القوقعة (الجزء 1)

مصطفى خليفة

(( يوميات متلصص ))

جلست وسوزان في كافيتيريا مطار أورلي بباريس ننتظر إقلاع الطائرة التي ستقلني إلى بلدي بعد غياب دام ست سنوات.

حتى ربع الساعة الأخير هذا، لم تيأس سوزان من محاولة إقناعي بالبقاء في فرنسا، أخذت تكرر على مسامعي نفس الحجج التي سمعتها منذ شهور عندما أعلمتها بقراري النهائي بالعودة إلى الوطن والعمل هناك.

أنا ابن عائلة عربية تدين بالمسيحية والمذهب الكاثوليكي. نصف العائلة يعيش في باريس، لذلك كانت الأبواب مفتوحة أمامي للدراسة في هذا البلد، دراستي كانت سهلة وميسرة وخاصة إنني كنت أجيد الفرنسية حتى قبل قدومي إلى باريس، درست الإخراج السينمائي وتفوقت في دراستي. وها أنا أعود بعد تخرجي إلى بلدي ومدينتي.

سوزان أيضا ابنة عائلة عربية، ولكن كل عائلتها كانت قد هاجرت وتعيش في فرنسا، أصبحنا صديقين حميمين في السنتين الأخيرتين من دراستي، وكان يمكن أن نتزوج بمباركة العائلتين لولا إصراري على العودة إلى الوطن، وإصرارها على البقاء في فرنسا.

قلت لها حسماً لآخر نقاش في الموضوع ونحن في المطار:

-   سوزان .. أنا أحب بلدي، مدينتي. أحب شوارعها وزواياها. هذه ليست رومانسية فارغة، إنه شعور أصيل، أحفظ العبارات المحفورة على جدران البيوت القديمة في حينا، أعشقها، أحن إليها. هذا أولاً، أما ثانياً فهو أنني أريد أن أكون مخرجاً متميزاً، في رأسي الكثير من المشاريع والخطط، إن طموحي كبير،  في فرنسا سوف أبقى غريباً، أعمل كأي لاجيء عندهم، يتفضلون علي ببعض الفتات ... لا... لا أريد. في بلدي أنا صاحب حق… وليس لأحد ميزة التفضل عليّ،  بقليلٍ من الجهد أستطيع أن أثبت وجودي، هذا إذا نحّينا جانبا حاجة الوطن لي ولأمثالي.

لذلك قراري بالعودة نهائي، وكل محاولة لإقناعي عكس ذلك عبث.

ران صمت استمر بضع دقائق. سمعنا النداء. آن أوان صعود الطائرة، وقفنا، شربنا ما تبقى في كؤوسنا من بيرة دفعة واحدة، نظرت إليها متأثراً، لمحت مشروع دمعة في عينيها، ألقت بنفسها على صدري، قبلتها سريعاً.  " لا أطيق هكذا موقف "

قلت : أتمنى لك السعادة.

-  وأنا كذلك، أرجو أن تنتبه، حافظ على نفسك.

 وصعدت الطائرة.

*  يوميات متلصص:

  إن التلصص الذي مارسته لم يكن تلصصاً جنسياً - وان لم يخل الأمر من ذلك.

هذه اليوميات كتبت معظمها في السجن الصحراوي، وكلمة ( كتبت ) في الجملة السابقة ليست دقيقة.

ففي السجن الصحراوي لا يوجد أقلام ولا أوراق للكتابة.في  هذا السجن الضخم  الذي يحتوي على سبع ساحات إضافة إلى الساحة صفر، وعلى سبعة وثلاثين مهجعاً، وعلى العديد من المهاجع الجديدة غير المرقمة والغرف والزنازين الفرنسية (السيلول ) في الساحة الخامسة، والذي ضم بين جدرانه في لحظة من اللحظات أكثر من عشرة آلاف سجين، في هذا السجن الذي كان يحتوي على أعلى نسبة لحملة الشهادات الجامعية في هذا البلد، لم ير السجناء - وبعضهم قضى أكثر من عشرين عاماً - أية ورقة أو قلم.

الكتابة الذهنية أسلوب طوّره الإسلاميون. " أحدهم كان يحفظ في ذهنه أكثر من عشرة آلاف اسم، هم السجناء الذين دخلوا السجن الصحراوي، مع أسماء عائلاتهم، مدنهم أو قراهم، تاريخ اعتقالهم، أحكامهم، مصيرهم .....".

عندما قررت كتابة هذه اليوميات كنت قد استطعت بالتدريب تحويل الذهن إلى شريط تسجيل، سجلت عليه كل ما رأيت، وبعض ما سمعت.

والآن أفرغ  "بعض" ما احتواه هذا الشريط.

- هل أنا نفس ما كنته قبل ثلاثة عشر عاما ؟! ... نعم ... ولا. نعم صغيرة، ولا كبيرة.

نعم، لأنني أفرغ وأكتب "كتابة حقيقية" بعضاً من هذه اليوميات.

ولا.. لأنني لا أستطيع أن أكتب وأقول كل شيء. هذا يحتاج إلى عملية بوح، وللبوح شروط. الظرف الموضوعي والطرف الآخر.

20 نيسان

وقفت على سلم الطائرة قليلاً أتملى أبنية المطار. أنظر إلى الأضواء البعيدة، أضواء مدينتي. إنها لحظة رائعة.

نزلت، أخذت حقيبتي وجواز السفر في يدي، إحساس بالارتياح، إحساس من يعود إلى بيته وزواياه المألوفة بعد طول غياب.

طلب مني الموظف الانتظار. قرأ جواز السفر، رجع إلى أوراق عنده، بعدها طلب مني الانتظار، فانتظرت.

اثنان من رجال الأمن استلما جواز السفر وبلطف مبالغ فيه طلبا مني مرافقتهما.

أنا وحقيبتي – التي لم أرها بعد ذلك – ورحلة في سيارة الأمن على طريق المطار الطويل، أرقب الأضواء على جانبي الطريق، أرقب أضواء مدينتي تقترب، ألتفت إلى رجل الأمن الجالس إلى جواري، أساله:

- خير إن شاء الله ؟ .. لماذا هذه الإجراءات ؟!

يصالب سبابته على شفتيه، لا ينطق بأي حرف، يطلب مني السكوت، فأسكت!

رحلة من المطار إلى ذلك المبنى الكئيب وسط العاصمة. رحلة في المكان.

ومنذ تلك اللحظة ولى ثلاثة عشر عاماً قادمة! رحلة في الزمان.

"عرفت فيما بعد أن أحدهم، وكان طالبا معنا في باريس، قد كتب تقريرا رفعه إلى الجهة الأمنية التي يرتبط بها، يقول هذا التقرير إنني قد تفوهت بعبارات معادية للنظام القائم، وإنني تلفظت بعبارات جارحة بحق رئيس الدولة، وهذا الفعل يعتبر من اكبر الجرائم، يعادل فعل الخيانة الوطنية إن لم يكن أقسى.

وهذا جرى قبل ثلاث سنوات على عودتي من باريس".

ذلك التقرير قادني إلى هذا المبنى الذي يتوسط العاصمة – قريباً من بيتنا  هذا المبنى الذي أعرفه جيداً، فلطالما مررت من أمامه. كنت حينها مُثاراً بالغموض الذي يلفه، وبالحراسة الشديدة حوله.

رجلا الأمن يخفراني، اشتدت قبضاتهما على ساعديّ عندما ولجنا الباب إلى الممر الطويل. في آخر الممر شاب، صاح عندما رآنا:

- أهلين موسى ..شو ؟! أخضر ولا أحمر؟

- كلّو أخرى من بعض.

من الممر إلى ممر آخر، درج داخلي، ممر علوي، غرفة إلى اليمين... قرع الباب... صوت من الداخل: أدخل.

فتح مرافقي الباب بهدوء، ثم خبط الأرض بقدميه بقوة:

- احترامي سيدي .. هذا مطلوب جبناه من المطار .. سيدي.

انسلت إلى أنفي رائحة مميزة، لا يوجد مثيلها إلا في مكاتب ضباط الأمن، هي خليط روائح، العطور المختلفة، السجائر الفاخرة، رائحة العرق الإنساني، رائحة الأرجل.

كل ذلك ممزوج برائحة التعذيب. العذاب الإنساني. رائحة القسوة.

ما أن تصل الرائحة إلى أنف الإنسان حتى يشعر بالرهبة والخوف، وقد شعرت بهما رغم اعتقادي أن التباساً ما وراء كل هذا.

التفت إلينا شخص عملاق، أبيض الشعر ذو وجه أحمر، لمحت عند قدميه شاباً مقرفصاً معصوب العينين، قال العملاق:

- خذه لعند أبو رمزت.

جذبني المرافقان، هذه المرة بعنف ظاهر. ممرات وأدراج، كم يبدو البناء صغيراً من الخارج، بينما هو بكل هذا الاتساع من الداخل، خلال سيرنا تصلني أصوات صراخ إنساني واستغاثات، كلما تقدمنا أكثر تزداد هذه الأصوات ارتفاعاً ووضوحاً، نزلنا – على ما أعتقد - إلى القبو، فتح أحد مرافقيّ الباب، رأيت مصدر الصراخ والاستغاثة، فاجأتني صرخة ألم عالية إثر ضربة كابل على قدمي الشخص الممدد أرضاً والمحشور في دولاب سيارة خارجي، رجلاه مرتفعتان في الهواء.

"أحسست أن شيئي بين فخدي قد ارتجف".

بينما كنت مذهولاً من رؤية الكابل الأسود يرتفع ثم يهوي على قدمي الشاب المحشور في دولاب السيارة الأسود ثم يرتفع ناثراً معه نقاط الدم ونتف اللحم الآدمي، جمّدني صوت زاعق. التفت مرغماً إلى مصدره، في زاوية الغرفة رجل محتقن الوجه، محمرّه، والزبد يرغي على زاويتي فمه:

- طمّش عيونه ..ولا حمار!!

قفز أحد مرافقيّ قفزتين، واحدة إلى الأمام، وأخرى إلى الوراء، وإذا بشيء يوضع على عينيّ ويُربط بمطاط خلف رأسي، ولم أعد أرى شيئا.

- وقفوه على الحائط.

دفعة على ظهري، صفعة على رقبتي، يداي إلى الخلف، أسير مرغما، يرتطم رأسي بالجدار، أقف.

- إرفع يديك لفوق ..ولك كلب ...

أرفعُهما.

- إرفع رجلك اليمين ووقف على رجلك اليسار ..يا ابن الشرموطة.

  أرفع رجلي، أقف.

في الخلف يستمر ما كان يجري، أسمع صوت الكابل، صوت ارتطامه بالقدمين، صوت الشاب المتألم، صوت لهاث الجلاد، أكاد اسمع صوت نتف اللحم التي رأيتها تتطاير قبل قليل.. أصوات.. أصوات.

عند الأعمى الصوت هو السيد.

الكرسي المريح في مطار اورلي، سوزان، مرطبات، بيرة، المقعد الوثير في الطائرة، المضيفة التي تفيض رقةً وجمالاً، العصير.. الشاي !!

تتعب رجلي اليسرى التي تحمل كامل جسدي." لو بدلت اليمنى باليسرى، هل سينتبه الرجل ذو الوجه المحتقن؟! وإذا انتبه ماذا سيفعل ؟!" .

تتخدر اليسرى، لم أعد أستطيع الاحتمال، أغامر ..أبدل !!.. لم يحصل شيء، لم ينتبه أحد، أشعر بالانتصار!.. "بعد سنين طويلة من السجن مستقبلاً، سأكتشف أنه في الصراع الأبدي بين السجين والسجان، كل انتصارات السجين ستكون من هذا العيار!!".

الزمن ثقيل .. ثقيل .. حالة من اللاتصديق تنتابني!! ما الذي يجري؟! ولم أنا هنا ؟! آلاف الأسئلة، أحاول أن أستند بيدي إلى الحائط، ألمسه برؤوس أصابعي .... فجأة يصيح الشاب المحشور في دولاب السيارة الخارجي الأسود:

- بس يا سيدي ..بس، مشان الله، ما عاد فيني أتحمل! رح أحكي كل شي.

بهدوء وبلهجة المنتصر، يقول الرجل ذو الوجه المحتقن:

- بس إبراهيم .. كافي، اتركه، طالعه من الدولاب وخذه لعند الرائد.

اسمعه يتكلم بالهاتف مع الرائد. فكرت: جاء الآن دوري !!؟ .

فعلاً، سمعت صوت سماعة الهاتف تعاد إلى مكانها، صاح المحتقن:

- ولك أيوب ..أيوب.

- نعم سيدي.

- تعال شوف هذا الزبون.

أحس بأيوب خلفي .

- دخله ع الدولاب ..يا لله بسرعة.

شعرت بأن أكثر من خمسة رجال قد جذبوني وأوقعوني أرضاً. " الى الآن، بعد أربعة عشر عاماً مضت على تلك اللحظة، لم أستطع أن أفهم أو أتصور كيف أن أيوب قد حشرني في ذلك الدولاب الخارجي للسيارة، بحيث أصبحت رجلاي مشرعتين في الهواء، لا أستطيع الفكاك مهما حاولت، ولا كيف انتزع حذائي وجواربي !!".

- سيدي ..كابل ولاّ خيزرانة؟

- خيزرانه .. خيزرانه، يظهر الأستاذ نعنوع!

سيخ من النار لسع باطن قدمي، صرخت. قبل انتهاء الصرخة كانت الخيزرانه قد لسعت مرة أخرى .. الضرب متواصل، الصراخ متواصل. رغم ذلك سمعت صوت الرجل المحتقن:

- أيوب.. بس استوى ناديلي.

لا أعرف لماذا يضربونني! لا أعرف ماذا يريدون مني، تجرأت وصرخت: 

- لك يا أخي شو بتريد مني؟.

- كول خرى.. ولامَنيك.

هذا كان رد أيوب الذي لم أر وجهه أبداً. وبدأت أعد الضربات وأنا أصرخ ألما. "بعد ذلك بزمن طويل، أخبرني المتمرسون: إن عدَّ الضربات أول علامات الضعف، وإن هذا يدل على أن المجاهد أو المناضل سينهار أمام المحقق!!..وقتها قلت في نفسي: ولكنني لست مناضلاً ولا مجاهداً. وأخبروني أن من الأفضل في هذه الحالات أن تكون لديك قدرة كبيرة على التركيز النفسي بحيث تركز على مسألة محببة لك، وتحاول أن تنسى قدميك !!".

عند الرقم أربعين أخطأت العد، وبدأت أفقد إحساسي بجسدي، صراخي خفتت حدته، حالة من عدم التوازن و الدوار، الغمام – رغم الطماشة – بدأ يطفو أمام عيني "هل بدأت أفقد وعيي ؟" غمام ..دوار .. مطار أورلي .. العصير البيرة ..الطائرة والمضيفة اللطيفة ...

إحساس مبهم بأن كل شيء قد توقف.. استعدت استيعاب الموقف.. نعم حتى الضرب توقف! خدر... خدر ..

دقائق قد تكون طويلة ... قد تكون قصيرة ..لست أدري !! صحوت!.

صوت الرجل ذو الوجه المحتقن ثانية:

- شو يا أيوب .. صحي ولاّ لأ؟

- صحي .. سيدي.. صحي ، بس .. شخ تحتو!!

- العمى ب عيونه ..الظاهر إنو الأستاذ كتير خروق!!

أحسست بلكزة في خاصرتي، وصوت المحقق:

- ولك شو ؟ .. مانك رجّال ؟! العمى بعيونك ما بتستحي تشخ تحتك ؟! شو اسمك ولا ؟

 قلت له اسمي.

- ولا كلب .. شوف ، لسه ما بلشنا معك، صار فيك هيك، لسه هذا كله مزح وما بلشنا الجد، الأفضل من البداية تريح حالك وتريحنا ... بدك تحكي ... يعني بدك تحكي!! هون عندنا الكل بيحكوا ... وبدك تحكي كل شي .. من طق طق ..ل السلام عليكم ! هاه ..؟ مستعد تحكي ؟

- يا سيدي بحكي شو ما بتريد .. بس قولولي شو بدي أحكي!

- طيب ..هات لنشوف ..شو أسماء أسرتك ولا؟

بدأت أعد له أسماء أهلي، بدءاًً من والدي ووالدتي، لكنه قاطعني صارخاً مهتاجاً:

- ولا جحش ..عم تجدبها علي ؟ أنا بدي أسماء أهلك !! خراي عليك وعلى أهلك، قل لي أسماء أسرتك بالتنظيم ولا ...  كرّ.

- أي تنظيم يا سيدي؟ أي تنظيم؟

- يا أيوب .. يبدو ه التيس عم يغشم حاله!! بدو يعذبنا و يعذب حاله!!

- يا سيدي ..وحياة الرب..وحياة الرب ..ما بعرف عن شو عم تسألني! أي تنظيم هذا يللي عم تحكي عنه؟

صوت خطوات. شعرت أنه اقترب مني، أنفاسه لفحت وجهي، وبهدوء شديد قال:

- تنظيم المنايك أمثالك .. تنظيم الإخوان المسلمين ..شو ما بتعرف تنظيمك ؟!.

"لاحظت أن رائحة فمه كريهة جداً".

لم أدر. هل علي أن أفرح لأن الالتباس بدا واضحاً جلياً ؟ ..أم ألعن حظي العاثر الذي أوقعني في هذا الالتباس ؟.. أم ألعن الصدف التي قدرت أن أصل مباشرة إلى أبو رمزت ؟.. لو أنهم فتشوني وأخذوا أغراضي كما يفعلون مع الجميع.. لتبين لأحد ما من أكون وما هي جريمتي، ولكن أن أدخل فرع المخابرات في اللحظة التي كان يأتي فيها إلى الفرع يومياً مئات المعتقلين من الإخوان المسلمين، وأن أُحشَر بينهم، وأن يعمل الضباط والعناصر على مدار الأربع وعشرين ساعة يومياً، وأن تكون الفوضى داخل الفرع عارمة لهذه الدرجة، فمن المستحيل عندها أن أستطيع إزالة وتوضيح هذا  الالتباس. وفوق كل هذا اسمي الذي لا يوحي بأنني لست مسلماً.

ولكن رغم ذلك، صرخت:

- بس سيدي أنا مسيحي.. أنا مسيحي!!

- شو ولا !! عم تقول مسيحي ؟! العمى بعيونك ولا ..ليش ما حكيت ؟! ليش جايبينك لكان؟..أكيد..أكيد عامل شغلة كبيرة!..مسيحي؟!

- أنتو ما سألتوني يا سيدي ..ومو بس مسيحي .. أنا رجل ملحد ..أنا ما بآمن بالله !!

"الى الآن لم أجد تفسيراً لفذلكتي هذه، فما الغاية من إعلان إلحادي أمام هذا المحقق ؟.. لا أعرف !".

- وملحد كمان؟!

سألها بصوت عليه مسحة من تفكير.

- نعم سيدي ..نعم . والله العظيم..وشوف جواز سفري.

سكت الرجل المحتقن لحظات بدت لي طويلة جداً. سمعت صوت أقدامه تبتعد، وبصوت واضح قال:

- قال ملحد... قال !! إي.. بس نحن دولة إسلامية !!..أيوب..كمل شغلك!!

وعادت خيزرانة أيوب تواصل عملها.

" منذ اللحظات الأولى لاحتكاكي بهؤلاء، استخدمت كلمة _ ياأخي_ عند الإجابة على سؤال ما، لكن أيوب صفعني قائلاً:

_ ولا كلب.. أنا أخوك؟.. أخوك بالخان.

تداركت الأمر وخاطبته ب "يا أستاذ" وصفعة أخرى:

-         أستاذ؟.. أستاذ ببيت أهلك..بين فخاذ أمك.

منذ تلك اللحظات علموني أن أقول: " ياسيدي".

هذه الكلمة لاتستخدم هنا كما بين رجلين مهذبين، هذه الكلمة تُنطق هنا وهي تحمل كل معاني الذلّ والعبودية.

21  نيسان

 فتحت عيني ببطء، أكاد اختنق من نتانة الروائح المحيطة بي، حولي غابة من الأقدام والأرجل، ملقى على الأرض بين هذه الأقدام المكتظة، رائحة الأقدام القذرة، رائحة الدم، رائحة الجروح المتقيحة، رائحة الأرض التي لم تنظف منذ زمن طويل ... الأنفاس الثقيلة لأناس يقفون متلاصقين "علمت بعد قليل من خلال عملية التفقد والعد، أننا كنا ستة وثمانين رجلاً، عاينت سقف الغرفة وقدرت أن مساحتها لا تزيد عن خمسة وعشرين متراً مربعا.!!".

الحديث بين الناس يجري همساً، الأمر الذي يولد أزيزاً متواصلا يخيم فوق الجميع. أردت الوقوف لاستنشاق بعض الهواء.آلام فظيعة في كامل الجسد، تحاملت، تجلدت، وعندما حاولت أن أقف على قدمي صرخت ألماً.

انتبه الناس من حولي، عدة أياد امتدت، أمسكت بي من تحت إبطي وأنهضتني، وقفت مستندا إلى الأيادي، قال شاب يقف إلى جانبي:

- اصبر يا أخي.. اصبر، إنها شدة وتزول!!

قال آخر:

- من يكن مع الله فإن الله سيكون معه..لا تيأس يا أخي.

مع الحركة خفت الآلام قليلاً، نظرت حولي، رجال.. شباب.. ويوجد أطفال في الثانية عشر والثالثة عشر ..كهول.. شيوخ!!

التفتّ إلى الرجل الذي حاول أن يشد من عزيمتي قبل قليل، سألته :

- مين هدول الناس؟ .. ليش نحن هون؟ ليش الناس واقفين؟!

نظر الرجل إليّ بحيرة تقرب من البلاهة وكأنه يقول: كيف يمكن شرح ما هو بديهي؟!! ورد بسؤال:

- أنت ..ما بتعرف شو صاير بالبلد ؟!

"كنت، وأنا في فرنسا، قد سمعت أنباءً عن اضطرابات سياسية تحصل هنا، وأن هناك حزباً يدعى الإخوان المسلمين يقوم ببعض حوادث العنف هنا وهناك. ولكني لم أعر هذه الأنباء أية أهمية، وبقيت مبهمة، فلم أعرف التفاصيل، ولم أكن يوما من هواة نشرات الأخبار، أو العمل السياسي المنظم، رغم أنني كنت في المرحلة الثانوية وما تلاها قريباً من بعض الماركسيين ومتأثراً بأفكارهم، خاصة أفكار خالي الذي كان على ما يبدو يحتل مركزاً قيادياً مهماً في الحزب الشيوعي".

