا العظيم

مأمون احمد مصطفى

لم يكن امامنا سوى الاعتراف والاعتذار، ولم يتبق امامنا سوى الانخراط والاندماج، الاعتراف بثورتكم المجيدة الممجدة، والاعتذار عن ترددنا في اعلان الانتماء اليكم والاندماج فيكم، والانخراط في مشواركم المتوج بالصبر والاناة والجهاد والوفاء لله جل في علاه، ممارسة واضحة جلية، قولا وفعلا ودعاء والما وحرقة على مصابكم العظيم.

اليوم، نقف نحن شعب فلسطين، احرار فلسطين، ابناء الوطن والمقاومة والنضال والجهاد، على اعتاب الفخر والعزة، دون ان نملك مقدار شعرة من الجرأة لدخول بوابات الفداء والعظمة والثورة والتضحية والجهاد، ليس لأننا لا نعرف الطريق التي تقود الى تلك الاراضي الوارفة بأرواح الشهداء وانات المعذبين ودماء المجروحين وصرخات المغتصبات، فنحن ندرك ونعي السبل الموصلة الى تلك الجنان، لكننا امام عظمة جهادكم، وقوة صبركم، ومتانة استمراريتكم، وصلابة تضحيتكم، نشعر بضآلة ما ملكنا وما نملك، فلا اقل من ان نعلن خجلنا وحياءنا من الادعاء باننا مثلكم، او حتى يمكن ان نتشابه مع ما تملكون من عظمة وقوة، استطاعت حتى هذه اللحظة ان تصمد امام بطش الحقد المجتمع من النازية والفاشية والستالينية في بوتقة صهرت احقاد الفرس وحزب اللات وقوات المهدي واستبداد روسيا وقهر الصين لشعبها في الساحة التي اعدم بها ما يزيد عن نصف مليون متظاهر.

عفوك شعب سوريا، فنحن، عن سبق اصرار وترصد مارسنا خيانتك، بصمتنا وصمت اقلامنا، بصمت حناجرنا وافواهنا، بصمت اجسادنا واصابعنا، بصمت ضعفنا وترددنا، بصمت ذواتنا التي حولناها الى قبور مهجورة. نعم، نحن نعترف وعن وعي كامل، وضمير نابض مهتز، وروح تواقة للتطهر وغسل ادرانها، باننا مارسنا نحو الثورة السورية، ودماء الجرحى، وارواح الشهداء، ونداء المكلومين والمكلومات، وانات المغتصبات، خيانة من الصمت لم تمارسها امة قبل، خيانة عن سبق اصرار وترصد، وعن وعي ناضج مكتمل، وكنا ونحن ممرغين بالذل نحاول ان نخلق اسبابا ومبررات، حججا فارغة الفحوى والمظهر، من اجل ارضاء ذلنا الممرغ بالذل والهوان الناتج عن صمت لم يكن يوما ضمن حساب الثورة والثوار.

نعتذر الان، عن سبق اصرار وترصد، تطهرا من خيانة الصمت، اعتذار الطالب الذي ساقه جهله الى دروب الظلمة والظلمات، واعتذار العائد التائب من ذنوب كلها كبائر او تكاد تتخطى كبرى الكبائر، وهو اعتذار الفطرة التي تلوثت، دون ان تغسل عوالقها بدماء سفحت من شرايين مزقتها سكاكين النظام وخناجره المصنوعة في بلاد فارس، والمصقولة في بلاد الروس، والمشحوذة في بلاد الصين.

نعتذر، ليس كأفراد، وان كنت اول المعتذرين، بل ككتاب ومفكرين وفنانين، كثوار ومناضلين ومجاهدين، كشهداء ومجروحين ومكلومين ومسجونين، نعتذر كشعب، يحمل الماضي والحاضر والمستقبل، وما بين كل هذا، اعتذارا يليق بمقاكم ومقام تضحياتكم وما تصنعون، ليس من اجل سوريا العظيمة، بل من اجل الامة العربية التي تقف عاجزة عن مساعدتكم في مشوار تحريركم سوريا من النظام المستعمر لها باسم الفرس ومن يواليهم.

عفوك شعب سوريا العظيم ... قيل يوما، وما زال يقال، بان الشعب الفلسطيني، هو شعب الجبارين، وقيل، بان ثورتنا الفلسطينية من اطهر وانصع الثورات التي وجدت عبر التاريخ، وقيل، وقيل، وقيل. لن انفي هذا ابدا، ليس من اجل ارضاء غروري او غرور من مثلي، بل اكراما للشهداء الذين وضعوا ارواحهم على اكفهم وانطلقوا كخيول العرب الاصيلة الى ساحات الوغى ومربعات الشهادة، واكراما لمئات الالاف الاسرى الذين قبعوا وما زالوا يقبعون في دوامات الاسر والسجون والمعتقلات، واكراما للجرحى والنازفين، لكنني استطيع اليوم ان اقول: بانكم، بما تحملون اليوم من امانة تنوء الجبال بحملها، كنتم من حيث لا ندري، سادة الشهادة التي مارسها شعبنا منذ عقود، واننا ان كنا دخلنا التاريخ من بواباته الواسعة العريضة، فإننا كنا ونحن ندخل تلك البوابات نحمل اجنتكم بأعماقنا، بأرواحنا، بقلوبنا، بأفئدتنا، وكنا نحمل فيما نحمل، ارواح الشهداء الذين يخرجون من اجساد شهداء ارضنا ليبرعموا في درعا وحمص وحماة وادلب والتريمسة وباب عمرو وحلب وريف دمشق، ليبرعموا غابات من الشهداء المنتظرين في صف الثورة ليتفتحوا شهداء حرية وعزة وكرامة ضد نظام لم نكن نعتقد يوما بانه سينجز في كل يوم مجزرة في ارض الشام التي حاكت من جلود ارواح شهدائها ياسمينا يظلل الثورة والثوار في كل مكان وزمان.

