نور ونار

ناديا مظفر سلطان

ناديا مظفر سلطان

المشهد الأول.

المكان يغرق في عتمة حالكة مريبة .

 تتحرك في لجة الظلام بعض الهياكل دون ملامح تميزها عن بعضها ، فتبدو كلها وكأنها قطع متحركة من السواد ، بينما يلوح من بعيد قبس من نور أنيس . 

هذا النور البغيض يرهقني ، هتف أحدهم .

تبا له ! أجابه آخر.

منذ متى يا أصدقاء ونحن نحاول اطفاءه دون فائدة  ؟ رد ثالث .

ما إن نطفئه من مصدر ، حتى ينبثق من آخر .

يبدو أنه من العبث المحاولة يا قوم .

مرت لحظات من الصمت المتوجس .

لاتيأسوا يا أصحابي!  لا تيأسوا! فإنه لايأس مع الحياة .

 ردد المعلم وكان يجلس صامتا في مكان بعيد ، فلم ُير له وجود على الإطلاق ، ولم يُعرف منه إلا صوت هامس ، كفحيح أفعى ترقد بصمت .

تابع الظل حديثه وكأنه الظلام  يتحدث : إذا عجزنا عن إطفاء النور فلن يعجزنا طمسه!

اقتربت منه الظلال، تحلقت حوله بفضول ، وقد انتشت بجرعة الأمل القادم .

 تصاعدت همهمات مترقبة ، بدأ البعض يتواثب بحبور، وكأنه يقوم ببعض الرقصات الإيحائية .

التشويه هو الحل ! علا صوت المعلم ، دون أن يعرف مصدره تماما.

وكيف نشوَه النور... عجبا ! ، تصاعدت الصيحات من هنا وهناك  .

ما علينا إلا أن نضرم نارا أمام النور فتلتبس الرؤية على الناس ، ويظن الجميع أنه نارا تهدد أمنهم وسلامتهم ، فيلعنوه ، ويرجموه ، ويسعون لإخماده ظانين أنه منبع الشر والهلاك .

إذن سنصرع كما من العصافير بحجر واحد ، صاح أحد الظلال بصوت مبتهج يخنقه الانفعال.

يمكنكم أن تصفقوا أحيانا عندما يسقط أحد العصافير صريعا ، أجاب المعلم .

هذا يعني أننا متفرجين فحسب .

قهقه أحدهم من فرط السرور ، حتى استلقى على الأرض ، سرت العدوى بين بقية الظلال ، فضج المكان بالضحك.

يا أصدقاء الظلام تذكروا دوما إذا أعجزكم العدو،  شَوهوه .

غادر المعلم المكان وهولايكاد يرى،  وكأنه جزءمن الظلام لا ينفصل عنه .

المشهد الثاني

الحطب الصغير خير وقود للنار هكذا أوصانا معلمنا

أجل معك حق الأغصان الصغيرة هي التي ستضرم النار

وهكذا بدورها ستشعل كل الأشجارالخضراء

 وتجعل النور يبدو نارا تهدد حياة الناس .

سينشغل الناس بإطفائها ، ويظنون أنها مصدر النور .

وهكذا تخلو لنا الأرض ، ويطيب لنا المقام .

ويبسم لنا  الدهر ، وتحلو لنا الأيام .

تابعت الظلال نشيدها بحماس ، وهي تجمع الأغصان اليافعة وتجعلها حزما ، ثم تنضدها في حلقات ، وترصها حيث مصدر النور .

عليكم بشجر الزيتون ياقوم ، فهو خير وقود للنار.

أجل ، فإن زيته لا ينطفئ أبدا.

اقطعوا شجر الزيتون كله ولاتبقوا منه غصنا ، هكذا أوصى المعلم .

 نادت الظلال بعضها بعضا ، فأعملوا الفؤوس والمناشير في أشجار الزيتون.

أما آن الأوان كي نشعل ثقابا؟؟ سأل احد الظلال .

إياكم !!!

زمجر المعلم .

 سيبحث رواد الحقيقة عن مصدر الشرر،  ولابد أن يدركوا أنَا نحن ، إياكم وأي عمل يدل علينا.

ارتبكت الظلال فتوقفت عن نشاطها ، صاح أحدهم: وكيف لنا أيها المعلم إذن أن نضرم النار؟

عندما يحتك حطب بحطب ، توقد النار، فتلتهمهما معا  .

 أما نحن فلن ننفق حتى ثمن عود الثقاب.

انحنت الظلال احتراماوتبجيلا  للمعلم الأكبر، بينما أخذت بعض الظلال تبحث عن أكثر الأخشاب قسوة وأخشنها تكوينا ،  ثم أنشأت تحكها ببعض  .

تطاير بعض الشرر، ومالبث أن شق الظلام لهب ساطع ، بدأ يتراقص حينا ، ثم سارع فسرى بين بقية الأغصان  ، اضطرمت النار بقوة ، وزحفت إلى كل الأشجار فأشعلتها ، استحال المكان إلى كتلة ملتهبة ، تلتهم في طريقها الناس والحجر فلاتبقي ولاتذر .

بدت من بعيد جمهرة من البشر، هتف الجميع: إنه النور، هو السبب اللعنة عليه .

كيف لنا أن نطفئ هذا الشر الزاحف ؟ .

ياويلنا منه إنه الشر بعينه.