أجبته:

-  لا والله .. ما بعرف! .. ليش شو صاير؟

- ليش مانك عايش بالبلد؟!

و أردت أن اقطع كل دابر أسئلته، فأجبته دفعة واحدة عن كل ما يمكن أن يسأله:

- لأ .. كنت عايش بفرنسا.. واليوم أنا جيت، يعني من..   "نظرت الى ساعتي" أربع عشرة ساعة بس.

- العمى معك ساعة ؟!! ..خبيها يا أخي خبيها، شايف كل الناس هون، هدول كلهم من خيرة المؤمنين والمدافعين عن الإسلام بها البلد، امتحان يا أخي امتحان، امتحان من الله عز وجل.

قاطعته وقد بلغ بي الإحساس بغرابة وضعي وبالغبن والضيق حداً كبيراً، قلت محتدّاً:

- طيب .. العمى أنا شو دخلني؟! أنا مسيحي ماني مسلم، وأنا ملحد ماني مؤمن!!

" هذه هي المرة الثانية التي أعلن فيها أنني ملحد - وكانت فذلكة أيضا -.  في المرة الأولى كلفتني وجبة من خيزرانة أيوب، بأمر من أبو رمزت الذي ذبح المسلمين لأننا نعيش في دولة إسلامية !!! أما في المرة الثانية فإنها ستكلفني سنوات طويلة من العزلة المطلقة، ومعاملة كمعاملة الحشرات، لا بل أسوأ منها".

رأيت محدثي وكأنه قفز إلى الخلف. ولكوننا محشورين، لم يتحرك منه إلا جزؤه العلوي فقط، وبشكل عفوي قال:

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. - ثم بصوت أعلى - .. يا شباب في واحد نصراني كافر !.. في عندنا واحد جاسوس.

صُوّبت نحوي مجموعة من العيون، في نفس الوقت الذي سمعت فيه صوتاً آتياً من خلفي، صوتاً آمراً:

 مين هذا يللي عم يرفع صوته ؟ .. سكوت ..سكوت ! يا لله .. صار وقت التبديل.

لم استطع استيعاب الأمر !! في الجزء الأبعد من الغرفة كانت هناك مجموعة من الناس المستلقين على الأرض، وقد اصطفوا بطريقة غريبة ولكن منتظمة. "كما لو كانوا مجموعة من لفائف التبغ قد اصطفت في علبة". وبين المستلقين وبيننا نحن الواقفين، توجد المجموعة الثالثة، مجموعة المقرفصين على الأرض.

بعد كلام الرجل الضخم  علمت أنه رئيس المهجع  تحركت المجموعات الثلاث. خلال لحظات كان النيام جميعاً قد وقفوا واحتلوا الركن الذي كنا فيه تدريجياً. نحن قرفصنا. المجموعة الثالثة اتجهت الى مكان النوم

 يا لله سيّف.. سيّف، كل النايمين يسيّفو.

"وتبين أن التسييف هو النوم على الجنب".

الأول استلقى لصق الحائط على جنبه، ظهره إلى الحائط، الثاني استلقى أمامه واضعاً البطن على البطن، رأس كل واحد منهما عند أقدام الآخر.

الثالث سيّف ووضع ظهره لصق الظهر الثاني، الرابع بطنه على بطن الثالث، ودائماً الرؤوس عند الأقدام.

تتابع المستلقون إلى أن وصل الصف إلى الحائط الثاني من الغرفة ولازال هناك ستة أو سبعة أشخاص لم يبق لهم مكان. هنا صاح رئيس المهجع:

 يا لله ..يا كبّيس .. أجا شغلك!

قام الرجل الضخم الثاني بهدوء  يبدو مصارعاً  . ذهب إلى أول رجل مستلقٍ عند الحائط ، وبهدوء وضع قدميه بين الحائط وبين الرجل المستلقي، استند بظهره إلى الحائط، ثم أخذ يدفع المستلقي بباطن قدميه، دفع أكثر، أنضغط المستلقون قليلا، أصبح هناك مسافة تتسع لرجل آخر، نادى على واحد من المتبقين: يا لله .. إنزل هون.

نزل الرجل مستلقياً على جنبه بين أقدام الكبّيس والرجل الأول، ثم بدأ الكبّيس بالضغط على الرجل الجديد، ومرة أخرى حقق مسافة تتسع إلى آخر.. يا لله .. إنزل هون، ثم الضغط من جديد ورجل جديد، في النهاية تم استيعاب جميع الذين لم يبق لهم مكان سابقا، عاد الكبيس إلى مكانه بنفس الهدوء، وهو ينفض يديه!.

راقبت المستلقين، بعضهم استغرق في النوم فوراً!!.

ثلاثة أيام قضيتها في تلك الغرفة. "سمعت أن بعضهم سابقاً ولاحقاً، قضى فيها شهوراً عديدة، وفي بعض الحالات كان العدد يزيد على عددنا". خلال هذه الأيام تعرفت على الغرفة جيداً.

بعد قليل من جلوسنا القرفصاء، أحسست أنني أريد قضاء حاجة، التفت إلى جاري وسألته:

 أين يقضي الإنسان حاجته ؟

أشاح بوجهه عني ولم يجب، سألت الجار الآخر، أيضاً لم يجب. تذكرت أنني نصراني، كافر، جاسوس، وستظل تلاحقني هذه التهم.

موقعي قريب من رئيس المهجع، سألته فدلني على المرحاض.  "إذن في الغرفة مرحاض!". اضررت للانتظار أكثر من ساعة. مرحاض واحد، حنفية ماء واحدة، وستة وثمانون شخصاً.

عدت إلى موقعي. حركة ما فوق، نظرت. أنبوب الصرف الصحي، ويبدو أنه للبناء كله، يقطع الغرفة من أولها إلى آخرها. بين الأنبوب وبين سقف الغرفة حوالي النصف متر. فوق هذا الأنبوب ينام اثنان من الفتية عمر كل منهما حوالي خمسة عشر عاماً، احتضن الواحد منهما الأنبوب بيديه وصدره وتدلت الأرجل إلى الأسفل، بينما الرأس مرتاح على صوت خرير الماء داخل الأنبوب.

 بحياتي ما نمت أحلى من ه النومة!!

قال أحدهما في اليوم الثاني.

22 نيسان

استيقظت!

بعد ثماني ساعات من القرفصة جاء دورنا في الاستلقاء. بعض المقرفصين ممن لهم خبرة نبهوا بعضهم إلى ضرورة الذهاب إلى المرحاض قبل الاستلقاء، لأنك إذا استلقيت وانتهى الكبيس من عمله، ومهما كان السبب الذي قمت من الاستلقاء من أجله فإن مكانك سيذهب.

استلقيت مضغوطاً بظهر رجُل على ظهري، وبطن رجل آخر على بطني، "تذكرت صديقتي التي تحب الوضعية الفرنسية !!".

خلف رأسي قدمان، وأمامه قدمان. كيف يمكن للإنسان أن ينام وهو يشم هذه الرائحة ؟!!

ورغم ذلك نمت نوماً عميقاً .. والآن استيقظت.. صحوت تماما .. كل شيء في جسدي مضغوط ..لكن الضغط على أسفل بطني شديد ويكاد يكون مؤلما. "يبدو أن لصيقي الأمامي قد امتلأت مثانته، فتحجر عضوه، وطبيعي أن ينغرز في بطني أنا". وفي ظل هكذا ظروف من المعيب أن تفكر باحتمال آخر!!

حاولت زحزحته فلم أفلح، فمع كل حركة ينغرز أكثر، سمعت شخيره، فكرت أن أمد يدي على صعوبة ذلك، ولكن خشيت أن يستيقظ لحظتها. "ماذا سيقول إذا استيقظ وعضوه في يدي ؟!!".

انسللت من وضعية الاستلقاء بصعوبة، وذهبت إلى المرحاض.

ثلاث ليال.. وثلاث مرات يفتح الباب في اليوم ويغلق، وفي كل مرة يفتح الباب.. يدخل الطعام في أوانٍ يسمونها قصعات. صباحاً لكل واحد رغيف مرقد مع قطعة حلاوة، هذان الصنفان يوزعهما رئيس المهجع، وخمس قصعات من سائل أسود "تبين انه شاي". وفي المساء كذلك. تدور القصعة من شخص لآخر .. يرفعها، يرشف منها، يناولها لمن بجانبه. أما الظهر، فتكون القصعات مليئةً بالبرغل، مع قصعة رب البندورة تحتوي بعض الخضار.

" لن أنسى أبدا الطريقة التي تخاطف بها الناس قطع اللحم في المرة الوحيدة التي جلبوا فيها لحماً. فكرت، حتى الوجبتين الصباحية والمسائية، لولا رئيس المهجع لتحول المهجع إلى غابة".

خلال هذه الساعات التي بدت لي بطول دهر، كنت كمن يطفو في الزمان والمكان. رغبة بدت لي كاعتقاد راسخ بأن كل هذا ماهو إلا خطأ سخيف سينتهي بعد قليل.

حسي المهني والفني قابع في زاوية بعيدة يراقب ولايتدخل، هذا الحس الذي يبقى خارج حيز الألم والقلق، يبقى متيقظاً ومحايداً مهما كانت درجة آلامي النفسية أو الجسدية، هو يراقب ويسجل.

أتذكر قولاً لأحد أساتذتي المرموقين: إن الحدث مهما كان صغيراً، فإن المخرج الجيد يستطيع أن يصنع منه فيلماً جيداً، الحدث هو الهيكل العظمي وعلى المخرج إكساؤه باللحم والثياب.

هذا الحس التقط مشهد تخاطف قطع اللحم، وأحس المفارقة الصارخة بين مجموعة من الأشياء المحيطة التي تدعو للإقياء_ أو على الأقل_ العزوف عن كل شيء، وبين الفعل المادي الممارس من قبل خاطفي قطع اللحم.

ما الذي يفقد هؤلاء الناس الحس باللياقة والذوق؟! وبالتالي بالكرامة والعزة البشرية، هل هو الصراع من أجل البقاء؟.. قد يكون.

ثلاثة أيام بلياليها، أكلت نصف رغيف مع قطعة حلاوة.

23 نيسان

استيقظت!.

كان الاستلقاء الثاني " النوم على البلاط " أفضل قليلاً، استيقظت قبل انتهاء مدة الثماني ساعات، لم أشعر برغبة في النهوض. حلمت أني قد شبعت نوماً ولكني أتابع استرخاءً وترفاً.

"تمنيت لو أني أستطيع المطمطة قليلاً!. تمنيت فنجان قهوة وسيجارة".

مكاني قريب من رئيس المهجع. أسمع حديثه والكبّيس، فتح السجان طلاّقة الباب وهي النافذة الصغيرة في أعلى الباب. قفز رئيس المهجع، تبادل حديثاً مطولاً مع السجان الذي فتح الطلاّقة. عاد رئس المهجع.                   قال للكبّيس همسا:

-          جاي دفعات كبيرة من المحافظات .. وجماعتنا هدول .. اليوم أو بكرة راح يترحلوا ع السجن الصحراوي.

ردّ الكبّيس متسائلاً باستغراب:

-         العمى.. شو راح يحطوا الناس كلها بالسجن !؟ ... إي .. ما ضل حدا برات السجن !!.

-         ولك سكوت .. اوعا حدا يسمعك ... ما دخلنا نحن يا عمّي!!.

"رئيس المهجع والكبّيس مسجونان بجرم التهريب".

عند المساء، وعندما انتقلت مجموعتنا من الوقوف إلى القرفصة، تعمدت أن أقرفص قرب رئيس المهجع. انتظرت حتى قبيل وجبة الطعام الثالثة، وبوجه حاولت أن يكون بشوشاً، قلت له:

-         يا أستاذ .. عفواً .. ممكن احكي معك شغلة ؟.

-         أستاذ ؟! .. من وين لوين ساويتني أستاذ ؟ .. نعم شو بدك ؟! .

-         يا سيد .. أكيد في غلط!.

-         وين الغلط ؟.. يا أستاذ.

-         يا أخي أنا ماني مسلم .. حتى أكون إخوان مسلمين.. أنا مسيحي وليش حطوني هون، ليش جابوني أصلاً، ما بعرف!! .

-         لك يا أخي الطاسة ضايعة .. ما في حدا لحدا .! .؟

-         طيب ممكن تقول لرئيس السجن .. لشي حدا مسؤول هالحكي ؟

-         وين أنا بدي شوف مدير السجن ؟.. خلص .. خلص.. هلق بيجي السجان وراح أنقل له ه الحكي.

سمعت طقطقة القفل، وقف رئيس المهجع، أمسكت يده:

-         أرجو ألا تنسى أن تقول له.

هز رأسه، فُتح الباب، "يا لله دخّلوا الأكل". دخل الأكل. خاطب رئيس المهجع السجان:

-         يا سيدي ... في عنا واحد هون .. عم يقول ..

 قاطعه السجان مسرعاً:

- عم يقول ما عم يقول ! أنا ما بعرف شي ... هلق ببعتلك رئيس النوبة .

بعدما يقرب من نصف الساعة، طقطقة الباب مجددا، ظهر شخص وسيم، وبلهجة جبلية ثقيلة:

- شو في عندك يا رئيس المهجع؟

جذبني رئيس المهجع من كتفي، وقفت. قال:

- احكي له... احكي له، لسيدنا أبو رامي!

متلعثماً.. متأتئاً .. شرحت له الأمر، وبنفس اللهجة الجبلية ردّ علي :

- طيب أنا شو بدي ساوي لك ؟ ... مسيحي ؟ .. إيه وإذا مسيحي !... بلكي عاونت الأخوان المسلمين مثلاً ... يعني بلكي بعتهم سلاح مثلا ... إي هيك بتكون أضرط منهم مثلا ...

ثم التفت إلى السجان، أمره :

- سكّر ... ولا سكّر الباب .   

وقبل أن يغلق السجان الباب، التفت أبو رامي إلى الناس في المهجع، وبصوت عال قال :

- ولا .. عرصات ... ولا انتو مانكن إخوان مسلمين ... انتو إخوان شياطين ... فرجونا شطارتكم لشوف .... هاي عندكم واحد مسيحي ... انشطوا معه .... اهدوه للدين الحنيف ... بس شاطرين تقتلوا وتخربوا ب هالبلد !!

أغلق الباب الحديدي بيده بقوة، ومالبث أن فتحه فوراً وعلى وجهه ابتسامة عريضة، تعلقت كل الأنظار به، فتابع يقول :

- ولا كلاب ... عرصات ... إذا حسنتوا تساووه مسلم، لا تنسوا تنظموه بالإخوان المسلمين، مشان تصير حبسته محرزة.

وأغلق الباب بقوة.

الاستلقاء الثالث:

لصيقي الخلفي كان ذا مؤخرة عريضة وكبيرة، ضايقني وأراحني، إنه أفضل من ذوي العظام الناتئة التي تنغرز في جسدك بلا رحمة عند الكبس. لصيقي الأمامي شاب في العشرينات لا تبدو عليه علائم التدين.

عاصاني النوم بعد حديث أبو رامي. كان هناك أمل كبير يعيش داخلي بأن أحداً ما سيكتشف الخطأ، وفوراً يُصار الى تصحيح هذا الخطأ، ولكن بعد هذا الحديث ... والطاسة ضايعة ... والترحيل إلى السجن الصحراوي !!... خالطني اليأس والخوف من المصير المجهول.

ساعتان أو ثلاث... لست أدري ... وأخيرا بدأت أهوم ، التعب ، الإرهاق ، النوم ... ثم ... أصحو تدريجياً. إحساس بالضيق. أقترب من الصحو أكثر، أشعر أن قدميّ مكبلتان، كانت قدماي قد تورمتا من خيزرانة أيوب، أصحو أكثر ... شعور بالدفء والرطوبة يصعد من قدمي، قليل من الألم أيضاً... حركة ما... أنتفض... أصحو تماماً... أرفع رأسي وأنظر إلى قدمي العلوية:

لصيقي الأمامي، الشاب، يقبض على قدمي العلوية بكلتا يديه، وقد وضع أصبع قدمي الكبير في فمه وأخذ يمصه !! لكزته ... ثم لكزته، تراخت يداه ، سحب رأسه! تابعت اللكز، استيقظ الشاب تماماً، نظر إلي بغضب واستنكار!!. وبحدة قال :

- ليش فيقتني؟ !

- شو ليش فيقتك ؟ مانك شايف شو عم تساوي ؟

- يلعن سماك!! قطعت علي أحلى منام !!

- شوكنت شايف منام ؟

- نعم .... كنا أنا وميسون ... وباللحظة يلي مسكتها ومسكتني ... وبلشنا ... ب "          " حضرتك فيقتني!!

- ومين هي ميسون .... دخلك ؟

- ميسون؟ .... ميسون خطيبتي.

- عفواً لا تواخذني ... ارجع نام .. لكن لا تخربط بين إصبع رجلي وشفايف ميسون .

 لم أستطع النوم بعدها ... أسئلة وأسئلة، أي عالم هذاالذي حشرت فيه؟! هل هذه هي البداية؟ ولكن إلى أين؟. هل بإمكان أي كاتب أو سينارست أو مخرج تخيل هكذا عوالم؟! أسئلة تطارد أسئلة !! ...

} طوال ثلاثة عشر عاما ، لم أسمع مرة قرقعة المفتاح في الياب الحديدي إلا وأحسست أن قلبي يكاد ينخلع!! لم أستطع الاعتياد عليها{

قرقع المفتاح في غير وقته، قفز رئيس المهجع في اللحظة التي انفتح فيها الباب، أبو رامي والى جانبه شخص طويل في الخمسينات يضع نظارات طبية بيضاء، خلفهما حوالي العشرين عنصرا، قال ذو النظارات:

- وين رئيس المهجع ؟

- حاضر سيدي !

- بهدوء ونظام، طالعلي هدول كلهن لبره، اتنين اتنين، ما يبقى هون إلا أنت والمهرب الثاني ...وين المهرب التاني؟

- حاضر سيدي.

- خليك هون أنت كمان... يا لله  .

وخرجنا ... اثنين ...  اثنين ... وكان فجر 24 نيسان.

24 نيسان

اليدان مقيدتان بالقيد الحديدي إلى الخلف، كاحل القدم مربوط بجنزير حديدي إلى كاحل سجين آخر، نسير بصعوبة، نتعثر، ممرات ... أدراج .... تُسجّل أسماؤنا ضمن لوائح.

يتركنا ذو النظارات بضع دقائق واقفين و يذهب حاملاً اللوائح الاسمية، يعود، من المؤكد انه ذو أهمية، لم لا أشرح له الأمر، يقترب مني، أعاجله:

-         يا سيدي كلمة واحدة.

-         كول خرى  ..... ولا.

وصفعة مدوية.

تنبثق آلاف النجوم البراقة أمام عيني، الفجر ربيعي، أترنح.... أسكت.

يسحبوننا إلى خارج البناء، أرى أربع سيارات شحن ذات أقفاص معدنية، السجناء يسمون هذه السيارات ب " سيارات اللحمة ". قد تكون سميت كذلك لأنها تشبه السيارات التي يوزعون بها الأغنام المذبوحة من المسالخ إلى الجزارين ، أو لأن السجناء يصطفون بداخلها كما تصف الذبائح داخل سيارات اللحمة الحقيقية.

سلم معدني ذو ثلاث عوارض، نصعد بصعوبة بسبب الأرجل المقيدة وعدم إمكانية الاستعانة باليدين، يجلسوننا على أرضية السيارة، تمتلىء السيارة، يغلق الباب بقفل كبير، يجلس عنصران من الأمن أمام الباب من الخارج. انتظار .... انتظار، ثم تنطلق السيارات سوية.

نصبح خارج المدينة، تزداد سرعة السيارات، نترك الظلام وراءنا، شيئاً فشيئاً تلوح أولى خيوط الفجر الفضية.

} هل هي رحلة من الظلام إلى النور ؟ ... آمل ذلك. {

سمعت أحدهم يسأل آخر:

-         قديش بدنا وقت حتى نوصل ؟  

-         تيسير الله... شي أربع أو خمس ساعات.

-    يا أخي... والله ما فيني أتحمل كل هالوقت !!... كنت نايم .. فيقوني من النوم وفوراً لبرّه... وهلق أنا كتير محصور.... شو بدي ساوي ؟!.. مثانتي راح تطق !!

-         إذا مافيك تصبر... أنا بفكلك سحاب البنطلون، وساويها هون بالسيارة.

-         هيك معقول ؟!!! قدام كل هالناس؟

-         إي ... إي .. مافيها شي، والحمد لله مافي نسوان بيناتنا.

ثم وبصوتٍ مرتفعٍ متوجها بالحديث إلى الجميع:

- يا شباب... يا شباب اسمعوني.

توجهت إليه الأنظار، شرح لهم الأمر، بعضهم همهم، وبعضهم سكت، البعض وافق، فأدار المتكلم ظهره إلى المحصور، وبيديه المقيدتين خلفاً، تلمس السحاب، فكّه، أخرج "ه " له، وابتعد.

- يا لله ... ريّح حالك يا أخي .

بعدها وحتى وصولنا السجن الصحراوي تكررت هذه العملية أربع مرات، خمسة رجال آخرون تقيأوا فوق بركة البول. "القيء كله ذو لون واحد".

أما جاري، المقيدة رجلي إلى رجله، فيبدو أنه كان يعاني من تعفن الأمعاء، لفني بغلالة من روائح بطنه !

في الثامنة صباحاً وصلنا أمام السجن الصحراوي. " في الطريق كنت أنظر كثيرا إلى ساعتي، وأكثر من شخص نصحني أن أخبأها، ولكن أين ؟... تركتها على معصمي".

أمام السجن.

عشرات من عناصر الشرطة العسكرية، الباب صغير، تصدم العين لوحة حجرية فوق الباب مخططة بالأسود النافر:

"ولكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب".