كنا نحن... وكنتم، وكان الحلم يتسلل كماء زمزم من بين تشققات الصخر ومجاهيل الصحراء الممتدة من وطن الى وطن، ومن غيب الى غيب، ومن مجهول الى مجهول، حلم الارض الموشى بجمان الحكايات، وفيروز العصافير المرتحلة، حلم الانسان، وأي انسان، انسان الشام الممتدة في خاصرة الكون نقطة ضياء واشراق ونور وحضارة، فمنها، من غيبها الذي تحول الى معلوم، ومن مجهولها الذي اصبح شاهدا على غرة الكون وتاج الوجود، خرجت جحافل بني امية، تقدح سنابكها الصخر فينتشر الشرار علامات رؤيا ووجود، وصهلت الخيول، فكان الصهيل فتحا لأبواب عوالم لم تعرف قيمة الانسان، وحين وضعت الخيول انفاسها واروت الارض من عرقها، كانت رسالة الانسان قد وصلت، لتفتح امام الافاق المفتوحة فتحا لم يسبقها اليه احد من قبل ومن بعد.

الاندلس، وغيرها، من حواضر العالم، كانت مرتبطة بحلم الشام، وظِل الحور، وروعة الياسمين، كانت الاشجار والغدران والجداول والانهار، وكانت السنابل الموزعة كذهب خالص لم تمسه يد او تلمسه عين او حتى رؤية عين، يتناغم مع حركة الحلم، دفق النور المتأصل بربى الشام، كل هذا، تلاحم، اندمج، انصهر، ليخرج رجالا كانوا قادرين على نقل انسانية الانسان من الشام الى ربوع العالم.

كانوا ثوارا، وكانوا ابطالا، كانوا اصحاب رسالة، اصحاب قلوب نابضة، اعتذر عن كلمة كانوا، هم سيظلوا، يخرجون من ارحام الحرائر، واصلاب ممتدة الى عصور الحلم، ليسقطوا كل طاغية تسول له نفسه ان يلوث هواء الشام وياسمينها، الم يكن القاتل حافظ، هو من حافظ  على عهد بيع العروبة الى الفرس، ألم يورث الخيانة والتبعية والانهزام والجريمة والقتل والتدمير الى ابنه،   اولم يأتي بشار، ببشرى تسليم لبنان الى الفرس، الم تكن خيانتهما للحلم الشامي الموصول بعبق الخيول ونواصيها اكبر من ان تحتمل او يتم السكوت عليها؟

نعم كانت الخيانة فوق طاقة الاحتمال، فخرجتم من حلمكم، كفراشات من عوسج، تحلقون فوق الثرى السوري المختطف الى بؤرة الفرس، وارتفعتم حتى غطيتم سماء لبنان المحتلة بجنود حزب اللات الخاضع لعبودية الفرس، تماما كعبودية النظام السوري لعلوج الفرس.

عذرا شعب سوريا العظيم، عذرا يا شعب البطولات والملاحم والاساطير والواقع، عذرا يا نساء سوريا، عذرا يا بنات سوريا، عذرا يا اطفال سوريا، عذرا يا شهداء سوريا، عذرا يا كل ذرة تراب تطأها قدم ثائر سوري لتغسل ادران النظام ونجسه وسفالته وانحطاطه، عذرا يا شهقات الاخوات المكلومات، عذرا لا يرتقي الى ملامح ام انجبت قبل اعوام وازمان جحافل بني امية، وجحافل صلاح الدين، وسيف الدولة الحمداني، وما زالت الخصوبة الساكنة ذات الرحم تدفع كل يوم من الشهداء ما يكفي لتغذية شهية نظام المجازر.

يا شعب سوريا العظيم، انا ومعي كل حر وابن حر وحرة في فلسطين، نعلن اعتذارنا عن الخيانة التي مارسناها ضدكم يوم حملنا الصمت على عواتقنا وانتظرنا، عذرا من ارواح شهدائنا الذين ذبحهم ذات القاتل الذي يذبحكم في تل الزعتر وطرابلس وعلى ارض الشام ذاتها البريئة من سلالة القتل والتدمير والعبودية لعلوج الفرس، عذرا من الالام معتقلينا الذين دخلوا من بوابات فرع فلسطين ولم يخرجوا حتى اليوم الحاضر، عذرا من بناتنا اللواتي اغتصبن على ايدي النظام وزعيم حركة امل، امل الفرس في احتلال لبنان، من خلال حزب اللات.

ومن فلسطين، ومن خارجها، من المسجد الاقصى، ومن الحرم الابراهيمي، من مسجد احمد باشا الجزار في عكا، ومن مسجد حسن بك في يافا، من كل دحنونة واقحوانة وتينة وزيتونة، من كل ياسمينة وكرم، من صياح كل ديك، وصهيل كل خيل، منهم جميعا، وممن لم اذكر، اقول باننا معكم يا ثوار الحق والحقيقة، يا من اعلنتم بانكم من سيمسك جدائل الشمس ونور القمر، كما امسكتموهما وانتم تتجهون صوب العالم، من دمشق، لترسوا وتضعوا حلم الانسان والانسانية في التوق للحرية والعدالة والاعتداد بالذات القادرة على تفعيل الذات الحضارية، لذاتها، وللذوات الاخرى، كذاتنا الفلسطينية المحلقة على اجنحة ثورتكم الناهضة المستنهضة لحلم الارض وحلم العوسج، لحلم السرو والكينا والبلوط، لحلم ... الانسان... اينما حل واينما كان.