تبا له .

إنه سبب كل مصيبة ومصدر كل كارثة .

لن تهنأ البشرية مادام هذا النور، إنه نارا تقض عيشنا .

أي ارهاب أشد على الأرض من هذه النار المستعرة التي تزحف إلينا ؟!.

لقد اتضحت الحقيقة الآن ، هذا النور ليس سوى نارا تهلك الحرث والنسل .

المشهد الثالث

للمرة الأولى يظهر على المسرح أشخاص عاديين ، شبانا وشابات ، كان أحدهم  يحمل آلة للتصوير ، كما تظهر صبية تتأبط حقيبة دراسية ، وأخرى تتشح بمعطف للقضاة أسود اللون ، تتقدم أيضا فتاة بيدها كراس وقلم ، ينضم إليهم رجل يرتدي معطفا أبيض ،و تحيط بعنقه سماعة طبية ، ثم ما يلبث أن يهرع فتى يحمل حاسوبا إلكترونيا . 

يبدو أن المجموعة يلتقي أفرادها دون سابق موعد . يقف أفرادها متباعدين لايتعرف أحدهم على الآخر.

سوف أسعف المصابين ، يصيح الرجل ذو المعطف الأبيض.

سأدون كل ما يجري حتى يُعرف لدى الناس ، تصيح الفتاة.

سأوثق المجريات كلها بالصوت والصورة  ، يهتف الشاب صاحب الآلة .

سأدافع عن كل صاحب حق ، تصرخ ذات المعطف الأسود.

يتخذ الفتى ذو الحاسوب مكانا قصيا يعكف على جهازه ، وهو يتمتم لابد من البحث عن مصدر الشرر، حتى تُعرف الحقيقة .

تظهر فجأة امرأة تحمل رضيعا ، يتبعها بضعة أطفال يبكون ويصرخون ، المرأة أيضا تجأر بالبكاء ، وتصرخ عاليا : أطفئوا النار، يردد الأطفال في استماتة.  أنقذونا ، أطفئوا النار .

تهرع المجموعة من جهات مختلفة  ، لإطفاء النار بسواعد عارية .

في مكان غير بعيد تتجمع الظلال :

من هؤلاء؟

إنهم من حذرنا منهم المعلم .

تقصد أهل الحقيقة ؟؟

نعم .

علينا أن نخمد أصواتهم إذن ، ونحبط أعمالهم .

نعم .

لن يرهقنا ذلك فهم متباعدين ، متشرذمين ، لا يكاد بعضهم يعرف الآخر .

معك حق .

كما أنهم لن يروننا لأننا ظلالا ، وجزء من الظلام .

تماما .

ليس علينا سوى دفعهم إلى حيث النار تستعر .

تتحرك الظلال خلسة وتقترب من أفراد المجموعة ، يأتون من خلفهم وعن يمينهم وعن شمالهم فلايكاد واحد منهم يرى عدوه ، يقومون بحركات استفزازية تدفع بالأفراد إلى الاقتراب من الناردون أن يفطنوا لذلك ، فتلتهمهم  واحدا تلو الآخر .

 يعلو صراخ المرأة وهي تنتحب عاليا : لقد هلكنا .

يظهر من جديد الرهط من الناس ، يجمعون بعض الحجارة ، ويرجمون بها أفراد المجموعة التي تتساقط في النار .

يهتف الناس: الإرهابيون ، تبا لكم سنسحقكم جميعا.

 تتسلل بعض الظلال بين الرهط ويقومون برجم الأفراد أيضا .

تبدأ الظلال تدمدم بنغم خافت حزين ، تسري العدوى إلى بقية الرهط ، فيشاركها الغناء . ينشد الجميع أغنية رثاء ، ويذهل الناس عن النار التي  تزحف سريعا نحوهم فتسحقهم .

تصبح الجبال سرابا ، والبيوت رمادا ، والشجر هشيما ، ويستحيل العشب الأخضر غثاء .

المشهد الرابع

تبدأ ألسنة اللهب في التخامد ، بينما تلف المكان سحب من دخان كثيف .

ما يلبث الظلام أن يعود من جديد ليرخي سدوله .

  يغشي المكان صمت أبكم ثقيل .

 يلوح من بعيد نور أنيس كريم ، يبدد شيئا من الظلمة .

تنهض بعض الظلال من رقدتها ، تحث بعضها  على النهوض .

 يسمع بعض الهمس : أليس هو النور الذي عملنا على إخماده ؟

أين هو؟

أنظر هناك ، حيث لاشرق ولاغرب.

نعم يا صاح ، إنه هوبعينه ؟

يا للغرابة !! ، من أين أتى؟

إنه يكمن حيث رصصنا أغصان الزيتون وأضرمنا فيها النار. ياللعجب!

ألم ينصح لنا معلمنا أن شجرة الزيتون لا تطفؤ نارها أبدا؟

إذن انقلب بأسنا علينا، ووقعنا في شر أعمالنا .

سيفتضح أمرنا إذا اشتد وشاع .

بل إنه يشتد ، إنه يغمر الأرض... الأرض  تشرق بنور لاسبيل لإطفائه .

يا ويحنا ! .

تتصاعد حشرجات مبهمة ، وآهات مكتومة ، وزفرات حرى ، وهي تبوح بحرقة:

تىأت

"ويكأنه لايفلح الكافرون "82 28