فتح لنا رجال الأمن أبواب السيارات، هم أنفسهم اللذين كانوا يعاملوننا بفظاظة وقسوة، أنزلونا من السيارات برفق مشوب بالشفقة، حتى أن أحدهم قال: " الله يفرج عنكم ! ". وفيما بينهم كانوا يتحدثون همساً وبصوت خافت، يتحاشون النظر إلى عناصر الشرطة العسكرية الذين اصطفوا حولنا بما يشبه الدائرة، لاحظت أن لهم جميعاً نفس الوقفة تقريبا، الساقان منفرجتان قليلاً، الصدر مشدود إلى الوراء، اليد اليسرى تتكىء على الخصر، اليد اليمنى تحمل إما عصاً غليظة أو كبلاً مجدولاً من أشرطة الكهرباء أو شيئاً مطاطيا أسودَ يشبه الحزام. " عرفت فيما بعد أنه قشاط مروحة محرك الدبابة ". ينظرون إلينا والى عناصر الأمن نظرة فوقية تحمل استخفافاً بعناصر الأمن ووعيداً مبطنا لنا. حركاتهم تدل على نفاذ الصبر من بطء إجراءات التسليم والاستلام، ينقلون ثقل جسدهم من رجل إلى رجل، يهزون يدهم اليمنى بما تحمل هزات تبرم وغيظ، لباسهم جميعا عسكري أنيق، أعلى رتبة بينهم مساعد أول، وهو الذي كان يوقع على لوائح استلامنا .

} قرأت في مكان ما أن رجال إحدى القبائل الإفريقية عندما التقوا بالإنسان الأوربي الأبيض لأول مرة نظروا إلى بعضهم البعض بدهشة، وتساءلوا: هذا الرجل، لماذا قام بسلخ وجهه ؟! {

وتخيلت أن عناصر الشرطة العسكرية، هؤلاء الذين أراهم امامي، ذوو وجوه مسلوخة، أية قوة سلخت هذه الوجوه ؟ ... كيف سلخت ؟... لماذا ؟... أين ؟... لست أدري لكن ما أراه أن الوجوه البديلة لا تشبه وجوه باقي البشر، وجوه أهلنا وأصدقائنا !!... مسحة غير بشرية ... هي غير مرئية، صحيح، ولكنها قطعاً  موجودة!.

- الله يعطيكم العافية ... خلص انتو تيسروا، خلصت مهمتكم.

هكذا قال مساعد الشرطة العسكرية للرجل ذي النظارات. كانوا قد فكوا قيودنا، السجناء غريزياً التصقوا بعضهم ببعض. ذهب رجال الأمن.

بدأت الدائرة تضيق .... صمت مطبق!!

- يا لله ... صفوهم تنين تنين ... دخلوهم.

وأدخلونا من هذا الباب الصغير، وفوقنا منحوتة "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب". اثنين اثنين، في رتل طويل داخل ساحة في وسطها وعلى جنباتها بعض الأشجار والورود الريفية، وهي محاطة من جميع الجهات بغرف تشرف عليها. وقف الرتل أمام مساعد آخر، جلس خلف طاولة أخرى، ولوائح اسمية أخرى، أكثر من مائة عنصر من عناصر الشرطة العسكرية يحومون حولنا، جميع السجناء يتحاشون النظر مباشرة إلى أي عنصر. رأسنا منخفض قليلا، أكتافنا متهدلة. وقفة فيها خشوع، وقفة تصاغر وذل، كيف اتفق جميع السجناء على هذه الوضعية وكأننا تدربنا عليها سابقا؟! لست ادري.

كأن كل واحد منا يحاول الاختباء داخل ذاته !!!

حكني رأسي من القفا، وكما يفعل كل إنسان يحكه رأسه، مددت يدي عفوياً وحككت !! وسمعت صوتاً راعداً:

-         ولك يا جماعة ... شوفوا الكلب شوفوا !! عم يحك راسه كمان ...!!

-         شوووو .... ! عم يحك راسه ؟!

وسحبتني الأيدي خارج الرتل، تقاذفتني صفعاً ولكماً، لكمة تقذفني، صفعة توقفني، النار في الرقبة والوجه .... تمنيت لو أبكي قليلاً... طلبني المساعد لتسجيلي فلم يبق غيري، سجلني وأصبحت نزيلاً رسمياً في هذا السجن.

مرة أخرى قادونا، بين غرفتين باب حديدي صغير، أصغر من الباب الأول، " لم الأبواب تصغر كلما تقدمنا ؟! " ومن هذا الباب ولجنا إلى ساحة كبيرة، إنها الساحة الأولى، ساحة مفروشة بالإسفلت، كل الطرقات والساحات مفروشة بالإسفلت الخشن، يحيط بالساحة أبنية من طابق واحد مكتوب عليها أرقام متسلسلة : المهجع الثالث ، المهجع الرابع ... المهجع السابع.

} الأبواب تصغر ولكن في الساحة الأولى فتحت جهنم أوسع أبوابها، وكنا وقودها !! {.

بهدوء ودقة أوقفونا بعضنا إلى جانب بعض، يفصل بين الواحد والآخر متران أو ثلاثة، صاح المساعد:

- هلق ... كل واحد منكن يشلح كل تيابه .... حط تيابك على يمينك .... خليك بالسروال الداخلي فقط.

لاحظت أنني الوحيد الذي يلبس " سليب " بعد ان خلع الجميع ثيابهم ووقفوا ينتظرون،                         وانتابني إحساس بالغربة !..

كان صوت المساعد في البداية هادئاً، ومع مرور الوقت أخذ يتصاعد شيئاً فشيئاً، حدةً وشدة، وكلما تصاعد صوت المساعد كنت أحس أن التوتر والعصبية يزدادان في حركات الشرطة... والخوف والهلع يزدادان في نفوس السجناء، يغضون أبصارهم وتتهدل أكتافهم أكثر فأكثر!.

اقترب مني شرطيان يحملان الكرابيج، قال أحدهم:

- نزّل الكيلوت ولا ...واعمل حركتين أمان!!

 أنزلت الكيلوت حتى الركبة، نظرت إلى الشرطيين مستفهماً ...

-         اعمل حركتين أمان ولا...

-         شلون يا سيدي بدي اعمل.. شلون حركتين الأمان؟

-         قرفص وقوم مرتين ولا... صحيح انك جحش!

  "حركات الأمان تُعمل خشية أن يكون السجناء قد خبأوا شيئاً ممنوعاً في شرجهم!"

نظر أحد الشرطيين الى الآخر مبتسماً، وبصوت خفيض:

- العمى ... شو تبعو صغير!!

نظرت الي"ه"، إلى تبعي، نعم لقد كان صغيراً جداً !! حتى هو أحس بالذعر الشديد والهلع، فا ختبأ داخل كيسه، أنا لم أستطع الاختباء!

خلفي مهجع كبير كتب على بابه / المهجع 5 -6 /. تخرج من جانب الباب بالوعة "صرف صحي" على وجه الأرض، تسيل في هذه البالوعة مياه سوداء قذرة.

انتهى التفتيش. جرى بدقة محترفين، حتى ثنايا الثياب، جميع النقود والأوراق، أي شيء معدني، الأحزمة وأربطة الأحذية ... جميعها صودرت، "أنا كنت حافيا". ورغم كل هذه الدقة بالتفتيش فإن ساعة يدي مرت، لم أتعمد إخفاءها، فقط لم ينتبه لها احد، وعندما صاح المساعد:

- ولا كلاب ... كل واحد يحمل تيابه.

حملت ثيابي ووضعتها على يدي اليسرى، وفورا فككت الساعة ودسستها في الجيب الداخلي لسترتي، وشعور آخر بالانتصار.!

 

البلديات :

كلمة خاصة بالسجون هنا، هم جنود سجناء ... الفارون من الخدمة العسكرية، الجنود الذين يرتكبون جرائم القتل، الاغتصاب، السرقة، مدمنو المخدرات... كل الجنود المجرمين، حثالة الجيش، يقضون فترة عقوبتهم في السجون العسكرية، في مثل هذا السجن، مهمتهم التنظيف وتوزيع الطعام وغيره من الأعمال... من هنا جاء اسم البلديات، هؤلاء في السجن الصحراوي لهم مهمات أخرى.

جمعونا في أحد أطراف الساحة، تكومنا ونحن نحمل ثيابنا، صوت المساعد ارتفع كثيراً، البلديات يقفون في الطرف الآخر من الساحة. كثير من البلديات، البعض منهم يحمل عصاً غليظةً مربوط بها حبل متدل يصل بين طرفيها، حبل سميك يتدلى من العصا "الفلقة". صاح المساعد بصوت مشحون موجهاً حديثه للسجناء :

-         مين فيكم ضابط ؟.. الضباط تعو لهون.

خرج اثنان من بين السجناء، أحدهما في منتصف العمر، الآخر شاب.

-         شو رتبتك ؟

-         عميد.

-         عميد؟!!.

-         نعم.

-         وأنت شو رتبتك؟

-         ملازم أول.

-         هممم.

التفت المساعد إلى السجناء، وبصوت أقوى:

- مين فيكم طبيب .. أو مهندس أو محامي.. يطلع لبره.

خرج من بيننا أكثر من عشرة أشخاص.

-         وقفوا هون..  ثم متوجهاً للسجناء:

-         كل واحد معه شهادة جامعة ... يطلع لبرّات الصف.

خرج أكثر من ثلاثين شخصاً، كنت أنا بينهم.

مشى المساعد مبتعداً، وقف بجوار البالوعة، صاح بالشرطة:

- جيبولي سيادة العميد!!

انقض أكثر من عشرة عناصر على العميد، وبلحظات كان أمام المساعد!!

-         كيفك سيادة العميد؟

-         الحمد لله ... الذي لا يحمد على مكروه سواه.

-         شو سيادة العميد ... مانك عطشان؟

-         لا .. شكراً.

-    بس لازم نشربك.. يعني نحن عرب، والعرب مشهورين بالكرم، يعني لازم نقدم لك ضيافة... مو من شان شي ... منشان واجبك!!

بعد لهجة الاستهزاء والسخرية صمت الاثنان قليلاً، ثم انتفض المساعد، وقال بصوت زاعق:

-         شايف البالوعة ؟ .. انبطح واشرب منها حتى ترتوي ... يالله ولا كلب!!

-         لا ... ما راح اشرب.

وكأن مساً كهربائياً أصاب المساعد، وباستغراب صادق صرخ:

- شو ..شو ...شو ؟؟!!! ما بتشرب!!!

عندها التفت إلى عناصر الشرطة العسكرية ولا زال وجهه ينطق بالدهشة:

- شربوه .... شربوه على طريقتكن و لا كلاب.... تحركوا لشوف.

العميد عارٍ إلا من السروال الداخلي، حافٍ، وبلحظات قليلة اصطبغ جسده بالخطوط الحمراء والزرقاء، أكثر من عشرة عناصر انقضوا عليه، تناوشوه، عصي غليظة، كوابل مجدولة، أقشطة مراوح الدبابات .... كلها تنهال عليه من جميع الجهات، من أول لحظة بدأ العميد يقاوم، يضرب بيديه العنصر الذي يراه أمامه، أصاب بعضهم بضربات يديه .... كان يلكم ... يصفع ... يحاول جاهداً أن يمسك بواحد منهم، ولكنهم كانوا يضربونه وبشدة على يديه اللتين يمدهما للإمساك بهم... تزداد ضراوتهم، خيوط الدم تسيل من مختلف أنحاء جسده .... تمزق السروال وانقطع المطاط، أضحى العميد عارياً تماماً، إليتاه أكثر بياضاً من سائر أنحاء جسده، خيوط الدم أكثر وضوحاً عليهما، خصيتاه تتأرجحان مع كل ضربة أو حركة، بعد قليل تدلت يداه الى جانبيه وأخذتا تتأرجحان أيضاً، سمعت صوتاً هامساً خلفي:

-تكسروا إيديه !! يا لطيف ... هالعميد يا رجال كتير .. يا مجنون!! 

لم ألتفت إلى مصدر الكلام. كنت مأخوذاً بما يجري أمامي، مع الضرب بدأ العناصر يحاولون أن يبطحوه أرضاً، العميد يقاوم، يملص من بين أيديهم... تساعده دماؤه التي جعلت جسده لزجاً. تكاثروا عليه، كلما نجحوا في إحنائه قليلا ... ينتفض ويتملص من قبضاتهم وبعد كل حركة تزداد ضراوة الضرب ...

رأيت هراوة غليظة ترتفع من خلف العميد وتهوي بسرعة البرق !!.. سمعت صوت ارتطامها برأس العميد....! صوتأ لا يشبه أي صوت آخر....! حتى عناصر الشرطة العسكرية توقفوا عن الضرب، شُلوا لدى سماعهم الصوت لثوان....صاحب الهراوة تراجع خطوتين إلى الوراء .. جامدَ العينين ...!! العميد دار بجذعه ربع دورة وكأنه يريد أن يلتفت الى الخلف لرؤية ضاربه !! خطا خطوةً واحدة، وعندما هم برفع رجله الثانية .... انهار متكوماً على الإسفلت الخشن !!

الصمت صفحة بيضاء صقيلة تمتد في فضاءات الساحة الأولى ... شقها صوت المساعد القوي:

- يا لله ولا حمير ... اسحبوه وخلوه يشرب!!

سحب عناصر الشرطة العميد، واحد منهم التفت الى المساعد وقال:

-         يا سيدي .. هذا غايب عن الوعي، شلون بدو يشرب؟!

-         حطوا رأسه بالبالوعة .. بيصحى .. بعدين شربوه.

وضعوا رأس العميد بمياه البالوعة، ولكنه لم يصح.

-         يا سيدي .. يمكن أعطاك عمره!

-         الله لا يرحمه ... اسحبوه لنص الساحة وزتوه هونيك.

من يديه جروه على ظهره، رأسه يتأرجح، اختلطت الدماء بأشياء بيضاء وسوداء لزجة على وجهه!! مسار من خطوط حمراء قاتمة تمتد على الإسفلت الخشن من البالوعة الى منتصف الساحة حيث تمددت جثة العميد.

صاح المساعد وقد توترت وبرزت حبال رقبته:

-         جيبولي .. هالكرّ الحقير ... الملازم لهون.

وبعد أن أصبح الملازم أمامه:

-         شو يا حقير ؟ .. بدك تشرب ولا لأ؟

-         حاضر سيدي .. حاضر .. بشرب.

انبطح الملازم على الإسفلت أمام البالوعة، غطس فكيه في مياه البالوعة، وضع المساعد حذاءه العسكري على رأس الملازم المنبطح وضغطه إلى الأسفل قائلاً:

-         ما بيكفي هيك. لازم تشرب وتبلع!!

ثم تابع المساعد موجهاً حديثه للشرطة:

-         وهلق .. خدوا هالكلب عا التشريفة ... بدي يكون الاستقبال تمام .!

الملازم الذي شرب وبلع المياه القذرة بما فيها من بصاق ومخاط وبول وقاذورات أخرى، ألقي على ظهره بسرعة مذهلة، ووضع اثنان من البلديات قدميه في حبل الفلقة، لفوا الحبل على كاحليه ورفعوا القدمين إلى أعلى.

القدمان مشرعتان في الهواء، ثلاثة عناصر من الشرطة توزعوا أمام القدمين وحولهما بطريقة مدروسة بحيث كانت كرابيجهم تهوي على القدمين بتناغم عجيب دون أن تعيق إحدى الكرابيج الأخرى، ارتفع صراخ الملازم عالياً، تلوى جسده يحاول خلاصاً، ولكن دون جدوى.

استفز صراخُ الملازم واستغاثاتًه العالية المساعد، مشى باتجاهه مسرعاً، وكلاعب كرة قدم وجه مقدمة بوطه إلى رأس الملازم وقذف الكرة.

صرخ الملازم صرخة حيوانية، صرخةً كالعواء... استُفز المساعد أكثر فأكثر، سحق فم الملازم بأسفل البوط، عناصر الشرطة يواصلون عملهم على قدمي الملازم،  المساعد يواصل عمله سحقاً، الرأس، الصدر، البطن... رفسات على الخاصرة ... حركات هستيرية للمساعد وهو يصرخ صراخاً بالكاد يفهم:

-    ولاك عرصات ... ولاك حقيرين .... عم تشتغلوا ضد الرئيس !!... ولاك سوّاك زلمة ... سواك ملازم بالجيش ... وبتشتغل ضده ؟!!... ولاك يا عملاء... يا جواسيس !.. ولاك الرئيس خلانا نشبع خبز... وهلق جايين أنتو يا كلاب تشتغلوا ضده ؟!... يا عملاء أمريكا.... يا عملاء اسرائيل ... يا ولاد الشرموطة ... هلق عم تترجوا ؟!!... بره كنتوا عاملين حالكن رجال ... يا جبناء ... هلق عم تصرخ ولاك حقير !!...

على إيقاع صرخات المساعد و"دبيكه" فوق الملازم، كانت ضربات الشرطة تزداد عنفاً وشراسةً، وصرخات واستغاثات الملازم تخفت شيئاً فشيئاً.

بعد قليل تمدد الملازم أول إلى جانب العميد !!. "لا أدري حتى الآن ماذا حل به ؟ هل مات أم لا ؟ ...هل كان لدى إدارة السجن أوامر بقتل الضباط أثناء الاستقبال أو التشريفة ؟".

والآن جاء دورنا. " إجاك الموت يا تارك الصلاة !" عبارة سمعتها فيما بعد من الإسلاميين حتى مللتها، ولكن فعلا جاء دورنا، حملة الشهادات الجامعية، ليسانس ، بكالوريوس ، دبلوم ، ماجستير .. دكتوراه ..

الأطباء شربوا وبلعوا البالوعة، المهندسون شربوا وبلعوا البالوعة، المحامون .. أساتذة الجامعات .. وحتى المخرج السينمائي .. شربت وبلعت البالوعة .. الطعم .. لا يمكن وصفه !! والغريب انه ولا واحد من بين كل الشاربين تقيأ !!.

وأصبح بين هؤلاء جميعاً شيئان مشتركان، الشهادة الجامعية، وشرب البالوعة !! .

ثم أكثر من ثلاثين، كل فلقة يحملها اثنان من البلديات، أمامها ثلاثة عناصر وثلاث كرابيج.... والكثير.. الكثير.. من القسوة، الألم، الصراخ.

الألم.. الضعف.. القهر.. القسوة.. الموت.. !!

قدماي متورمتان من آثار خيزرانة أيوب ، بالكاد أستطيع المشي. عندما مشيت في الساحة الأولى فوق الإسفلت الخشن ، كنت كمن يمشي على المسامير ، رفع البلديات قدمي الى الأعلى بالفلقة ، ثلاثة كرابيج تلسع قدمي المتورمتين .. موجة داخلية عارمة من الألم تتكوم وتتصاعد من البطن لتنفجر في الصدر... تنحبس الأنفاس عندما تهوي الكرابيج ... الرئتان تتشنجان ... تنغلقان على الهواء المحبوس وتتوقفان عن العمل ... ومع الموجة الثانية للألم وانفجاره في الصدر ... ينفجر الهواء المحبوس في الرئتين عن صرخة مؤلمة، أحسها تخرج من قحف الرأس ... من العينين ... أصرخ ... وأصرخ والقدمان مسمرتان في الهواء ... كل محاولاتي لتحريكهما ... لإزاحتهما ... فاشلة !! تنفصلان عني ... مصدر للألم فقط ... سلك يصل بينهما وبين أسفل البطن والصدر... موجات متلاطمة من الألم، تبدأ الموجة عندهما، تمتد وتتصاعد مرورا بأسفل البطن ... البطن ... الصدر ... ثم تتكسر عند الرأس، وصرخة ألم ورعب ومهانة ناثرةً الذهولَ وعدم الفهم والتصديق، أكثر من ثلاثين صرخة متوازية... متشابكة، لأكثر من ثلاثين رجلاً، تنتشر في فضاء الساحة الأولى.

في البداية استنجدت بالله  وأنا الذي كنت طوال عمري أتباهى بإلحادي  ، ولكن الله لم يستطع أن يفعل شيئا أمام جبروت الشرطة !!! فنقمت وتساءلت: ولكن أين الله، الساحة الأولى أكبر دليل على عدم وجود كائن اسمه الله!!

أكثر من ثلاثين صرخة ألم ... قهر ... تخرج من أفواه أكثر من ثلاثين رجلاً مثقفاً .. متعلماً !! أكثر من ثلاثين رأساً، كل منها يحوي الكثير من الطموح والأمل والأحلام، الكل كان يصرخ ... عواء ثلاثين ذئباً ... زئير أكثر من ثلاثين أسداً ... لن يكون أعلى من صراخ هؤلاء الرجال المتحضرين ... ولن يكون أكثر وحشية ... وحيوانية!!

يضيع صراخي وسط هذه الغابة من الصراخ وأصوات ارتطام الكرابيج بالأقدام ... وترتفع الأمواج.

أستنجد برئيس الدولة .. يشتد الضرب .. وأفهم منهم أن علي ألا أدنس اسم فخامته بفمي القذر. استنجد بنبيهم:

-         من شان محمد!!!

لطمة على الرأس وصوت المساعد الراعد:

-         إي .. بدي نيك أمك ... على أم محمد!!! ليش في حدا خرب بيتنا غير محمد ؟!

رأيته يبتعد عني ببطء.. فصرخت:

-         يا سيدي دخيلك .. دخيل أختك.. بس كلمة واحدة!!

موجات الألم تتصاعد أكثر فأكثر ... تتلاطم أشد فأشد ... المساعد يبتعد أبعد فأبعد ... وأصرخ بأعلى صوتي:

-    يا سيدي ... أنا ماني مسلم ... أنا مسيحي ... أنا مسيحي ... يا سيدي دخيلك ... أبوس أيدك ... أبوس رجلك ... أنا مسيحي!!

وببطء شديد يقف المساعد. لقد ميّز صوتي ضمن كل هذه الأصوات، سمعه، يعود ببطء أشد، يصل قربي، يرفع يده اليمنى لعناصر الشرطة بإشارة "كفى".

} مصيري الآن كله مرتبط بكلمة من فم هذا المساعد الذي بالكاد يعرف القراءة. {

يزرر عينيه ويسألني:

-أنت مسيحي ولا ؟

- نعم سيدي نعم ... الله يخليك ويطول عمرك ..

- مسيحي... وصاير إخوان مسلمين؟!!

- لا ..لا  سيدي لا ... أنا ماني إخوان مسلمين.

- لكن ليش جايبينك ؟ .. هيك !! .. لوجه الله !! ... يعني تبلّي ؟ ... آه يا كلب ..آه ، إذا كانوا هدول العرصات يستحقوا الموت مرة واحدة، إنت لازم تموت مرتين!! ... يا لله شباب زيدوا العيار لهالكلب ... مسيحي وصاير إخوان مسلمين!!

مضى، والعناصر الثلاثة يزيدون العيار على القدمين وعنصر رابع تنهال كرباجه على فخدي العاريتين.

تقلصات الألم تزداد، لحم الفخذين رقيق ويختلف عن لحم باطن القدمين، أختنق بصرخاتي أسكت لحظات لأتنفس وأعب الهواء الذي سأصرخه، غمامة حمراء تتأرجح أمام عيني، حد الألم لا يطاق.

بعد أن خذلني المساعد، أعود إلى الله، لم يبق من مخلص غيره، وساعات الضيق وانعدام الأمل يعود فيها الإنسان إلى الله. عدت إليه، راجياً "سرا" أن ينجيني من الأشرار، كنت في غاية التهذيب وأعمق درجات الأيمان والخشوع:

-         يا رب خلصني ... أنت المخلص، نجني من بين أيديهم.

قلت هذا الكلام دون أن انطقه، طاف بذهني، ومنه خرج مسرعاً باتجاه السماء.

قواي تخور، قدرتي على الصراخ تخفت، يصبح الألم حاداً كنصل الشفرة، أرى الكرابيج ترتفع عالياً، أتوقعها، إذا نزلت هذه الكرابيج على جسدي فأنا حتماً سأموت !! لم يبق أي طاقة لتحمل المزيد من الألم !!.. الموت... أعود إلى الله:

-يا رب دعني أموت ... دعني أموت ... خلصني من هذا العذاب.

يصبح الموت أمنية!! أتمنى الموت صادقا ... حتى الموت لا أستطيع الحصول عليه!!.

الكرابيج ترتفع وتهوي ... الغمامة الحمراء، السماء وردية، يخف الألم... يخفت الصراخ ... موجة ضعيفة من الخدر والنمل تنزل من القدمين إلى باقي أنحاء الجسم!!.

الخدر يزداد ... موجة من الارتياح اللذيذ تغمرني ... الكرابيج ترتفع وتهوي ... الألم اللذيذ ... أشعر بالجسد المتوتر قد ارتخى ... ثم أغيب !!!!.

 

16 تشرين الثاني

منذ الصباح يعم ضجيج مكبرات الصوت. أرجاء السجن وما حوله تبث الأناشيد الوطنية والأناشيد التي تمجد رئيس الدولة وتسبغ عليه صفات الحكمة والشجاعة وتصفه بأوصاف عديدة، فهو المفدى، القائد العظيم، المعلم، المُلهِم... تذكر أفضاله العميمة على جميع أبناء الشعب ، فلولاه لما بزغت الشمس ،وهو الذي يمنحنا الهواء لنتنفس ، والماء لنشرب ...

نحن السجناء جميعاً نقف في الساحات في صفوف منتظمة، ولأول مرة منذ مجيئي الى هنا سمحوا لنا بالوقوف ضمن الساحة مفتوحي الأعين.

أعطوا واحداً من السجناء ورقة، ومما هو مكتوب عليها يهتف... فنهتف وراءه: بالروح...بالدم سنفدي رئيسنا المحبوب والمعبود !.

قبل قليل انتهى الاحتفال. أعادونا الى المهجع.

أشعر الآن ان صحتي أصبحت جيدة، لقد مضى الآن أكثر من ستة اشهر ونصف على اللحظة التي أعدت فيها فتح عيني على رأس حليق "على الصفر"، ينحني الشخص ذو الراس الحليق فوقي وبيده مزقة قماش مبللة بالماء يحاول أن يمسح بها بعض جروح جسدي، لاحظ صحوتي فابتسم لي، قال:

-    الحمد لله انك صحيت، أنا الدكتور زاهي ... لا تحكي ولا تتحرك .. والحمد لله على سلامتك، يا أخوي انكتب لك عمر جديد، احمد الله سبحانه وتعالى.

لم استطع لا الكلام ولا الحركة. لزمتني ثلاثة أيام أخرى بعد صحوتي الأولى لأتكلم، وأكثر من شهر حتى أستطيع الحركة. وطوال هذه الفترة لازمني الدكتور زاهي بعنايته الفائقة، وبلهجة المنطقة الشرقية المحببة كان يشرح لي بما يشبه التقرير الطبي أن وضعي كان خطراً لسببين: الأول أن أذية بالغة قد أصابت إحدى الكليتين وأنني بقيت فترة لابأس بها أتبول دماً. أما الثاني فهو أن مساحة الجلد المتهتك في جسدي قد اقتربت من حد الخطر. وإن تفاوتت النسبة حسب المنطقة. تهتك جلد الظهر بكامله تقريبا ، قسم من البطن ، الجهة الأمامية من الفخذين، القدمان من الجهتين العلوية والسفلية. أما جلد القدم اليسرى فقد انكشط من الجهة العلوية وبانت العظام.

أخبرني زاهي إنني بقيت ستة أيام غائباً عن الوعي ومعلقاً بين الحياة والموت، كان الملح هو المادة المعقمة الوحيدة المتوفرة، بالملح عالجني الشيخ زاهي، كما كان يحب أن ينادى متنازلا عن لقب دكتور بكل طيبة خاطر وكان يشربني الماء وقليلا من المربى المذاب والمخفف بالماء.

وكما شرح لي وضعي الصحي فإنه أخبرني عن المعلومات التي وصلتهم من المهاجع الأخرى والتي تقول إن عدد أفراد دفعتنا كان / 91 / شخصاً، قتل منهم ثلاثة في الساحة الأولى أثناء الاستقبال وهؤلاء لم يدخلوهم إلى المهاجع، وخلال فترة غيابي عن الوعي مات عشرة آخرون متأثرين بجروحهم وإصاباتهم البليغة، واثنان من الدفعة أصيبا بشلل دائم نتيجة أذى كبير بالعمود الفقري، واحد فقط أصبح أعمى بعد أن تلقى ضربة كرباج فقأت عينيه، وبعد أن انتهى زاهي من سرد هذه المعلومات قال:

-    والحمد لله على سلامتك .. احمد الله يا أخوي احمده.. و رغم أن الصلاة ممنوعة بس أنت تقدر تصلي سراً ركعتين لوجه الله !.

 

الحلاقة

 بعد تسعة أيام من صحوتي وقف رئيس المهجع في الصباح وقال مخاطباً الناس في المهجع:

-    يا إخوان .. اليوم دورنا بالحلاقة، اصبروا وصابرو، سيعيننا الله .. احملوا المرضى ويللي ما بيحسن يمشي على البطانيات، كل بطانية يحملها أربعة فدائيين ... وقدر ما فيكم أسرعوا، السرعة أفضل.. و الله يقوينا!

فتح الباب، وقف الجميع، حملني أربعة أشخاص، قال لي أحدهم بحماس:

-         لا تْخافْ يا أخي لا تخاف.. راح نحميك بأجسامنا.

صفان من الشرطة على جانبي الباب، بين الشرطي والآخر حوالي المترين، كل شرطي يحمل كرباجاً، ما أن يصل السجين إلى الباب حتى يبدأ الركض، تتلقاه كرابيج الصف اليميني للشرطة من الأمام، الكرابيج اليسارية تطارده من الخلف، من يتعثر أو يقع .. قد يموت فهو يكون قد كسر التناغم وإيقاع الضرب، يقف الصف من خلفه وتجتمع عليه الكرابيج جميعاً، فإذا كان ذا بنية قوية واستطاع النهوض رغم عشرات الكرابيج المنهالة عليه.. فقد نجا. أماالضعيف فستبقيه الكرابيج لصيقاً بالأرض إلى الأبد.

حوالي الثلاثمائة سجين من مهجعناركضوا بسرعة، تلقوا الضربات السريعة والكاوية، اصطفوا في الساحة ووجوههم إلى الحائط وأعينهم مغمضة، نحن المرضى وضعونا في منتصف الساحة، الكثير من عناصر الشرطة، الكثير من البلديات وفي أيديهم أمواس الحلاقة للذقن وماكينات حلاقة الشعر على الصفر.

اللؤم ....؟!!

كانت هذه هي التجربة الأولى للحلاقة، وسأجربها في القادم من الأيام كثيراً، ولكن منذ المرة الأولى ونتيجة لوضعي كمريض مرمي في وسط الساحة يستطيع أن يراقب كل ما يجري فيها رغم أن عينيه مغمضتان! طرقت ذهني تساؤلات إنسانية كثيرة:

البلديات سجناء مثلنا، مقهورون مثلنا، صحيح إنهم مجرمون، قتلة ولصوص ولوطيون، ولكنهم يعانون من قهر السجن مثلما نعاني، ولا تعني لهم السياسة شيئا... ولكن من أين تنبع هذه القسوة اللئيمة والضرب المبرح اللذان يكيلهما البلديات للسجناء أثناء الحلاقة؟!

وكنت دائما أتساءل بذهول: هل من المعقول أن يكون الإنسان لئيماً إلى هذه الدرجة ؟!! وهذا اللؤم المجاني ؟!!

حلاقة الذقن عملية تشريح أو حراثة للوجه مصحوبة بالبصاق والشتائم، وكان بعضهم يتلذذ بافتعال السعال قبل البصق على وجه السجين كي يكون البصاق مصحوبا بالمخاط !!! وتلتصق بصقة البلديات بالوجه ! ويمنع السجين من مسحها.

حلاقة الرأس .. مع كل سحبة ماكينة على الرأس، وبعد أن ينفض البلديات الشعر المحلوق، ضربة قوية بالماكينة نفسها على المكان المحلوق وهو يصر على أسنانه ويشتم:

-         يا عرص يا ابن العرص .. منين جايب كل هالقمل؟!

-         ولك يا منيك ... شو عامل راسك مزرعة قمل؟!

ومع كل ضربة ماكينة، إما أن ينفر الدم، أو تظهر كرة صغيرة في الرأس مكان الضربة!!.

الكثير من السجناء عرف الكثير من البلديات، هم من نفس قراهم وبلداتهم ومدنهم وأحيائهم، وتبقى نفس الأسئلة مطروحة: ولكن لماذا؟ .. لماذا هو لئيم بهذا القدر؟.. ما هي دوافعه النفسية؟.. هل القسوة و السادية المتأصلة أو العارضة يمكن أن تنتقل بالعدوى؟ أم هي روح القطيع؟!.

 " وددت لو تتاح لي فرصة محادثة احدهم ".

بعد أن انتهى أحد البلديات من حلاقتي بضربة قوية على رأسي الحليق، قال:

-         ياكلب يا ابن الكلب .. كسرتلي ضهري!! .. عامل حالك ما بتحسن توقف!!.

أدخلونا جميعاً إلى المهجع بين صفي الشرطة والكرابيج تنهال أكثر ما تنهال على الرؤوس الحليقة!! استلقيت في الركن المخصص للمرضى. إمارات السرور والفرح بادية على كل المساجين:

 " هاهي حلاقة أخرى .. تمر بسلام .. لا زلنا أحياء !! ".   

              

المهجع

خلال استلقائي أكثر من شهر في هذا الركن أتيح لي أن أعاين وأفهم الكثير من الأشياء والأمور في هذا المهجع الكبير. يبلغ طول المهجع / 15 / خمسة عشر متراً، وعرضه حوالي ستة أمتار باب حديدي أسود، في أعلى الجدران نوافذ صغيرة ملاصقة للسقف و مسلحة بقضبان حديدية سميكة، لا يتجاوز عرض النافذة خمسين سنتمتراً وطولها حوالي المتر. أهم ما في المهجع هو الفتحة السقفية، وهي فتحة في منتصف السقف طولها أربعة أمتار وعرضها متران، مسلحة أيضا بقضبان حديدية متينة، هذه الفتحة ويسمونها " الشراقة " تتيح للحارس المسلح ببندقية والذي يقف على سطح المهجع أن يراقب ويعاين كل ما يجري داخل المهجع وعلى مدار ساعات الليل والنهار، فوق كل مهجع في السجن الصحراوي حارس مسلح من الشرطة العسكرية.

ساعات اليوم هنا جزءان لاثالث لهما، اثنتا عشر ساعة نوم إجباري، اثنتا عشرة ساعة جلوس إجباري، كل سجين يملك ثلاث بطانيات عسكرية فقط، يطوي واحدة ويمدها على الأرض فتصبح فراشاً ويتغطى باثنتين، من يملك ألبسة زائدة عن الثياب التي يرتديها يطويها ويجعلها وسادة أو يضع حذاءه كوسادة، ومن يكن مثلي لا يملك ثياباً أو حذاءً فإنه ينام بلا وسادة.

وعلى كل سجين أن يتقيد بالتعليمات، من السادسة مساءً إلى السادسة صباحاً يجب أن يكون نائماً لا يتحرك، من السادسة صباحاً إلى السادسة مساءً يجب أن يطوي البطانيات الثلاث ويجلس عليها لا يتحرك.

الذهاب إلى المرحاض يتم وفق نظام خاص، بحيث أن الشرطي الحارس في أي ساعة يخطر له أن ينظر داخل المهجع يجب ألا يرى أكثر من شخص واحد يمشي داخل المهجع، ورئيس المهجع وهو سجين أيضاً يجب أن ينظم كل هذا تحت طائلة المسؤولية.

لدى أي خلل../ إذا تحرك النائم حركة غير طبيعية مثلاً، إذا كان إثنان يتحدثان إلى بعضهما ليلاً، إذا كان هناك أكثر من شخص يمشي، إذا كان جالساً بطريقةً لاتعجب الحارس/ يصيح الحارس برئيس المهجع:

-         رئيس المهجع .... ولا كرّ !!

-         نعم سيدي.

-         علمّ ...هالكلب.

وهكذا يكون قد تم تعليم السجين.

نوبة كل حارس ساعتان. وعدد الذين يتم تعليمهم تابع لمزاج كل حارس، وكل حارس يبلغ من يليه في الحراسة بعدد الذين علّمهم، وفي الصباح يكون المجموع عند الرقيب الذي يحضر إلى الساحة وبصحبته عدد كبير من عناصر الشرطة العسكرية والبلديات، ويصيح:

-         ولا ... رئيس المهجع ياحقير ... عندك تلاتة وتلاتين معلِّمين .... طالعهن لبره لاشوف!.

ويخرج الفدائيون!.. جزاء وعقوبة التعليم أصبحت عرفاً: خمسمائة جلدة.

 

الطعام 

ثلاث وجبات في اليوم، رغيفان من الخبز العسكري لكل سجين، الطعام يأتي في أوان بلاستيكية، العشاء على الأغلب شوربة عدس، الغداء برغل ومرق البطاطا، البطاطا تطبخ مع رب البندورة بدون أن تغسل أو تفرم، ولذلك دائماً هناك عدة سنتمترات من التراب الراقد في أسفل جاط المرق، الفطور لبنة أو زيتون وأحياناً بيض مسلوق.

يجلب البلديات جاطات الطعام، يضعونها أمام المهاجع ويذهبون، أكثر من ستمائة رغيف خبز، حوالي العشر جاطات بلاستيك مليئة بالبرغل ومثلها من المرقة، كلها تكوّم أمام المهجع.

ثلاث مرات في اليوم يفتح الباب الحديدي الأسود لإدخال الطعام، وفي كل مرة يكون الفدائيون واقفين خلف الباب، ما أن يفتح حتى يصبحوا جميعاً وبلمح البصر عند الطعام، وبسرعة البرق يحملونه، فدائي واحد لكل جاط برغل، جاط المرق يحمله اثنان، الخبز يكومونه على البطانيات وكل بطانية يحملها أربعة أشخاص، طوال الوقت الذي يستغرقه إدخال الطعام تكون كرابيج الشرطة قد فعلت فعلها، يتفنن عناصر الشرطة ويبتدعون أساليب جديدة:

أمام جاط شوربة العدس الغالي، أمسك الرقيب بالفدائي الذي هم بحمل الجاط. قال:

-         أترك الجاط على الأرض ... ولا شرموط!

ترك السجين الجاط ووقف.

-         وهلق ... غطس إيديك بالشوربة لشوف!

وخرجت اليدان من الشوربة مسلوختين. وأجبره بعدها أن يحمل الجاط بيديه المسلوختين إلى داخل المهجع.

كل بضعة أيام يقتل واحد أو أكثر أثناء إدخال الطعام إلى المهاجع.

الفدائيون

يوجد هنا أناس من كل الأعمار، رجال في الثمانين من عمرهم، فتيان لم يتجاوزوا الخامسة عشر، يوجد مرضى، ضعفاء، ذوو عاهات سواء كانت في الأصل أو حدثت جراء التعذيب.

الفدائيون مجموعة من الشباب الأقوياء ذوي الأجساد المتينة، تطوعوا من تلقاء أنفسهم للقيام بالمهام الخطرة التي تحتاج إلى قوة تحمل أو سرعة، مثل إدخال الطعام إلى المهجع، أو إذا تم " تعليم " أحد المرضى أو الشيوخ من قبل الحراس، فإن أحد الفدائيين ينوب عن هذا المريض في تلقي الخمسمائة جلدة، لا يعرف أحد أي مهجع في السجن كان السباق إلى ابتداع هذه الفرقة الفدائية، ولكن في لحظة ما تبين أن لدى كل مهجع في السجن فرقة فدائية، "اكتشفت الشرطة في السنوات اللاحقة هذا الأمر، ففي أحد الأيام كان الحراس يتسلون بمراقبة أحد المهاجع وتعليم السجناء، وأصبح عدد الأشخاص الذين تم تعليمهم يفوق عدد أعضاء الفرقة الفدائية، وأصر بعض الفدائيين على الخروج مرة ثانية لتلقي خمسمائة جلدة أخرى، وفوراً اكتشف عناصر الشرطة آثار الضرب والكدمات الحديثة على أرجلهم ولكنهم رغم ذلك لم يفعلوا شيئا حيال الأمر".

سمعت أحد الفدائيين يقول إلى زميله:

-         نحن مشروع شهادة.

وهم صادقون في سعيهم إلى الاستشهاد، وقد أنقذت الفرق الفدائية حياة الكثير، وعملهم يتسم بالإخلاص والاندفاع الشديدين النابعين عن إيمان عميق.

في مرة أخرى سمعت دعاء أحدهم بعد الصلاة التي أداها جالساً:

- اللهم انك قادر على كل شيء، باسمك الجليل هبني الشهادة، وخذني إلى جنتك حيث النبيّون             والمؤمنون الأخيار.

بعضهم كان يقوم بعمله بتواضع شديد وصمت، وعلى بعضهم الآخر كنت ألاحظ نبرة زهو وتشوف في حديثه.

الحمّام

نحن في المهجع ستة مرضى لا نذهب إلى الحمام، أنا وزميلي في الدفعة الذي بقي غائباً عن الوعي طوال الفترة التي كنت لا أستطيع الحركة فيها، "وكان قد دخل إلى هذا المهجع من دفعتنا ثلاثة، واحد مات بعد يومين، أنا صحوت بعد ستة أيام، أما الثالث فقد بقي شهرين يتأرجح بين الموت والحياة، صحا بعدها وشفي" وأربعة مشلولون، اثنان منهم بالأصل شلل أطفال ، الثالث أثناء الاستقبال، أما الرابع فقد شل نتيجة التعذيب ب " المظلة ".

الحمام إجباري للجميع إلا الذين لا يستطيعون الحركة، خاصة وقد كتب على بابه إن النظافة من الإيمان، ذهب المهجع إلى الحمام مرتين خلال فترة الشهر التي بقيت فيها لا أستطيع الحركة، يخلعون كل ثيابهم يبقون فقط بالسراويل الداخلية.

بعد شفائي نسبياً وقدرتي على الحركة ذهبت مع المهجع إلى الحمّام!.

الكيلوت الذي كنت ارتديه عند مجيئي إما أنه تقطع أثناء الاستقبال أو أنه ضاع، صحوت بعد ستة أيام فوجدت نفسي مرتدياً سروالاً داخلياً يصل إلى الركبتين وثيابي مكومة إلى جانبي، وبهذا السروال وقفت بالصف داخل المهجع بانتظار الذهاب إلى الحمّام. الكل متوجس، الكل خائف، نقف خلف الباب الأسود تحيط بنا الأدعية والابتهالات إلى الله، خلفي اثنان يتحادثان حول أبواب السجن، كلها حديدية وكلها سوداء، أحدهم يروي للآخر عن سجينة اسمها "ترفة" كانت قد قطعت عهداً على نفسها نتيجة لكثرة الاستفزازات التي كانت تشكلها الأبواب السوداء لها بأنها بعد خروجها من السجن ستحضر نجاراً يخلع لها كل أبواب بيتها، هي لا تريد أبواباً مغلقةً أبداً.

فتح الباب ... خرجنا ركضاً، اثنين اثنين، حولنا من الجانبين الشرطة يحملون الكرابيج التي ترتفع عالياً وتهوي على من تصادفه، الكل حفاة " كانت قدماي لما تشفى جيدا بعد "، من الساحة السادسة عبرنا ثلاث ساحات أخرى حتى وصلنا الحمام، بناء مستطيل يحوي العديد من المقاصير، وهو من مخلفات الحقبة الفرنسية، أدخلونا كل اثنين إلى مقصورة بلا باب، وزعوا الصابون العسكري ضرباً على الرأس، لكل واحدا لوح من الصابون .. صياح ... شتائم ... تركيز شديد في هذا الصياح وهذه الشتائم حول موضوع ألا نستغل فرصة وجودنا في الحمام ونلوط بعضنا بعضا !!، وأنهم يعرفون أننا كلنا لوطيون وأننا نفعل كذا وكذا ببعضنا.

الماء النازل من "الدوش" يغلي، البخار يتصاعد، تعديل حرارة الماء غير ممكنة، بالكاد دهنّا أجسادنا بالماء، دقيقة واحدة قد تزيد أو تنقص بضع ثوان، نخرج بعدها تحت وقع الكرابيج، الضرب على الأجساد المبللة ذو وقع مختلف، يلسع لسعاً، نعود إلى المهجع ركضاً نحمل آثار الضرب فقط.

" سوف يلغى الحمّام بعد فترة نتيجة اكتظاظ السجن وسيتم تحويله إلى مهجع يوضع فيه المعتقلون            الشيوعيون ."

تابع الدكتور زاهي العناية بي وبالمرضى الآخرين، جروحي كلها على وشك الشفاء عدا الجرح على وجه القدم اليسرى، و نتيجة لأن عظام مشط القدم قد بانت بعد انكشاط الجلد عنها فقد خشي الدكتور زاهي من مضاعفات أخرى، حضر مرة ومعه شخص آخر وعرف به على أنه طبيب أخصائي جلدية، وقد أخبرني هذا الطبيب أن بمهجعنا فقط يوجد ثلاثة وعشرون طبيباً من مختلف الاختصاصات.

زميلي في الدفعة قاوم الموت أكثر من شهرين، أخذت في نهايتها صحته في التحسن، أيضا بفضل عناية وسهر زاهي، ثم بدأ يصحو من غيبوبته تدريجياً، وعندما أصبح بإمكانه تحريك رأسه ... نظر باتجاهي وفوجيء بي تماما !! أصيب بالدهشة الشديدة لثوان قليلة حتى أن زاهي الذي كان جانبه سأله إذا كان قد رأى ديناصوراً؟! ولكنه تململ ولم يجب.

خلال الشهرين الأولين كانت قد نشأت بعض العلاقات بيني وبين بعض السجناء، فعلاقتي مع زاهي تعتبر جيدة، لقد جلسنا عدة مرات سوية نتحدث عن السجن والحرية، بثني العديد من همومه الطبية والعائلية حتى، كشف لي عن خشيته من تفشي وباء ما داخل السجن، وأمام انعدام الأدوية والوسائل الطبية فإن أي وباء سيكون قاضياً، سألته مرة عن تاريخ سجنه ومجيئه إلى السجن الصحراوي، قال:

-         بعد المجزرة مباشرة!!

-         وأية مجزرة تعني؟!

-         ولو يارجل !!! ... معقول ما سمعت بالمجزرة يا أخوي؟

-         لا والله .. ما سمعت .. أناما كنت بالبلد، كنت بفرنسا.

بعدها سرد علي تفاصيل ما حدث، أو ما سمي بمجزرة السجن الصحراوي:

-    كان في هذا السجن قرابة الألف سجين إسلامي، وفي يوم حزيراني قائظ، حطت طائرات الهليوكوبتر محملة بالجنود الذين يقودهم شقيق الرئيس، مدججين بالأسلحة، نزلوا من الطائرات في ساحات السجن، دخلوا على السجناء في مهاجعهم وبالرشاشات حصدوهم حصداً! جمعوا قسماً منهم في الساحات وقضوا عليهم جميعاً. زاهي أتى إلى هذا السجن بعد المجزرة تماما ،كانت الدماء والشعر الآدمي ونتف من اللحم والأدمغة لا زالت لاصقة على جدران وأرضية المهجع الذي أدخلوه فيه.

يتوقف زاهي قليلاعن السرد، ينظر عاليا خلال الشراقة نظرة ساهمة ... ويتابع:

-    رحمهم الله جميعا ... الجميع استشهد، كانوا أبطالاً من الرواد الأوائل، عليهم رحمة الله، تصور يا أخوي ... انه خلال المجزرة هجم كم واحد من الشباب المسلم على العساكر المسلحين، واستطاعوا انتزاع بعض الأسلحة... هم يعرفون أنهم راح يموتون على كل حال... ليش ما يقاومون ؟!.. وظلوا يقاومون بالأسلحة هاي ... حتى استشهدوا أو نفذت ذخيرتهم ... كبدوا العساكر خسائر كبيرة ... عليهم رحمة الله ... الغريب انك ما سمعت بهذي المجزرة.. يا أخوي!!.

وخلال هذين الشهرين لم يسألني أحد عن ديني، فلم يكن يخطر على بال أحدهم أن أكون غير مسلمٍ ، خاصة وأن اسمي لا يوحي بذلك، وبعد التجربة التي مررت بها في مركز المخابرات لم أخبر أحداً بذلك خاصة انه سيكون خارج السياق.

بعد يومين من دهشة زميلي في الدفعة عندما رآني، كان المهجع كله قد عرف أنني:

-         نصراني، ملحد، وجاسوس!!

 ظهرت النتائج فوراً. قوطعت مقاطعةً تامة من الجميع، لم يعد أحد منهم يحييني، إذا قلت لأحدهم صباح الخير أشاح بوجهه إلى الطرف الآخر عكس تعاليم نبيهم التي تقول: "ردوا التحية بأحسن منها".

في اليوم الثالث للدهشة، تظاهر زاهي بأنه يريد الكشف على قدمي. قال لي وهو منهمك بفحصها:

-    أن تكون نصراني... هذا مو مشكلة، انت من أهل الكتاب !.. شغلة أنك تكون جاسوس للنظام .... هاي ماتخرط لا بالعقل ولا بالمنطق ... أنت كنت راح تموت بالتعذيب... وهذول الكلاب ما يقتلون جواسيسهم !!... بس قولي ... صحيح انك أعلنت قدام كل الناس بفرع المخابرات انك ملحد ؟!  .

-         صحيح يا دكتور... ولكني قلتها تخلصاً من العذاب والسجن.

-    هذا مبرر غير كافي، لكنني أظن أنك رجل جيد، لذلك أقول لك ... خليك حذر...انتبه!! بهذا المهجع جماعة من المتشددين... يفكرون انه من واجبهم قتل الكفار "حيثما وجدوا"، وأنت صار معروف للجميع إنك كافر!!... وشغله ثانيه أرجو انه ما تحاول تحكي معي... فأنا لا أستطيع أن أكون شاذاً عن الجماعة!

-         شكراً يا دكتور... على كل شيء.

-         لا شكر على واجب.

مضى أسبوع دون حوادث تذكر، وذات يوم خرجت من المرحاض وأنا أعرج، أحاط بي فورا حوالي عشرة أشخاص كلهم شباب في بداية العشرينات من عمرهم... صرّت كلمات من بين أسنان أحدهم:

-         وقف ولك ... يا نجس .. يا كافر ... هذي هي نهايتك يا كلب.

تجمدت مكاني، ذهلت... لأجزاء من الثانية نظرت إلى العيون المحدقة بي، فائض من الحقد والكراهية ينفجر من هذه العيون، العزم.. الإصرار..!.

تضيق الدائرة حولي ... استسلام كلي، بل شلل بالتفكير.

طوال الفترة الماضية لم أكف عن الخوف، الخوف من المخابرات، الخوف من الشرطة العسكرية، الخوف لدى قرقعة المفتاح في باب المهجع، الخوف من الضرب والألم والموت ... أما الآن .. إنني أرى الموت يحدق بي من خلال الأعين المحيطة بي ..! هل خفت ؟ ... لا أدري، لقد كنت حجراً... قطعة خشب مجردة من الأحاسيس والمشاعر، لا تفكير.. لا رد فعل... جمود كلي... واستسلام تام...!!.

صمت رصاصي ثقيل يخيم على الفسحة الصغيرة أمام المرحاض، وهي مكان لا يستطيع الحارس على السطح أن يراه من شراقة السقف، كان اقترابهم مني بطيئاً، خطواتهم صغيرة جداً نحو مركز الدائرة الذي هو أنا، هل تعمدوا تعذيبي عبر إطالة عمرخوفي وفزعي؟!.. هل كانوا خائفين من ردود فعلي؟!.. هل هم لم يحزموا أمر موتي بعد؟!.. لست أدري!.

 فجأة كُسر الصمت... وكُسر محيط الدائرة البشري حولي، قفز شخص كبير السن وأحاطني بيديه، التفت إلى المحيطين بي وبصوت هادىء أجش قال:

-         من يعتدي على هذا الشخص فقد اعتدى علي!.

قالها بالفصحى. بوغت المهاجمون... توقفوا، قال أحدهم:

-    يا شيخ محمود ... يا شيخ محمود، نحن نحترمك ، لكن ... ما الك علاقة بهذا الأمر!.. أنت شيخ دين، ولازم تكون معنا في القضاء على الكفر والكفار!.

-         لا... لست معكم! قال الله تعالى: "لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق".

-         لكن... هذا الشخص كافر يا شيخ محمود!.

-         الله وحده يعلم ما في النفوس وسرائر القلوب.

-         لكنه نصراني... وجاسوس!

-         وجادلهم بالتي هي أحسن، ولا تأخذوا الناس بالشبهات.

كل الناس بالمهجع يراقبون ما يحدث، ولكن لم يتجمع حولنا إلا عدد قليل، خمنت أن أكثرهم من أنصار الشيخ محمود، فجأة رأيت الدكتور زاهي إلى جانبي، التفت إليه الشيخ محمود وقال آمراً:

-         يا زاهي ... خود هالشخص لمكانه.

سحبني الدكتور زاهي أو جرني من كتفي، انفتحت الدائرة حولنا دون أية ممانعة، أوصلني إلى فراشي       وقال لي:

-         اجلس مكانك ولا تحكي أية كلمة!.

مكان رئيس المهجع إلى جانب الباب حيث يكون جاهزاً دوماً عند فتح الباب لمخاطبة الشرطة، وعلى الطرف الآخر من الباب وضعوا فراشي بدلاً من الشخص الذي كان يحتله. يبدوا أنهم رفضوا أن أكون بينهم، الباب على يساري، الشخص الذي على يميني وهو الجار الوحيد لي أبعد فراشه عن فراشي أكثر من ربع متر رغم الاكتظاظ والازدحام، ولم يحتج أحد.

أضحت مقاطعتهم لي تامة، التهديد لا زال مسلطاً، جلست على فراشي ساهماً أتحاشى النظر                     إلى أي اتجاه محدد.

مع الأيام بدأت تنمو حولي قوقعة بجدارين:

 جدار صاغه كرهم لي. كنت أسبح في بحر من الكراهية والحقد والاشمئزاز، وحاولت جاهداً ألا أغرق في هذا البحر.

 والجدار الثاني صاغه خوفي منهم!

وفتحت نافذة في جدار القوقعة القاسي وبدأت أتلصص على المهجع من الداخل، وهو الأمر الوحيد              الذي استطعته.

31 كانون الأول

اليوم عيد رأس السنة، ترى أين تسهر سوزان اليوم ؟! "لم أكن منتبهاً الى مسألة التواريخ هذه، الأيام هنا كلها متشابهة، ولكني سمعت رئيس المهجع يقول ملاحظة إلى بعض السجناء بأن اليوم هو رأس السنة الميلادية وأن غداً هو يوم الخميس، ومن حسن الحظ أن هؤلاء الظالمين يسهرون ويعربدون ويفسقون في هذا اليوم حتى الصباح، بعدها ينامون، ومعنى ذلك ان الهليوكوبتر لن تأتي غداً، لا محاكمات ... لا إعدامات".

بعدها أصغيت للأصوات خارج المهجع، يبدو أن بعض عناصر الشرطة يحتفلون برأس السنة في غرفهم، "حفل في الجحيم" خطر بذهني هذا العنوان، هل هو عنوان فيلم ؟! عنوان رواية ؟... أو مسرحية ؟ لا يهم.

سوزان، خلال الشهور الثمانية الماضية كان حنيني إليها يكاد يكون وحشياً!.

أهلي، أين هم الآن؟ ماذا يفعلون؟ بماذا يفسرون غيابي طوال هذه الفترة؟ ماذا فعلوا ليعرفوا أين أنا ؟... وأين ولماذا اختفيت ؟... أبي وأمي يعيشان هنا وكانا ينتظران وصولي... أنا لم أصل إلى البيت، إذاً أين أنا؟؟ يجب أن يكون هذا تساؤلهما الرئيسي!.

أبي ضابط متقاعد وله معارفه، وكذلك خالي فهو يملك بعض النفوذ، وبعض الأقرباء الآخرين، لماذا لم يتحركوا حتى الآن لانتشالي من هذا الجحيم؟... ولكن ما أدراني!! قطعا إن جميعهم الآن يتحركون ويسعون.

هذه الأفكار أشعرتني ببعض الأمل!.

أحتاج إلى شخص أحادثه عن كل هذه الأمور، أسأله، أبثه همومي. أنظر حولي فتصدمني الوجوه المغلقة، أكثر من نصف عام مرّ على مقاطعتهم لي، فقط بضع كلمات من رئيس المهجع عند الضرورة، وبضع كلمات من زاهي خلسة. فمي مطبق لا يفتح إلا أثناء إدخال الطعام. أحس أن لساني قد بدأ يصدأ. هل يمكن للإنسان أن ينسى عادة الكلام إذا لم يتكلم لفترة طويلة؟. يجب أن أتكلم حتى لو مع نفسي وليقولوا أنني مجنون!!.

لا أستطيع أن ألمس شيئاً من أشيائهم، أجسادَهم. مرةً كنت ماشياً باتجاه المغاسل فاصطدمت يدي بيد واحد منهم كان عائداً من المغاسل، رجع واغتسل ليتطهر. إذا استخدمت حنفية الماء فإن من يأتي بعدي يغسلها بالصابون سبع مرات، لأنني ببساطة "نجس". مرةً سمعت واحداً يقول للآخر بأنه لا يكفي أن يغسل الحنفية بالصابون سبع مرات، إنما يجب أن يكون لدينا بعض التراب... لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :

"إذا ولغ كلب في إناء ، فاغسلوه سبع مرات إحداها بالتراب."

من يقوم بتوزيع الطعام يضع الطعام لي أمام فراشي ويتحاشى أن يلمس بطانيتي أو ينظر إلي، كانوا يتكتمون أمامي! ولكن رغم ذلك استطعت أن أعرف الكثير عن حياتهم الداخلية ووسائل عيشهم وأساليبهم             داخل السجن.

 

الصلاة

الصلاة ممنوعة منعاً باتاً بأوامر مدير السجن. عقوبة من يقبض عليه متلبسا بجرم الصلاة هي " الموت "، رغم ذلك فإنهم لم يكونوا يفوتون ولا صلاة واحدة. صلاة الخوف، يوجد شيء من هذا في الإسلام، ولكن هنا طوروها بحيث أن الإنسان يصلي وهو جالس في مكانه أو في أي وضعية أخرى، دون ركوع أو سجود. إدارة السجن عرفت هذا أيضاً، ويتناقلون حديثاً لمدير السجن قاله أمام السجناء الشيوعيين، ودائماً حديث مدير السجن أشبه ما يكون بالمحاضرات أو الخطب، خاطب الشيوعيين قائلاً:

-    هؤلاء الكلاب ... الإخوان المسلمون، البارحة فقط أمضيت أكثر من نصف ساعة وأنا أشرح لهم وأفهمهم أن القومية أهم من الدين، ولكن هل تتصورون أنهم اليوم عادوا يصلون !!! عجيب أمر هؤلاء الناس !! لماذا ذهنهم مغلق إلى هذه الدرجة ؟!.

الاتصال

جميع المهاجع ملتصقة ببعضها، كل مهجع ملتصق بمهجعين آخرين من اليمين واليسار، وأحياناً من الخلف أيضاً، وهذا الأمر سهّل الاتصال بين السجناء كثيرا، ويكون ذلك بالدق على الحائط حسب طريقة مورس، دقة على الحائط ... دقتان ... دقة قوية ودقة ضعيفة... نفس رموز البرقيات التي ترسل وفق طريقة مورس.

كل ما يجري داخل السجن، الدفعات الجديدة، من مات، عدد الذين اعدموا وأسماؤهم، الأخبار خارج السجن والتي ينقلها السجناء الذين جاؤوا حديثاً، كل هذه الأشياء كانت تنتقل عبر المهاجع وفق رموز المورس، وفي كل مهجع مجموعة مخصصة لتلقي وإرسال تلك الرموز، تقف خلفهم مجموعة الحفظة.

بدأ الحفظ منذ بداية "المحنة " كما يسميها الإسلاميون، كان الشيوخ الكبار يجلسون ويتلون سورَ وآياتِ القرآن على مجموعة من الشباب، وهؤلاء يظلون يكررونها حتى يحفظوها، وهكذا تولدت آلية الحفظ هذه، لم يبق أحد في المهجع إلا وحفظ القرآن من أول حرف إلى آخر حرف، ومع كل دفعة جديدة كانت تبدأ دورة جديدة، ولاحقاً تطور الأمر باتجاه آخر، يتم انتقاء مجموعة من الشباب صغار السن يحفظون إضافة الى القرآن وأحاديث النبي محمد ... ما يمكن تسميته بسجل السجن، أسماء كل من دخل هذا السجن من الحركات الإسلامية. "في مهجعنا شاب لم يبلغ العشرين من عمره، يحفظ أكثر من ثلاثة آلاف اسم، اسم السجين، اسم مدينته أو بلدته، قريته، تاريخ دخوله السجن ... مصيره!!." بعضهم متخصص بالإعدامات والقتل، وهم يسمون كل من يقتل أو يعدم في السجن شهيداً، وهذا سجل الشهداء. أيضا يحفظون الاسم، عنوان الأهل، تاريخ الإعدام أو القتل.

أعجبت بهذه الطريقة وأخذت أدرب نفسي عليها، وبعد أن امتلكت القدرة الكافية قررت كتابة هذه اليوميات، أكتب الجملة ذهنيا، أكررها... أحفظها، أكتب الثانية... أحفظها، في آخر اليوم أكون قد كتبت وحفظت أهم أحداث اليوم، واكتشفت أنها طريقة جيدة لشحذ الذهن وتمضية الوقت الطويل في السجن، وفي صباح اليوم التالي أتلو كل ما حفظته البارحة.

عرفت لاحقا أن ما حفظ حياتي هو أنهم ليسوا مجموعة واحدة، فبالإضافة للمتشددين الذين حكموا علي بالموت، يوجد التنظيم السياسي وهو تنظيم لم يحمل السلاح ولم يشارك بالعمليات العسكرية، وهناك جماعة التحرير الإسلامي وهم جماعة مسالمة ومنهم الشيخ محمود وزاهي اللذان أنقذا حياتي، وكذلك جماعات الصوفية وهي كثيرة ومتشعبة... وغيرهم.

هذه المجموعات بقدر ما كانت تبدو متماثلة ومتشابهة، يختلف بعضها عن بعضها الآخر إلى درجة أن هذه الخلافات كانت تصل إلى حد التكفير، إلى حد الاصطدام والاشتباك بالأيدي والضرب المبرح دون رحمة أو شفقة.

هم قساة إلى درجة أن بعض أعضاء الجماعة المتشددة كانوا يروون كيف أنهم أنهوا تدريبهم العسكري ببيان عملي قتلوا خلاله بعض "الزبالين" في الصباح الباكر أثناء قيام هؤلاء بتنظيف الشوراع، وكان هذا مجرد تدريب أو "عمادة بالدم". هؤلاء أنفسهم يتحولون إلى كائنات في منتهى الرقة و يبكون عندما يروي قادم جديد أن أجهزة المخابرات كانت تعذب طفلاً صغيراً أمام والده أو والدته لإجبارهم على الاعتراف، أو كيف تم اغتصاب إحدى الفتيات أمام والدها لإهانته وإذلاله وإجباره على الإدلاء بما يملك من معلومات.

شجاعتهم أسطورية في مواجهة التعذيب والموت، وخاصةً لدى فرق الفدائيين، وقد رأيت أناساً منهم كانوا يفرحون فرحاً حقيقياً وهم ذاهبون للإعدام. لاأعتقد أن مثل هذه الشجاعة يمكن أن توجد في مكان أخر أو لدى مجموعة بشرية أخرى.

هناك الكثير من الجبن أيضاً، ولكن الجبن لا يلفت النظر بقدر الشجاعة. ففي ظل هذا الوضع يبدو الجبن والخوف طبيعيين والشجاعة استثنائية. ولكن هنا عندما يكون الجبن مبالغاً فيه يعزى إلى قلة الإيمان بالله.

" كسلحفاةً أحست بالخطر وانسحبت داخل قوقعتها، أجلس داخل قوقعتي.... أتلصص، أراقب، أسجل، وأنتظر فرجاً".

31 أب 

صيفان وشتاء واحد مروا وأنا هنا وسط هذه الصحراء المترامية، هنا لا توجد فصول أربعة، فقط فصلان، صيف وشتاء، ولا ندري أيهما أشد قسوة من الآخر، في الصيف يبدو الشتاء رحيماً، وأثناء الشتاء نحس العكس.

نحن الآن في عز الصيف. الجو لاهب، لا يوجد هواء لنتنفسه، الهواء ثقيل جدا بحيث نحتاج إلى جهد كبير لشفطه إلى داخل الرئتين، وهذا يجعل عرَقنا يسيل سيلاً، سمعت بعضهم ممن يعرف المنطقة سابقاً يقول إن درجة الحرارة قد تصل الخمسين أو حتى ستين درجة مئوية في الخارج، وفي الظل داخل المهجع لا تقل عن الخمسة وأربعين درجة مئوية، تأفف أحدهم:

-         العمى ... شو نحن مسجونين بفرن !!.

بعض كبار السن قضوا اختناقا، رئيس المهجع يدق الباب ويخبر الشرطة بموت أحدهم، يفتحون الباب، ويبدو صوت الشرطي سائلاً من شدة الحرارة:

-          وين هادا الفطسان ؟... يالله ... زتوه لبره.

يحتال رئيس المهجع لإبقاء بعض أواني الطعام البلاستيكية داخل المهجع ومنذ الصباح الباكر وقبل استيقاظ الناس تقوم الخدمة اليومية بملء الأواني بالماء، جميع السجناء بالسراويل الداخلية التي تغطي " العورة " فقط، من السرة إلى الركبة، يدخل أربعة سجناء إلى الفسحة الصغيرة أمام المراحيض، يقوم أربعة من عناصر الخدمة اليومية "وهذه الخدمة منظمة دورياً من السجناء أنفسهم، أنا معفى من كل أنواع الخدمة !" بصب الماء على رؤوس وأجساد الأربعة، ويخرج هؤلاء سريعاً والماء يقطر منهم، يدخل أربعة غيرهم ... وهكذا.

ستة بطانيات مبللة بالماء، كل بطانية يمسكها اثنان من الخدمة، يقفون على مسافات متساوية داخل المهجع، يهزون البطانيات جاعليها كمراوح لتحريك الهواء وترطيب الجو، هذا هو اليوم الصيفي العادي.

أما اليوم الشتائي فهو يوم منكمش، ثياب الجميع قد تهرأت ولا يمكن أن تقي من البرد الصحراوي الحاد الذي ينخر العظام ويجمد المفاصل، ثلاثة بطانيات تعاقبت عليها الأيام واستخدمها قبلي مئات السجناء، ألبس بذلتي الباريسية الأنيقة، السترة والبنطال وكان الشرطة قد صادروا "الكرافات"، سترة البذلة لا زالت بحالة جيدة، أما البنطال فقد اهترأ عند الركبتين وفي المؤخرة، السحاب قد خرب وتقطعت الأزرار، ألبسه ليلاً نهاراً وعلى مدار الأيام، وقد نَسلت بعض الخيوط من البطانية وجدلتها وجعلتها حزاما أثبت فيه البنطال بدلاً من الأزرار والسحاب، "شاهدت غيري يفعل هذا ففعلت". هنا لا يوجد خيطان أو إبر خياطة، أصبح لدي سروالان داخليان، أحد القادمين الجدد إلى المهجع كان أهله أغنياء جدا، وقد استطاعوا زيارته أثناء وجوده في فرع المخابرات بعد أن دفعوا ما يوازي ثروة صغيرة كرشوة إلى الضابط المسؤول، وهناك من نصحهم بأن يأخذوا لابنهم الكثير من الثياب. "جلب معه أكثر من مائة غيار داخلي، كان نصيبي منها سروالاً داخلياً، أعطاني إياه رئيس المهجع:

-         خود هذا .... مشان يكون عندك بدل!

البرد الصحراوي أقسى من أي برد آخر، عشت أياماً باردة جدا في فرنسا كانت الحرارة تصل الى تحت الصفر ، ولكن ذلك البرد يبدو برداً مهذباً، بينما البرد هنا وقح صفيق!

أما مشكلة القمل فتكون أصعب في اليوم الشتائي، فلا حل للقمل المنتشر بكثافة في جميع المهاجع إلا أن تجلس وتخلع كل ثيابك وتبدأ بالتفتيش عنه في ثنايا الثياب، الجميع هنا يفعل ذلك وفعلت مثلهم بعد أن هرش جلدي، ولكنني لم استطع أن أخرج الصوت الذي يخرجونه من بين أسنانهم "تسه" كلما فقسوا قملة بين اظفري الإبهامين!!

كل يوم بعد وجبة الإفطار يخلع الجميع ثيابهم ويبدؤون تفليتها بحثا عن القمل، وأنا أيضاً أمسك القملة وأهرسها بين الأظفرين، كان وجود القمل بهذه الكثافة محيراً، تساءل أحدهم بغضب:

-    العمى منين عم يجي كل هالقمل ؟!.. كل يوم ننظف ثيابنا منه، كل يوم نتوضأ خمس مرات، على الأغلب نغسل كل يوم جسمنا بالماء البارد والصابون، نغسل ثيابنا، نغسل بطانياتنا، وباليوم الثاني نشوف القمل أكثر ... وأكثر !!.. العمى... في حدا عم يرش المهاجع بالقمل؟!!

10 أيلول    

لأول مرة يدور في المهجع نقاش خارج عما هو موجود في القرآن أو السنة النبوية ، نقاش طويل شارك فيه أكثر من عشرة أشخاص بينهم اثنان من المشلولين، " كل النقاشات، الحوارات، حتى الشجارات ... تتم بصوت منخفض خشية أن تسمع الشرطة". وكان موضوع الحوار هو الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، بدأ هذا النقاش طبيب دارس في أوربا بملاحظة سريعة أبداها حول الحرية ومُثل الديمقراطية الغربية، استمر النقاش طويلا وانتهى بقول أحد المشلولين:

-    تقول الحضارة الغربية !... انظر يا أخي حولك، أنا مشلول بالكرسي الألماني، وهذا محمد علي مشلول أيضا برصاصة استقرت بعموده الفقري مصنوعة في روسيا، هذا السجن بنته فرنسا، القيود التي كبلوا بها يديّ مكتوب عليها "صنع في أسبانيا"، الضابط الذي اعتقلني يحمل مسدساً بلجيكيا، الضباط الذين يشرفون على التحقيق والتعذيب تدربوا في أمريكا وبريطانيا وروسيا ... هذه منتجات الحضارة الغربية، وإذا أضفت إلى كل هذا الكثير من الفسق والفجور والانحلال الأخلاقي تكون الحضارة الغربية مجسدة أمامك.

بصوت تعب وبلهجة من يود إنهاء نقاش لا طائل تحته، لكنه لا يريد التسليم بحجج الخصم، رد الطبيب:

-    إن في هذا الكثير من التجني والاجتزاء، أنا لا أقول أن نقلد الغرب أو نأخذ سلبياتهم، في الغرب أيضاً العلوم والطب وتطور الزراعة والصناعة ... وفوق كل هذا وأهم من كل شيء ... هو أن لديهم إنساناً حراً ومحترماً، إذا أردنا أن نتقدم علينا أن نتعلم منهم الكثير وخاصة احترام الإنسان واحترام حريته، وهذا ليس عيباً.

  25 كانون الأول

جافاني النوم. الساعة السادسة مددت البطانية كالعادة وتمددت. الواحدة بعد منتصف الليل مللت الاضطجاع بعد أن آلمتني أجنابي، جلست ولففت نفسي بالبطانيات، خمس دقائق وصوت الحارس من خلال الشراقة:

-         يا رئيس المهجع .. يا حمار.

-         نعم سيدي.

-         علملي هالتيس القاعد جنبك.

-         حاضر سيدي.

لقد علمني. تمددت فورا، غداً صباحاً سيكون فطوري خمسمائة جلدة بقشاط مروحة الدبابة على قدمي! إن قدمي التي أصيبت شفيت تماما مع ندب طويل ولكنها كانت تؤلمني دائماً في أيام البرد فألفّها أكثر من غيرها، كنت احلم بزوج من الجوارب الصوفية! احد أحلامي الصغيرة. ماذا سيكون مصير هذه القدم المسكينة عندما تتلقى خمسمائة جلدة؟ لم أستطع النوم حتى الصباح. وعندما فتح الباب وصاح الشرطي برئيس المهجع ليخرج الأشخاص الذين تم تعليمهم، قفزت واقفاً، ولكن رئيس المهجع وبسرعة قال:

-         مكانك، لا تتحرك، واحد من الشباب طلع بدلا منك.

ذهلت، واحد من الفدائيين، واحد من المتشددين الذين حاولوا قتلي لأنني كافر يفديني الآن بنفسه ويتلقى عني خمسمائة جلدة!!

منذ سنة ونصف تقريبا لم أنطق ولا كلمة، جلست مكاني وأنا أنظر إلى رئيس المهجع بذهول، خرجت كلمتان من فمي لا إرادياً:

-         لكن ... ليش ؟

لم يجب رئيس المهجع بشيء، أشار بيده لي أن اسكت، إشارة فيها الكثير من الاحتقار و الاشمئزاز!!.

عاد الأشخاص الذين جلدوا، بعد وجبة الجلد يعودون ركضا على الإسفلت الخشن وهم حفاة، أكثر من واحد منهم رمقني بطرف عينه بنظرة ازدراء وحقد!!

إذاً لماذا؟؟ 

"لزمني زمن طويل حتى استطعت التوصل إلى تخمين:

بما أنني جاسوس فإنهم كانوا حريصين جداً ألا أحتك بعناصر الشرطة كي لا أمارس جاسوسيتي !!." 

في اليوم نفسه كان دور مهجعنا بالتنفس .

 

التنفس

في السجون الأخرى التنفس هو حيز زمني يخرج فيه السجين من مهجعه إلى ساحة هواؤها نقي، بها بعض الملاعب فيتريض، معرضة للشمس فيتشمس... يأخذ حاجته من الهواء والشمس والحركة.

هنا ... قبل التنفس يكون السجناء في المهجع قد انتظموا في طابور متلوٍ بعضهم خلف بعض، تفتح الشرطة الباب، يخرج الطابور بخطوات بطيئة، الرؤوس منكسة إلى الأسفل، العيون مغمضة، كل سجين يمسك بثياب الذي أمامه، عناصر الشرطة والبلديات يحيطون بالساحة وينتشرون بها بكثافة، يسير الطابور سيراً بطيئاً أو سريعاً حسب مزاج وإرادة الرقيب.

الاثنين والخميس يومان مختلفان عن بقية أيام الأسبوع هنا. في هذين اليومين تتم الإعدامات، لذلك عندما نخرج للتنفس في هذين اليومين تكون كمية التعذيب والضرب أكثر من غيرهما من الأيام، وفي التنفس يكون الضرب غالباً على الرأس:

-         ولا كلب... ليش عم ترفع راسك؟!

ويهوي الكرباج على الرأس.

-         ولك ابن الشرموطة !!.. ليش عم تفتح عيونك من تحت لتحت ؟!!

ويهوي الكرباج على الرأس.

في الصيف يكون التعذيب أقل. حرارة الشمس التي تثقب رؤوسنا تجعل عناصر الشرطة في حالة تكاسل وعدم ميل للحركة، في الشتاء يشتدّ التعذيب.

أحياناً وبينما الطابور يدور يتجمع بعض عناصر الشرطة حول الرقباء، تدور بينهم أحاديث لا نسمعها، يصبح مزاجهم فجأة أميل للتسلي بنا، يصرخ الرقيب:

-         ولا حقير... أنت أنت يا طويل... أطول واحد بالصف، تعال هون...

يركض أحد البلديات ويجر أطول واحد بيننا، طوله أكثر من مترين، الرقيب جالس على كتلة إسمنتية أشبه بالكرسي، يضع رجلاً على رجل، يشد صدره يرجع رأسه إلى الوراء والأعلى، يقول:

-          ولا حقير .. أنت بني آدم ولا زرافة؟

يضحك المتجمعون حوله بصخب، يتابع الرقيب:

-          وهلق ... اركض حول الساحة خمس دورات وطالع صوت متل صوت الزرافة ... يالله بسرعة.

يركض السجين ويصدر أصواتاً، لا أحد يعرف كيف هو صوت الزرافة، أعتقد حتى ولا الرقيب نفسه، يدور السجين خمس مرات، يتوقف، يقول الرقيب:

-         ولا حقير ... هلق بدك تنهق متل الحمار!

ينهق السجين الطويل. تضحك الشرطة.

-          ولا حقير... هلق بدك تعوي متل الكلب!

يعوي السجين الطويل. تضحك الشرطة. يضحك الرقيب وهو يهتز، يقول:

-          ولا حقير... إي ... إي ... هاي ناجحة وكويسه ... أنت متل الكلب فعلا.

ثم يلتفت إلى رتل السجناء الذي يسير منكس الرؤوس ومغمض العينين، يصيح:

-         ولا حقير... أنت أنت... أقصر واحد بالصف ، تعال هون.

يركض أحد البلديات، يجر أقصر واحد بالرتل. شاب صغير لا يتجاوز الخامسة عشر، طوله أكثر قليلا من المتر والنصف، يقف أمام الرقيب الذي يضحك ويقول:

-         ولا حقير... يا زْمِكّ ... وقف قدام هالكلب الطويل.

يقف السجين القصير أمام السجين الطويل، يصرخ الرقيب:

-     ولا حقير ... يا طويل ... هلق بدك تعوي وتعض هالكلب  يللي قدامك  وبدك تشيل قطعة من كتفه ، وإذا ما شلت ه القطعة ... ألف كرباج.

يعوي الطويل ثلاث أو أربع مرات متواصلة، يتقدم من القصير وينحني مطبقا بفكيه على كتف القصير الذي يصرخ ألماً ويتملص من العضة.

-          ولا حقير... يا طويل... وين قطعة اللحم ؟ يا شرطة ... ناولوه.

ينهال رجال الشرطة بكرابيجهم ضرباً على الطويل، يسقط على ركبتيه، يتساوى بالطول مع القصير وهو جاثٍ ... يترنح ... يصرخ الرقيب:

-         بس ... " تتوقف الشرطة عن الضرب "  ... ولا حقير ... طويل ... قوم وقف.

يقف الطويل.

-         ولا حقير... قصير... وقف وراءه.

يرجع القصير إلى خلف الطويل.

-         وهلق ... انتوا الاثنين اشلحوا تيابكم.

يخلع الاثنان ثيابهما ويبقيان بالسراويل.

-         ولا حقير قصير... نزل سرواله.

ينزل القصير سروال الطويل الى حد الركبتين.

-         ونزل سروالك كمان.

ينزل القصير سرواله أيضا.

-         وهلق ... قرب نيكه ... اعمل فيه متل ما بتعملوا ببعضكم كل ليلة يا منايك ... يا الله قرب نيكه.

يتلكأ القصير، تشتد إليتا الطويل وتتشنج، يشير الرقيب إلى أحد عناصر الشرطة، يقترب هذا ويهوي بالكرباج على ظهر القصير ... يلتصق القصير بالطويل من الخلف، يهتز الطويل، عضو القصير المتدلي بالكاد يصل فوق ركبتي الطويل، يضحك الرقيب وباقي عناصر الشرطة.

الرتل يسير. الرؤوس منكسة، العيون مغمضة، رغم ذلك، الكل يرى، الكل يسمع.... وترتفع بيادر الحقد والذل.

يطلب الرقيب تبديل المواقع، يصبح الطويل خلف القصير، عضوه المرتخي والمنكمش في منصف ظهر القصير... يستمر الضحك ...

الرتل يسير، الرؤوس منكسة، العيون مغمضة.

تنفس آخر، يوم آخر، رقيب آخر، شرطة آخرون، بلديات آخرون، السجناء أنفسهم، زادوا قليلا، نقصوا قليلا.

يجلس الرقيب على الكتلة الاسمنتية ذاتها، يضع رجلاً على رجل، يصيح وهو ينظر إلى الرتل الذي يسير برؤوس منكسة وعيون مغمضة:

-         جيبوا لي ه البغل ... السمين.

يأتون برجل أربعيني بدين، يعرف الرقيب منه اسمه واسم مدينته، كم أمضى في السجن ... وتفاصيل أخرى، ثم يسأله:

-         أنت متزوج ولاّ أعزب؟

-         متزوج سيدي.

-    أنت بتعرف شو عم تساوي زوجتك هلق ... ولا ... أنا بقلك، أكيد عم تشرمط، أنت صار لك ثلاث سنين في السجن .... وهي كل يوم مع واحد جديد.

السجين ساكت، منكس الرأس مغمض العينين، يتابع الرقيب:

-    ليش ساكت ؟! ... احكي ... وإلا خجلان تقول قدام الشباب انك متجوز واحدة شرموطة ؟!... شو العرصات كمان بيخجلوا؟!

تمضي الأيام، يتبدل الرقباء، لكن الأساليب تبقى نفسها ... الزوجة الشرموطة، إذا لم يكن السجين متزوجا تصبح ... الأخت الشرموطة، أو حتى الأم الشرموطة، البنت الشرموطة إذا كان للسجين بنات.

" كنت أتساءل : هل هي تسلية فقط أم أنها نهج ؟! ... الدافع للتركيز على هذا الموضوع هل هو عقد الجنس والكبت الشرقية لدى الرقباء يفرغونها من خلال السلطة التي يملكونها على السجناء؟! ... أم هو نهج مدروس الغاية منه تحطيم الإنسان وإذلاله من خلال المرأة باعتبارها أعلى قيم الشرف لدى المسلمين سواء كانت زوجة أو أختاً أو أماً أو أية قريبة أخرى ؟!... وشرف المرأة لدى الشرقيين بالعام هو أن لا تمارس الجنس خارج نطاق الزوجية، وأي سلوك لها في هذا الاتجاه قد يدمر العائلة بالكامل ويلحق بها العار."

لم يكن ممكناً معرفة أسماء الشرطة أو الرقباء، ولكن السجناء أطلقوا عليهم أسماء من عندهم. وهذه الأسماء كانت تعتمد إما على علامة فارقة تميز هذا العنصر، من مثل: الأحول، أو "الأربع شقف" وكان هذا الرقيب يهتز ويتخلع في مشيته بحيث يبدو إن قطع جسده تتحرك كل منها باتجاه. أو أن تستند التسمية على لباس ما، مثل الرقيب "أبو شحاطة" وهذا كان دائما يأتي منتعلاً الشحاطة، وعلى الأغلب تستند التسمية على عبارة يرددها الرقيب دائماً. فكان هناك الرقيب "ولا حقير"، والرقيب "ابن الشرموطة"، والرقيب "يا كرّ"          ... إلى آخره.

يسأل السجين صديقه العائد من العقوبة:

-         مين اليوم في الساحة؟

-         ابن الشرموطة.

يقصد الرقيب الذي يظل يكرر عبارة: ابن الشرموطة.

22 شباط

في الصباح الباكر وقبل إدخال الطعام، فتح الشرطة باب المهجع ودخلوا بطريقة وكأن مائة ثور هائج قد دخل هذا المكان، الصياح، الضرب بالكرابيج، الشتم، وبين شتيمة ولسعة كرباج يصرخون:

-         وجهك ع الحيط .. وجهك ع الحيط ..

منذ دخول أول شرطي بهذه الطريقة قفز السجناء وأداروا وجههم إلى الحائط، وقفت لا أدري ما افعل.. صحوت على الكرباج يهوي على خدي ويلتف على رقبتي من الخلف والشرطي يصيح:

-         وجهك ع الحيط !

أدرت وجهي، تخشبت وسيخ الألم يمتد من وجهي إلى رقبتي، بعدما ما يقرب الخمس دقائق خيم الصمت، ثم صوت احد الشرطة يصيح بصوت عال:

-         انتبه .. مكانك تهيأ.

خبط جميع عناصر الشرطة أقدامهم بالأرض، وقدم الصف بصوت اعلى:

-         المهجع جاهز سيدي المقدم.

انه مدير السجن. أخد يتمشى من أول المهجع إلى آخره بين صفين من عناصر الشرطة الواقفين وقفة استعداد عسكرية.

ركبني الفضول وبسلوك عفوي أكثر من أن يكون مقصوداً، نظرت بزاوية عيني خلسة إلى المقدم. رأيته، شاب ثلاثيني أشقر الشعر، مشيته فيها الكثير من التوتر، وكذلك كلامه، يتكلم وكأنه يحادث نفسه بعبارات لم أستطع فهمها أو الربط بينها:

-         أنا.. أنا أتهدد!! .. سأحولها إلى جهنم ... شعرة واحدة يروح ألف مجرم مقابلها ..

ثم صاح بصوت شديد الاحتقان:

-         ولا كلاب.. مجرمين.. انتو لسا ما بتعرفوني منيح .. والله لادبحكن دبح الغنم.

بعدها صاح بمجموعة من الشرطة واقفة بينه وبين السجناء:

-         زيحوا هيك ولا..

صوت طلقات مسدس متتابعة، انكمشت على نفسي لدى سماعها وخبأت رأسي أمام صدري، وبسرعة فائقة خرج المقدم يسحب وراءه رتلاً من عناصر الشرطة وأغلق الباب.

أربعة عشر قتيلاً بأربع عشرة طلقة هي كل مايحويها مخزن مسدس المقدم على ما يبدو. ركض الأطباء وبينهم زاهي إلى زاوية المهجع حيث القتلى، فحصوهم جميعاً، الكل ماتوا فوراً، ومكان دخول الرصاصة واحد لدى الجميع في الرأس من الخلف، سحبوهم إلى وسط المهجع، تجمعت بركة من الدماء الطازجة وجلس البعض حولها يبكون، الأغلبية جامدة مذهولة، الأطباء في حالة حيرة لايعرفون ما يفعلون، وقف واحد من فرقة الفدائيين، قال:

-    لاحول ولاقوة الا بالله ... انّا لله وإنّا اليه راجعون، عليهم رحمة الله، هم السابقون ونحن اللاحقون، اللهم اسكنهم فسيح جنانك، اللهم هؤلاء شهداء في سبيل إعلاء كلمتك، كلمة الحق، فارحمهم أنت الرحيم الغفور.

سكت قليلاً .. ثم أردف موجهاً حديثه للجميع:

-         يالله يا إخوان .. خلينا نقوم بواجبنا.

انتظروا حتى توقف نزيف الجثث، نقلوها ووضعوها قرب الباب أمامي وأمام رئيس المهجع، بين القتلى الشيخ محمود الذي أنقذ حياتي، صليت عليه سراً، حزنت على الجميع فوجوههم أصبحت مألوفة لي، وكان حزني كبيراً على الشيخ محمود.

نظفوا الأرض من الدماء، كل البطانيات الملوثة بالدماء نظفوها، دار نقاش بين مجموعتين عند رئيس المهجع، مجموعة تقول إنه يجب ان نأخذ جميع ملابسهم، لأن الحي أفضل من الميت، وجماعة تعارض ذلك وترى أن هذا معيب. أخيرا انتصر الرأي القائل بأن الأحياء الباقين بحاجة إلى الملابس، وتكفلت مجموعة خلع الملابس وتنظيفها، خرجت الجثث ليلاً من المهجع وهي عارية لا تلبس إلا السروال الداخلي فقط.

" بعد ثلاث سنوات سيروي احد القادمين الجدد أن السبب في هذه المجزرة هوان التنظيم المسلح قد أرسل تهديداً بالقتل للمقدم إذا لم يحسن من معاملة السجناء الإسلاميين، وجد المقدم هذا التهديد تحت ماسحة زجاج سيارته وهو ذاهب إلى الدوام صباحاً ، فقام بقتل هؤلاء وسرب الخبر ليسمع به التنظيم مصحوباً بتهديد معاكس:

-    مقابل ورقة مكتوبة قتلت أربعة عشر واحداً! إذا مست شعرة من رأسي أو رأس شخص يخصني سيكون المقابل مائة، إذا حصل أذى أو مات احد من أقربائي فإنني لن أبقي على أحد حياً!!."

ولم يرد بعدها أي تهديد.

مهجعنا قريب من الباب الخلفي من السجن، من هذا الباب يأتي الطعام، تصف الشاحنة الروسية خلفاً ويقوم البلديات بإنزال قدور الطعام الكبيرة، ومن هذا الباب وفي نفس السيارة تنقل الجثث يومياً بعيد منتصف الليل، من خلال سماعنا لارتطام الجثث في أرضية السيارة كنا نعرف عدد الذين ماتوا في هذا اليوم، وفي يوم زيارة المقدم أحصى الساهرون ثلاثة وعشرين خبطة جثة، وعن طريق مجموعة المورس ذهاباً وإيابا تم معرفة الجميع وحفظت هذه المعلومات في الأذهان.

24 آذار

نسير..ندور.

أمشي في الرتل الدائر حول الساحة، منكس الرأس، مغمض العينين، ممسكاً مطاط بيجاما من يتقدمني، يجرني خلفه. الرجل الذي خلفي يمسك مطاط بيجامتي ويشدني إلى الخلف، نسير..ندور. أتساءل أحياناً:

أي كائن أنا؟! هل أنا إنسان؟! حيوان؟! شيء؟!.

كان لي صديق من بلدي يدرس في فرنسا، يصله من أهله بداية كل شهر مبلغ من المال يكفيه حتى كفاية الشهر. هذا الصديق بدلاً من أن يبرمج مصروفه ويقسمه على ثلاثين يوماً كان يدعوني إلى سهرة واحدة فخم أو مطعم مشهور.

هذه السهرة كانت تكلفه حوالي نصف مصروفه، لذلك كان في الأيام العشرة الأخيرة من الشهر يستدين مني ومن الأصدقاء حتى يأكل.سألته مرةً:

- لماذا تصرف كل هذه النقود على سهرة واحدة ولايبقى معك في الثلث الأخير من الشهر فلس واحد؟

أجاب:

- إنني في هذه السهرة التي أقيمها مرة في الشهر أشعر أنني إنسان! إن هؤلاء الذين يعملون في هكذا فنادق أو مطاعم مدربون جيداً كي يشعروك بأنك إنسان " كلامهم..طريقة خدمتهم لك..هيئتهم" كل هذه الأشياء تجعلك تحس بأنك إنسان محترم، أنا ياصديقي في جوع حقيقي كي أشعر يحترمني الآخرون، لايهم أن أجوع بضعة أيام كل شهر، لكن الشعور بأنني إنسان يكفيني لمدة شهر.

لقد راقبت هذا الصديق في كل المرات التي دعاني فيها إلى السهرة عند استلامه النقود المرسلة من أهله، وفي كل مرة كنت أشاهد إنساناً معتزاً بنفسه، واثقاً، يمشي إلى جانبي في خيلاء.

راقبته كذلك في المرات الثلاث التي كان مجبراً فيها على مراجعة سفارتنا في باريس، وفي كل مرة كان يستعطفني ويرجوني بحرارة أن أرافقه، رغم أنه كان يحاول تأجيل الذهاب بأعذار وحجج واهية حتى اللحظة الأخيرة.

يصل السفارة وقد تغير، يدخل متردداً، يلقي نظرة خاطفة إلى الوراء (عله يريد التأكد من وجودي)، أقرأ في نظرته هذه معاني الخوف والقلق.. وطلب الغوث.

يخرج مكفهراً..صامتاً.. مسرعاً..يشير لي بيده أن أمشي بسرعة، أمشي إلى جانبه صامتاً.

في المرة الأولى والثاني اكتفى بأن يبصق بصوت مدوّ حالما ابتعدنا عن السفارة.

في المرة الثالثة، تكلم:

-الكلاب.. يريدون أن يجعلوا مني جاسوساً!.. جاسوساً! وعلى من؟! يريدون مني أن أتجسس على يوسف!! هددوني بالاعتقال والترحيل.. قالوا إن لديهم خمس زنازين في مبنى السفارة، كلاب..تفو..تفو!.

نسير..ندور حول الساحة.

إغماض العينين يجعل مئات الصور تتقافز في الذهن.

في بدايات حياتي أولعت بالمطالعة كثيراً، صار اسمي في البيت "فأر الكتب". التهمت كل ماوقع تحت يدي من قصص وروايات، كنت وقتها عندما أغمض عينيّ أحس أن هناك آلاف الأحرف والكلمات تتقافز في الذهن.. تتصادم.. ترتطم بجدران الرأس.. تقع أرضاً ليقفز غيرها. أجلس ملتفاً برطوبة قبو منزلنا الظليل- والذي كنت قد نظفته ورتبتع وجعلت منه مكاني المفضل بعيداً عن الأهل وضجيجهم- تعباً من القراءة، مغمض العينين، أمارس لعبة الأحرف والكلمات المتقافزة "يحرقني الحنين إلىجلسة صغيرة في ذلك الركن".

في المراهقة والشباب الأول، أصبت بلوثة السينما، أخرج من صالة لأدخل أخرى، كنت أشاهد أحياناً ثلاثة أفلام في يوم واحد، أصبح اسمي "فأر السينما"، عرفت كل صالات العاصمة جيداً، كنت أحفظ عن ظهر قلب برامج الصالات للأسابيع المقبلة.

نسير..ندور.. تحت لسع الكرابيج، منكسي الرؤوس، عيوننا مغمضة، يمسك أحدنا ذيل الآخر.. وندور.

فأر كتب، فأر سينما، الآن.. أحس أنني بغل.

في الكثير من الأرياف وقبل انتشار محركات ضخ المياه من الآبار، كانم انتشال المياه من هذه الآبار بواسطة قوة محركة هي البغال (في بعض البلاد يسمونها "الدولاب" ويسمونها في أخرى "الغرّاف"). يربطون البغل إلى عمودٍ، يغطون عينيه " للآن لم أعرف لماذا يغطون عينيّ البغل" ويظل يدور..يسير.. ويدور حول البئر من الصباح إلى المساء، هذا الدوران العبثي بالنسبة للبغل!.. ونظل ندور!.

فيلم غربي يصور حياة راهبة في الخامسة والعشرين من عمرها، كان أهلها قد نذروها لحياة الرهبنة. فتاة ذات نفس نقية، قانعة بحياة الرهبنة ومستمتعة بها، طاهرة كالثلج، تعيش في دير يقع في جزيرة نائية. تدور أحداث الفيلم ويهاجم القراصنة هذه الجزيرة، هذه الراهبة البتول تقع بين أيدي قرصان مجرم فاسق، يلقيها أرضاً ويغتصبها.

مشهد: يقف القرصان بجسده الضخم ويبتعد مهمهماً.. لراهبة ملقاة أرضاً..مكشوفة الساقين..- تقترب الكاميرا- خيوط من دم العذرية تسيل على الفخذين.. هي غائبة عن الوعي.

نسير..وندور حول الساحة، مشدودي الأعصاب، نتوقع في كل لحظة صفعةً أو ركلةً..أو كرباجاً، رغم ذلك ننسى أحياناً، تأخذنا الأفكار في جميع الاتجاهات، نحلم بيوم لانسمع فيه كلمة "تنفس"، يومٍ لانسير ولاندور فيه، تحضر الذكريات.. تتغلب على كل الشد العصبي وتحضر، تداعبني وجوه الأهل والأصدقاء، المرأة بشكل خاص، أمي.. أختي.. سوزان، تحضر كل نساء"ي"، وأحياناً قد ترسم ذكرى ما ظلَّ ابتسامة على شفاهي.

نسير..ندور.

في اللغة العربية "الاستنثار": هو إخراج المخاط عن طريق فوهات الأنف الخارجية، أما "التنخّم" فهو استحلاب المخاط إلى داخل الفم.

فيما نحن نسير..ندور، امتدت يد غليظة، أمسكتني من ساعدي وجرتني خارج الرتل، أغلقت عينيّ جيداً ونكست رأسي حتى التصق بصدري. بقي ممسكاً بساعدي، اليد الأخرى أمسكت فكي السفلي ورفعت رأسي إلى الأعلى بعنف، فحّ صوته ممزوجاً بحقد رهيب:

-         ارفع رأسك.. ولا كلب، افتح تمك..لشوف.

فتحت فمي، طلب مني أن أفتحه أكثر، ففتحته. تنخّم بقوة، تنخم ثلاث مرات، ودون أن أستطيع رؤيته أحسست أن فمه قد امتلاً بالمخاط المستحلب.. شعرت برأسه يقترب مني و..بصق كل مايحتويه فمه إلى.. داخل فمي. برد فعل غريزي حاول فمي التخلص من محتوياته، تملكتني حاجة لاإرادية بالإقياء، لكنه كان أسرع مني وأسرع من فمي، أغلق فمي بيد وامتدت يده الأخرى بسرعة البرق إلى جهازي التناسلي، أمسك خصيتيّ وضغط عليهما بشدة.. مودة الألم الهائلة التي صعدت من خصيتيّ إلى الأعلى كادت أن تفقدني الوعي، انقطع تنفسي لثانيتين أو ثلاث، كانت كافية لأن أبتلع مخاطه وبصاقه كي أتنفس، ظل يضغط خصيتيّ حتى تأكد أنني قد ابتلعت كل شيء.

تابعت السير.. تابعت الدوران، مغمض العينين، منكس الرأس.

ألم الخصيتين المهروستين يخفت شيئاً فشيئاً، الإحساس بأنني قد امتلات بالقذارة يتصاعد شيئاً فشيئاً.

تفيق الراهبة من غيبوبتها يملؤها الإحساس بقذارة جوفها.. تنتهي إلى الجنون.. كانت تزداد إحساساً بالقذارة كلما اغتسلت.

عدنا إلى المهجع، حاولت الإقياء بشتى السبل، لم أنجح، شربت كمياتٍ هائلةً من المياه ولكن الإحساس بأن جوفي ممتلئ بالقذارة يزداد.

"سأخرج من السجن وأشرب كمياتٍ هائلةً من الماء والعرق والنبيذ والويسكي، شتى المشروبات الباردة والساخنة، لكن لن أستطيع التخلص من الإحساس بأن مخاط ذلك الشرطي ملتصق بمعدتي.. ببلعومي.. وهو يأبى الخروج".

30 آذار

صح ما توقعه الدكتور زاهي .

حوالي سنتين مضتا على وجودي هنا. معزول ومجبور على الجلوس في مكاني لا أغادره إلا إلى التنفس أو المرحاض، لا أستطيع النظر إلى أي واحد بشكل مباشر رغم أنني لا أعتقد أن الجميع راغب بقتلي "أو كان راغباً"، ولكنني لا أستطيع أن أميز بين من يرغب أو لا يرغب، والمهم في هذا أن الجميع يقاطعني ولا يرغب بوجودي بينهم هنا، " وأنا أيضا لا أرغب بوجودي هنا "، طوال هذه الفترة كنت أتوق إلى من أحادثه،  أن أجرب قدرتي على الكلام من جديد، لكن قوة الكراهية كانت تلصقني بالبطانية وتلصق البطانية بالأرض.

الآن بعد أن صحت توقعات الدكتور زاهي أصبحت اجلس في مكاني بإرادتي، لا أريد الاحتكاك بأحد، لا أريد محادثة احد.

إنه التهاب السحايا. وتحول الأمر إلى وباء بسرعة مذهلة، بدأ الأمر منذ شهر تقريباً، أولاً شخص واحد، ثم آخر .. ثم آخر، اجتمع الأطباء السجناء، تدارسوا الأمر، وعندما وصلوا إلى قرار موحد كان العدد قد جاوز عشرة مصابين. الاتصال الداخلي بين المهاجع "المورس" اخبر واستفهم، تبين ان الحالة عامة في كل المهاجع.

عندما وصل عدد المصابين إلى عشرين "مات منهم اثنان وفقد البصر اثنان ولا يزال الباقون يتأرجحون"، طلب الأطباء أن يجري نقاش عام في المهجع، تكلموا وشرحوا الأمر بدقة وواقعية، ثم طلبوا من رئيس المهجع أن يدق الباب ويطلب المساعد ويضعه في صورة الأمر، رفض رئيس المهجع هذا الطلب وقال إن هذا مستحيل، رد عليه احد الأطباء بأنه خلال أيام قليلة وإذا لم يتوافر الدواء فإن كل الناس في هذا المهجع، وعلى الأغلب في السجن كله سيصابون. والإصابة في ظل هذه الأوضاع الصحية وانعدام الدواء انعداماً كلياًُ، يعني حتماً إما الموت أو ما يشبه الموت، وطالما أننا سنموت في كل الأحوال فلنطلب المساعد ونضعه في صورة الأمر ولو كانت نسبة الأمل واحداً على مليون.

-     يا دكتور .. يا دكتور عندك شك إنه هدول يريدون موتنا؟ وأنت تتوقع من يللي يريد قتلك انه يعالجك؟ نحن هون من سنوات .. شفت شي طبيب عالج مريض بهالسجن؟ أنت تتصور إنه هدول عندهم ذرة واحدة من الرحمة أو الإنسانية؟ أو اإنه يخافوا الله؟ خلينا نموت تحت رحمة الله .. ولا نطلب الرحمة من هدول الوحوش، والموت حق على كل مسلم ومسلمة، والموت بهذا الظرف رحمة من الله.

كنت اسمع كل النقاش هلعاً. "رئيس المهجع من أكثر الرجال الذين شاهدتهم في حياتي قوة شخصية، وهو ضابط في الجيش، قوي، صارم، رزين".

لم يستسلم الأطباء، توجه احدهم إلى رئيس المهجع قائلاً:

-    نعم .. الموت حق، كلنا راح نموت بأجلنا، لكن الدين يأمرنا بألا نرمي بأنفسنا إلى التهلكة، وطلبك المساعد قد يساعد على إنقاذ الكثير من أرواح المسلمين وهذا واجب عليك وعلينا.

وفي عبارة القصد منها الإحراج أردف الطبيب:

-         إذا كنت أنت لا تستطيع أن تطلب المساعد، اترك واحداً منا يطلبه بدلاً عنك.

انتفض رئيس المهجع ، "واضح انه استُفز"، قال:

-         طيب يا جماعة أعطوني مهلة ساعتين حتى أفكر بشي طريقة.

انفض الاجتماع، وأعطى الأطباء مجموعة من النصائح الطبية للجميع. سارعت أنا إلى سترة بذلتي فنزعت أحد جيوبها الداخلية، نسلت خيطاً من البطانية، صنعت كمامة وضعتها على فمي وانفي، نظر الجميع إليّ باحتقار، ولكن خلال يومين كان لدى الجميع كمامات.

بعد حوالي ربع الساعة وقف رئيس المهجع بحركة مفاجئة، نظرت إليه، كانت عيناه محتقنتين باللون الأحمر، واضح انه أدرك حجم الإهانة التي وجهها إليه الطبيب ، وقف أمام الباب بعزم، وبجماع يده طرقه طرقات قوية.

سأل صوت الرقيب المناوب من الساحة:

-         شو بدك ولا حقير؟

-         بدي المساعد .. الأمر ضروري جداً.

-         شو ..! شو..! شو..! المساعد دفعة وحدة ؟! ولا حقير.. شو بدك من المساعد؟ .

اغتاظ  رئيس المهجع ، وبدأ يتمتم:

-         العمى .. شو أنا عم اطلب رئيس الجمهورية ؟!.. هوي شقفة مساعد لا راح ولا أجا .. الله يلعن ه الزمان .

بعدها صاح بصوت عال :

-         الأمر خطير جداً .. جداً ، ولازم يجي المساعد هلق ، لمصلحتكم مولمصلحتنا .

بعد ربع ساعة فتح الباب وطلب المساعد إخراج الجحش رئيس المهجع ، شرح له رئيس المهجع أبعاد المرض كما سمعها من الأطباء ، وختم حديثه بقوله :

-    يا سيدي .. العدوى بهادا المرض شديدة جداً ، ممكن الشرطة ينعدوا من المساجين ، ممكن – لاسمح الله – سيادتكم تنعدوا ، نحن واجبنا نخبركن ، وإذا حبيتوا تسمعوا أكثر بنادي الدكتور سمير .

نادوا الدكتور سمير وشرح للمساعد بالتفصيل مؤيداً كلام رئيس المهجع أن العدوى ممكن أن تنتقل إلى الشرطة .

أغلقوا الباب بعد إدخال الدكتور سمير ورئيس المهجع دون عقوبة! وبعد ربع ساعة أعادوا فتحه، وقف المساعد وجميع الشرطة خارج المهجع ودخل ضابط برتبة ملازم ثان، طبيب السجن العسكري، عرفنا وقتها أن في السجن طبيباَ!!.

وقف عند الباب إلى جانبي، طلب من الجميع الجلوس في أماكنهم وفتح عيونهم، " لم نعتد هكذا لهجة !" بعدها طلب من جميع الأطباء الوقوف ، بانت دهشة حاول إخفاءَها عندما رأى عدد الأطباء ، سألهم عن أسباب تشخيصهم فعددوا له الأسباب، دخل إلى زاوية المرضى وألقى عليهم نظرة سريعة، ثم قفل راجعاً إلى الباب، توقف والتفت، أشار إلى اثنين من الأطباء الشباب طالباً منهم المجئ إليه، وعندما جاؤوا سألهما دون أن يستدير:

-          عرفتوني؟

-         نعم.

-         هم م م..

خرج الطبيب وأغلق الشرطة الباب، اقترب بضعة أشخاص من الطبيبين، قال أحدهما:

-    هذا الطبيب زميل دراستنا وتخرجنا مع بعضنا، هو من الساحل من طائفة الرئيس وعشيرته، بعد التخرج ما عاد شفناه، راح على ضيعته.

بعد أقل من أربع وعشرين ساعة عاد الطبيب مرة أخرى، معه المساعد والشرطة والبلديات، نادى الدكتور سمير قال له:

-    أنت بدك تعالج كل المرضى في السجن هادا هو الدواء اللازم، في عندنا كميات كبيرة منه، راح يكون معك رقيب وعناصر من الشرطة، لازم يشوفوا كل حبة دواء تستهلك، كل "سيرنغ" تستخدمه لازم تسلمه للشرطة، كل علبة كرتون .. أنت مستعد؟.

-         نعم مستعد.

وبدأ الدكتور سمير جولاته على المهاجع، الشرطة ترافقه، البلديات يحملون علب الدواء، كرتونة كبيرة لكل ما هو مستهلك، يخرج صباحاً ليعود مساءً تعباً منهكاً، ورغم ذلك استمر المصابون بالازدياد، لكن حالات الموت انحسرت وتضاءلت اليوم انضم إلى المصابين بالمرض أول طبيب، الدكتور زاهي .

1 أيار

مات زاهي .

ليس لأنني أدين بحياتي له مرتين، مرة لعنايته الطبية بي عندما كنت مشرفاً على الموت بعد الاستقبال، ومرة عندما أوعز للشيخ محمود بانتشالي من بين أيدي المتشددين.

لكن لأنني أحببت هذا الرجل الذي لم يفقد ابتسامته في أحلك الظروف، لهجته لهجة المنطقة الشرقية المحببة، تراه موجوداً في كل مكان يمكن فيه أن يقدم فيه يد المساعدة، سعةَ أفق وسعةَ ثقافة نادرتين في هذا المكان، كنت أحس أنه موجود في الموقع الخطأ حيث يسود التعصب والتشدد وضيق الأفق والضحالة الثقافية.

شعرت بحزن عميق لم أشعر به طوال حياتي، حزنٍ أنساني حذري المضاعف، أخرجني من قوقعتي فور سماع الخبر، نسيت حذري منهم وحذري من المرض.

مشيت كالمسرنم إلى حيث يرقد زاهي، ركعت إلى جانبه ورفعت يده إلى جبيني وأجهشت بالبكاء بصوت عال، بكيت بكاءً مريراً، هل تفجر حزني على زاهي هكذا؟ أم هو تفجر بسيط للقهر المتراكم منذ عودتي              إلى بلدي؟!.

بموته أحسست أنني قد فقدت آخر سند لي هناك، أصبحت عارياً، زاهي هو الوحيد الذي أستطيع النظر إلى عينه مباشرة، وغالباً كنا نختلس النظرات خفيةً، كنت اشعر أن هناك تفاهماً خفيّاً بيني وبينه، وطالما قرأت في عينه أنه لن يتخلى عني.

زاهي .. كان إنساناً .. إنساناً كبيراً.

بكيت وبكيت.

 لكزني أحدهم بقدمه، رفعت رأسي ومن خلال الدموع رأيت "أحدهم"، صر على أسنانه وقال:

-         قوم ولاك .. لا تنجس الشهداء.

قمت، رجعت إلى مكاني، دخلت قوقعتي، مسحت دموعي من الخارج، تركتها تسيل إلى الداخل.

3 أيار .

يجب أن لا أجن. كان هذا قراري منذ البداية، رغم ذلك كنت أحس أحيانا أنني على حافة الجنون، عندها كنت أغني.. لكن بصمت، أغني بذهني ودائماً أغان فرنسية، لم أغن أية أغنية عربية.

لا أفتح فمي مطلقاً، لا أتلفظ بأي حرف، أجلس طوال اليوم في مكان واحد، أغادره باتجاه المغاسل والمراحيض أربع أو خمس مرات في اليوم، أتحرك فقط في اليوم الذي يكون لدينا فيه تنفس.

اجلس .. أفكر وأفكر.  "فكرت مرة: هل يمكن لإنسان ما أن يوقف التفكير؟!".

استعرضت الماضي عشرات المرات، أدق التفاصيل، تفاصيل كان لا يمكن أن أتذكرها ولو عشت عشر حيوات خارج هذا المكان، أستعيد كل ما هو سعيد ومبهج، كل ما هو جميل في الخارج.

أنا الآن في الثلاثين من عمري، كنت قد تركت الدراسة بعد نيلي الثانوية تحت إغراءات العمل التجاري والثراء السريع مع صديق لي، أربع سنوات من العمل التجاري الفاشل، تحمل الأهل مسؤولية تسوية الأوضاع، بعدها إلى فرنسا والدراسة هناك، ست سنوات في فرنسا، والآن هنا.

استعرض الماضي وأحلم بالمستقبل، تحول الأمر إلى عادة، أحلام اليقظة، استمتع بها استمتاعاً كبيراً، أصبحت مدمن أحلام يقظة، أبني الحلم شيئاً فشيئاً، أضع التفاصيل الصغيرة والدقيقة، أرسمها، أصحح، أغوص ساعات طويلة، جالساً أو مستلقياً، أغيب عن هذا الواقع لأعيش واقعاً جميلاً كل ما فيه حلو وسهل وميسر، وفي كل حلم يقظة تكون المرأة حاضرة دوماً، تشتعل خلايا الجسد، كل النساء اللواتي مررت بهن أو مررن بي، أخلط الماضي بالمستقبل، أكثر اللحظات حميمية أستعيدها، أعيد تركيبها، أبتدع مشاهد جديدة أتقلب ويجفوني النوم ، أنتظر حتى آخر الليل واذهب إلى المرحاض للاستمناء، هو الحل الوحيد لكي أستطيع النوم .

لحظتها لو سألني احدهم أن ألخص السجن بكلمة واحدة لقلت:

-         إن السجن هو المرأة!. غيابها الحارق.

أنظر حولي متلصصاً، كيف يحل هؤلاء هذه المسألة، وبعضهم لم ير في حياته كاحل امرأة غير أمه ؟ بماذا يفكرون ؟ ماهي أحلامهم ؟ بعضهم مراهقون بكل جموح وتوثب خيالات المراهقة. كانت احتلامات النوم لديهم غزيرة ، عرفت هذا من خلال تلصصي الليلي الدائم ، يكون الواحد منهم نائماً، فجأةً يختلج أو يصدر صوتاً خافتاً، بعدها يستيقظ، أغلبهم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم يقوم للاغتسال، لأن لديهم تعاليمَ مشددةً بشأن النظافة، فهو لا يستطيع أن يأكل أو يشرب أو يصلي إن لم يكن طاهراً نظيفاً تماماً، والقذف بأي طريقة كانت سواءً بالاتصال الجسدي أو بالاحتلام، يوجب غسل الجسد كاملاً.

أنا شبه متأكد أن كل ما يقوله عناصر الشرطة أو يشيعونه بأنهم يمارسون الشذوذ الجنسي هو محض افتراء أو كذب، حتى على المستوى الواقعي هذا مستحيل.

أعود لأحلامي أتقلب .. لا أعرف كم يطول هذا، أسمع حركة استيقاظ الناس في المهجع .. ألح على النوم فلا يأتي .. أسمع صوت طائرة الهليوكوبتر.

طائرة الهليوكوبتر.

عندما نسمع صوت الهليوكوبتر يرتجف أو يتوتر كل من في السجن، حتى الشرطة والبلديات يتوترون، البعض يسميها طائرة الموت، أو ملاك الموت الهابط من السماء، أحد السجناء قال إن عزرائيل يجلس في المقعد الأمامي للطائرة لاًن هؤلاء متعاقدون معه.

السجن يبعد عن العاصمة عدة مئات من الكيلومترات، لذلك فهيئة المحكمة الميدانية تأتي بالطائرة على الأغلب مرتين في الأسبوع، الاثنين والخميس ، وهيئة المحكمة هذه قد تكون ثلاثة ضباط وقد تكون ضابطاً واحداً، يعطون إدارة السجن بعد أن يدخلوا الغرفة المخصصة لهم لائحتين اسميتين:

اللائحة الأولى : تضم أسماء الذين سيحاكمون في هذا اليوم، تأخذ الشرطة هذه اللائحة وتدور على كل المهاجع منادية على الأسماء، ثم يبدأ التجميع من آخر مهجع في الساحة السابعة مع الصياح والشتم والكرابيج، الرؤوس المنكسة والأعين المغمضة، يسوقونهم سوقاً إلى الساحة صفر حيث يُجلسونهم على الأرض أيديهم فوق رؤوسهم ورؤوسهم بين ركبهم.

يدخل إلى غرفة المحكمة أول اسم نادوا عليه بصفعة قوية على الرقبة عند باب الغرفة، يسأله الضابط:

-         أنت فلان ابن فلان؟

-         نعم سيدي.

-         طالعوه لبره.

وهكذا تكون قد انتهت محاكمته، ثم يدخل الثاني والثالث .. وهكذا خلال ساعتين أو ثلاثة قد تتم محاكمة أكثر من مئة شخص، أحياناً تتعطل إجراءات المحاكمة، فالضابط يسأل السجين:

-         أنت فلان ابن فلان؟

-         نعم سيدي.

-         ولاك ابن الكلب .. أنت شاركت بتفجير المجمع الاستهلاكي؟

-         لا والله يا سيدي .. أنا مالي علاقة بأي شي.

-         ولا كلب .. عم تنكر كمان !! .. يا شرطة.

يدخل عناصر الشرطة إلى الغرفة.

-         حطوه بالدولاب حتى يعترف.

تبدأ حفلة التعذيب أمام غرفة المحكمة، يبدأ الضرب والصراخ الأمر الذي يشوش على هيئة المحكمة، يتوقف العمل، تشرب هيئة المحكمة القهوة العربية، بعد قليل يهدأ كل شيء ويدخل الشرطة والسجين معهم يترنح:

-         شو .. لساتوا ميبس راسه؟!

-         لا سيدي .. اعترف بكل شي.

-         إعدام .. طالعوه لبرّه.

أغلب السجناء لا تستغرق محاكمة أي منهم لدى المحكمة الميدانية أكثر من دقيقة واحدة، أغلب السجناء لا يرون القاضي "الضابط"، أغلب السجناء لا يعرفون الأحكام التي صدرت بحقهم وقررت مصيرهم.

هذه المحكمة ذات نوعين من الصلاحيات، فهي تملك الحق في أن تصدر أحكاماً بالإعدام وتنفذها بالقدر الذي تشاء، وتسجن من تشاء المدة التي تشاء. لكنها لاتملك الحق في إخلاء سبيل أي بريء "معروف هنا أن المهجعين الأول والثاني يسميان حتى لدى الشرطة ب مهجع البراءة، المحكمة ذاتها وخلال عدة سنوات كانت قد أصدرت أحكاما بالبراءة على سجناء هم في الحقيقة أطفال أعمارهم بين / 11 – 15 / عاماً قبض عليهم خطأ ولكنهم بقوا في السجن ولم يطلق سراح أي منهم، وقد قضى سجناء مهجع البراءة في السجن مدداً تتراوح بين / 10 – 15 / سنة، هؤلاء الأطفال خرجوا من السجن لاحقاً رجالاً".

اللائحة الثانية:

اللائحة الاسمية الثانية هي لائحة الذين سينفذ فيهم حكم الإعدام شنقاً في اليوم نفسه، أيضا يدور الشرطة بهذه اللائحة على جميع المهاجع طالبين من الأشخاص المدرجة أسماؤهم في اللائحة الاستعداد.

اليوم هناك أربعة أشخاص من مهجعنا سيتم تنفيذ حكم الاعدام بهم، بعد أن ابلغوهم، قام هؤلاء الأشخاص الأربعة بالذهاب الى المغاسل، تطهروا، توضؤوا، صلّى كل واحد منهم صلاة عادية، أي صلاة علنية مكشوفة للجميع فيها سجود وركوع، صلاةً لا خوف فيها، "وهل بعد الموت خوف؟!" بعدها طافوا المهجع ودعوا الجميع مصافحةً وتقبيلاً:

-         سامحونا يا جماعة... نرجوا أن تغفروا لنا أخطاءنا، ادعوا لنا عند الله ان يأخذنا بواسع رحمته وأن يحسن ختامنا.

الأشخاص الأربعة أعرفهم جيداً، هم كلهم شباب في مثل سني أو أكبر، "النسبة الغالبة من الذين أعدموا هم من الشباب، وقلة منهم تكون قد تجاوزت الأربعين".

الهدوء، ابتسامة خفيفة، أراقبهم جيداً، أتلصص، هل هدوؤهم حقيقي أم مصطنع ؟ أرقب اليدين ، زوايا الشفتين، العيون، لا ألمح شيئا يدل على الخوف أو الهلع.

يودعون ويصافحون الجميع عداي، يقفون الى جانب رئيس المهجع ، يخلعون كل الثياب التي لا زالت بحالة جيدة وتصلح لاستخدامها من قبل الأحياء من بعدهم ، يلبسون بدلاً منها ثيابا مهترئة لا تصلح لشيء، يسلمون الثياب الجيدة الى رئيس المهجع لتوزع بمعرفته، يقفون خلف الباب الذي لا يلبث أن يفتح ... ويخرجون.

الإعدام يتم قبالة مهجعنا، وقد رأينا المشانق عدة مرات أثناء خروجنا أو دخولنا من التنفس، وهناك يتم تجميع الذين سيتم تنفيذ حكم الإعدام بهم.

بين الفينة والأخرى نسمع صوت التكبير ينطلق من حناجر عدة أشخاص معاً، يبدو أنها الدفعة التي يأتي دورها بالتنفيذ:

-         الله أكبر ... الله أكب.

 خلال الفترة الماضية كلها كان شعر جسدي يقف منتصباً كلما سمعت هذا الصوت ينطلق قبالة مهجعنا .

في الليل يطابق الساهرون بين العدد الذي ورد عبر الاتصال "المورس" وبين عدد ارتطامات الجثث على ارضية السيارة.

-         صحيح ... خمسة وأربعون شهيداً.

في اليومين التاليين ينهمك الحفظة بحفظ اسمائهم وعناوينهم.

15 تموز

الآن أصبح هناك من أحادثه.

في لحظة كان فيها الحارس على السطح قريباً من الشراقة ، وقف أحد السجناء وسط المهجع ، وضع يده على خده كمن يمسك بسماعة هاتف، صاح:

-         الو ... الو ... أعطوني القائد.

"القائد هو لقب شقيق رئيس الدولة، ويقود واحدة من أقوى وحدات الجيش، ويعتبر خليفة للرئيس" .

سكت الجميع ، عيونهم موزعة بين الحارس والسجين الذي استمر يطلب القائد، وأحيانا يطلبه باسمه الأول ، ثوان قليلة وهجم عليه أربعة أشخاص سحبوه من وسط المهجع وقد كموا فمه الى حيث المغاسل وهو المكان الذي لا يستطيع أن يراه الحارس فيه ، عاد واحدٌ منهم وقال لرئيس المهجع مبتسماً :

-         يبدو ان الأخ فقس !

-         لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم ثبت عقولنا، العقل زينة الإنسان !.

جنونه كان لطيفا، لا أذى، لا هياج، فقط يريد أن يكلم القائد.

-         ماذا تريد من القائد؟

-         هناك موعد بيني وبينه ، لم يأت ... لقد أخلف الموعد !.

تخاله طبيعياً، أكثر جمله وأحاديثه مترابطة، ولكنه خرق النظام العام للمهجع في أكثر الأمور أهمية وحساسيةً:

لم يعد يصلي ، لم يعد يغتسل ، وبعد عدة أيام من جنونه فاجأ الجميع وفاجأني ، جلس قبالتي على فراشي ، حياني قائلا :

-         السلام عليكم ... انت شو اسمك؟

ارتجَّ كياني كله، لم استطع أن أرد تحيته. فقط كنت انظر اليه، إلى عينيه الباسمتين مباشرة، منذ أكثر من سنتين لم أنظر في عيني انسان بهذا القرب، أحسست بالدفء.

سكت جميع من في المهجع، شيء غير مألوف يحدث امامهم !، جميع العيون منصبة على فراشي وعلى الكائنين الجالسين عليه، دهشة من نوع خاص تكسو جميع الوجوه، يبدو أن الجميع كان قد نسيني، ففي غمرة الأحداث وضمن شلال الموت المتدفق سكنت مشاعر العداء المتأججة نحوي ، أو بالأحرى غطاها الرماد، بقيت مثل الجمر تحت الرماد.

لقد تعودوا على وجودي الى جانب الباب ولم يعد هذا الوجود يطرح اسئلة عليهم، لون الباب أسود بشع، في البداية يستفز لون الباب الجميع، ولكن مع توالي الأيام يألفونه ثم ينسونه، وكذلك وجودي الى جانبه.

والآن يوسف "مجنون القائد كما اصبح اسمه"، يعيد تذكيرهم بكل شيء، دهشوا، تفحصوا وجهي، كنت مهملاً والآن بفضل مجنون القائد أعود الى دائرة الأضواء!.

العجزة في المهجع كثر، المشلولون والمجانيين، ثلاثة عميان، أخرس واحد.

أميز حالة بين المجانين إضافة الى يوسف هي حالة دكتور الجيولوجيا  لا أعرف هل هو جنون أم شيء آخر ؟  رجل في الخمسين من عمره، ذهب الى امريكا لدراسة الجيولوجيا، نجح في دراسته وحاز على الدكتوراه بدرجة امتياز، عاد الى البلد وبعد عودته ببضع سنوات تسلم ادارة واحدة من أهم المؤسسات العلمية، كان ميالا الى التدين، يؤدي فرائض الدين بأوقاتها، يصوم ويصلي، ذهب الى مكة للحج ، وإبان احتدام الصراع بين الإسلاميين والسلطة كانت هذه الصفات تهمة بحد ذاتها، عند فجر أحد الأيام سحبه رجال المخابرات من وسط عائلته، وماذا جرى بعد ذلك لا يعرف أحد.

يجلس دكتور الجيولوجيا على الأرض متربعاً ووجهه الى الحائط ثم يغطي نفسه كاملاً بالبطانية، ليلاً ونهاراً ، صيفاً وشتاءً، حاول كثيرون أن يسألوه، يحادثوه، سنواتٍ ... لم يلفظ حرفاً ... لم يفتح عيناً.

يرفع أحدهم بطانيته من الأمام قليلاً ويضع له الطعام في حجره، يأكل وهو مغطى بالبطانية، يذهب الى المرحاض وهو مغطى بالبطانية، كل بضعة أيام يقوده اثنان من تحت إبطيه  وهو مطيع جداً  الى المغاسل، يخلعون ثيابه، يغسلون جسده، يعيدونه وهو مغطى، مكان دكتور الجيولوجيا قبالتي تماماً.

************

نحن الآن جائعون ... وجائعون بشدة، منذ ثلاثة أشهر هبطت كميات الطعام التي تقدمها لنا إدارة السجن هبوطاً حاداً.

كان لكل سجين يومياً رغيفان من الخبز العسكري ، الآن رغيف واحد لكل أربعة سجناء ، حصتي اليومية ربع رغيف لثلاث وجبات ، اليوم فطوري كان ثلاث حبات زيتون هي كامل حصتي ، ملعقة صغيرة من المربى على العشاء ، إذا كان الأفطاربيضاً فلكل ثلاثة سجناء بيضة مسلوقة ، "نصح الأطباء الجميع بعدم رمي قشر البيض، يسحقونه ويأكلونه للتعويض عن الكلس".

بعد ثلاثة أشهر من الجوع، الهزال واصفرار الوجوه باد على الجميع، قلّت حركة الجميع، من كان يقوم بالرياضة سراً أقلع عنها.

الشرطة تراقب ... وتواصل عملها كالمعتاد.

جلس يوسف قبالتي على الفراش، في يده اليمنى قطعة خبز صغيرة فوقها قليل من مربى المشمش، ناولني إياها:

-         خود ... هاي الك.

-         شكراً يا يوسف... هادا عشاك ولازم تاكله.

-         لا أنا شبعان ... وإنت زلمه بدك تتجوز بكره، لازم تاكل عسل، قال الدكتور إن العسل مفيد.

ثم تابع الحديث دون أن يتيح لي فرصة الكلام:

-         هلق انت شو بتتمنى؟

-         اتمنى أن أطلع من هون.

-    شوف ... هون كويس ... انت تعرف انه عندي فرس اصيلة لونها احمر، وعندي تياب كلها بيضا، ابيض بأبيض ... استنى شي كم يوم بتشوف أخوك يوسف لابس أبيض بأبيض ... وراكب عالفرس الحمرا، وواقف بنصّ موسكو .. بالساحة الحمراء...

سكت قليلا ثم أردف بصوت أحد قليلا :

-         والله ... والله بدنا ندك اسوار موسكو !..بدنا نمسح الكفر والكفار! .

15 أيلول   

أنا جائع، أكثر من خمسة شهور مرت على بداية الجوع، غريزة البقاء، بدأت تحدث بعض المشاجرات بين السجناء بسبب توزيع الطعام، عهدوا بهذا الأمر الى أكثر الأشخاص احتراماً و مهابةً، تطرح هنا تساؤلات كثيرة حول سبب نقص الطعام:

-         هم يريدوننا أن نموت جوعاً!.

-    قد يكون لدى السلطة النية بإخلاء سبيلنا، لكنها لا تريدنا أن نكون أقوياء في الخارج، يجب ان نكون مرضى كي لا نستطيع القيام بشيء خارجاً.

الكثير من التخمينات ، الكثير من التحليلات، ولكن الشرطة كانت تراقب.

فتح اليوم عناصر الشرطة الباب وطلبوا إدخال الطعام، ركض الفدائيون وقاموا بإدخال كميات الطعام الهزيلة، ولأول مرة لم يكن هناك ضرب وكرابيج، برز بعدها المساعد ووقف على باب المهجع، بيده بطيخة حمراء تزن حوالي ثلاثة كيلو غرام، صاح برئيس المهجع:

-         تعال لهون.

ذهب رئيس المهجع اليه مسرعاً.

-         خود هالبطيخة، حصة المهجع!.

سكت قليلا وبعد ان تناول رئيس المهجع البطيخة، قال المساعد:

-         بدي شوف ... كيف بدك توزع هالبطيخة على المساجين!.

تردد رئيس المهجع قليلا، في البداية ظهرت على وجهه علائم الحيرة ثم امارات التحدي والاستفزاز، "أصبحت أعرفه جيدا بحكم قربي منه"، أطرق برأسه قليلاً ثم التفت الى داخل المهجع وصاح بصوت عال:

-         يا مرضانين ... هاي البطيخة الكم.

وناولها الى أحد السجناء.

نظر اليه المساعد لثانيتين بتمعن شديد، رجع خطوتين الى الوراء وصفق الباب بوجه رئيس المهجع بقوة.

جلس جميع السجناء، شعور الفخر يغمر الجميع، حتى أنا، لقد هزم رئيسُ المهجع المساعد، يكفي انه أغاظه.

فيما الجميع منهمكون بالحدث حانت مني التفاتة الى اليسار وإذا بي ارىالساحة تلوح امامي، ساحة الإعدام ... الساحة السادسة، هناك الى جانب، كشف الباب، فجأة وجدت ثقباً غير منتظم أكبر قليلاً من حجم جوزة ، هذا الثقب حدث الآن! نظرت حولي فوجدت كتلة اسمنتية على طرف فراشي، حملتها وسددت الثقب بها فركبت تماما وسدّته، الثقب على مستوى رأسي وأنا جالس.

عندما صفق المساعد الباب ومن قوة الضربة سقطت هذه الكتلة الاسمنتية والتي يبدو أنها بالأساس متشققة وأحدثت هذا الثقب.

الآن استطيع أن أرى كل ما يدور في الساحة متى أشاء ذلك، استطيع ان أتلصص على الخارج كما أتلصص من ثقب قوقعتي على الداخل.

يوسف "مجنون القائد" انقطع عن زيارتي، أو لم يعودوا يسمحوا له بزيارتي، انتبهوا لي مجدداً بعد زياراته، مجموعة من الأشخاص أخذت على عاتقها أمر الحيلولة بينه وبين زيارتي، يراقبونه وهم جالسون حتى إذا رأوه متجها نحوي ناداه أحدهم ‏أو وقف في طريقه يمازحه:

-         شو يوسف ... ما بدك تخبر القائد؟

-         أي .. بدي خبرو ... بس تلفوني مقطوع.

-         تعال لهون ... أنا عندي تلفون.

يأخذه الى مكانه، يحادثه الى أن ينسى يوسف أنه كان قادماً لعندي.

} الجوع يقرص معدتي.{

20 أيلول

ثلاثة أيام بعد اكتشاف الثقب، ثلاثة أيام لم استطع أن أنظر من خلاله، قلبي ينبض بشدة كلما فكرت في الأمر.

طوال اليوم وأنا أفكر كيف أتغلب على خوفي من الشرطة، والأهم خوفي من السجناء، ماذا سيفعل السجناء إذا رأوني وأنا انظر عبر الثقب؟!.

هبط علي الوحي عندما نظرت أمامي، الى دكتور الجيولوجيا، لماذا لا أفعل مثله ؟!! أدير وجهي قبالة الحائط وأغطي نفسي بالبطانية، بحيث تغطي البطانية الثقب أيضاً، وهكذا أنظر بحرية دون أن يلاحظ أحد، وهذا يخلصني في الوقت نفسه من النظرات العدائية التي ازدادت مؤخراً.

ولكن يجب أن أجرب التغطية لمدة يومين أو ثلاثة قبل أن أغامر وأفتح الثقب وأنظر من خلاله.

القمل يهرش جسدي، لم استطع الاعتياد عليه والتعايش معه بعد.

}الجوع يشتد ويتراكم. {

30 أيلول

نجحت في أن أجعلهم يعتادون على رؤيتي مغطى بالبطانية، منذ يومين مرّ أحد السجناء من خلفي وأنا مغطى، سمعته يقول لرئيس المهجع:

-         شو يا أبو محمد ؟.. كنا بواحد صرنا باثنين .. شو القصة ؟ ... كمان الاستاذ أجّر الطابق الفوقاني ؟! .

-         خليها على الله... اللهم نسألك حسن الختام.

لم أستطع ان أنظر من خلال الثقب ولا مرة، لأن الشرطة كانت في حالة هياج شديد، فقد كانت تمر فترات نشعر فيها أن قبضة رجال الشرطة قد تراخت قليلا، وفجأة تعود هذه القبضة لتصبح من حديد ونار، عندها يخمن البعض هنا أن هناك احداثاً هامة تدور في الخارج، وأن السلطة قد منيت بخسائر جسيمة وأن وضعها حرج وقد تكون آيلة للسقوط، ونتيجة لعجزها عن مواجهة ما يدور في الخارج فانها تحاول ن تعوض هنا وتنتقم من المساجين المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة .

6 تشرين الأول

اليوم كان مليئاً.

منذ الصباح تعج الساحة بالأصوات والضرب والصياح والصراخ. فتح باب مهجعنا وخرج الفدائيون لإدخال الطعام تحت ضرب الكرابيج والعصي، أحد الفدائيين تلقى ضربة عصا سقط على إثرها ارضاً وكانت هذه آخر سقطة له، بقي في الخارج وحيداً بين أيدي عناصر الشرطة، وبعد قليل صاح الرقيب:

-         ولا كلاب ... تعوا دخلوه.

عاد الى المهجع محمولاً بدلا من أن يكون حاملاً.

تلقفه الأطباء في المهجع، بعد أكثر من ساعة لفظ أنفاسه وأسلم الروح بعد ان أوصى صديقه بصوت  متهدج:

-         سلم على ابوي ... إذا الله فرج عنك ... احكيلوا عني ... وقل له يرفع رأسه بابنه ...

واحد من الأطباء أتى الى عند رئيس المهجع والحزن باد عليه:

-    البفية بحياتك يا أبو محمد ...يوم جديد وشهيد جديد... الله يرحمه ما خلوا محل بجسمه الا وضاربينه ...عدة إصابات ... حتى الخصيتين مهروسات هرس.

-         عليه رحمة الله، خلي الشباب يجهزوه مشان ندق الباب ونطالعه.

انغمس المهجع بتجهيز الشهيد، الحديث عن الشهيد، مآثره، وصيته الأخيرة، ثم صلوا عليه سرا وأحضروه قرب الباب، وضعوه في الفسحة الفاصلة بيني وبين أبو محمد رئيس المهجع، علق واحد:

-         العمى شو هالحالة ؟! عم نموت واحد ورا واحد متل الخرفان !!.

لم يرد عيه أحد.

وقف أبومحمد ودق الباب بجماع يده، وجاء الصوت من الخارج:

-         شو بدك يا ابن الشرموطة ؟... ليش عم تدق الباب ؟.

-         يا سيدي ... في عنا واحد شهيد !!! ... عفوا عفوا ...

واحد ميت.

نسي أبو محمد حذره من كثرة ترداد كلمة شهيد في المهجع، انتبه واستدرك ولكن هذا الاستدراك جاء متأخراً.

فتحت الطاقة الصغيرة في الباب الحديدي وظهر رأس الرقيب، وبمنتهى الهدوء توجه بالسؤال الى أبو محمد الذي كان واقفاً:

-         مين يللي قال شهيد ... يا رئيس المهجع ؟.

-         أنا سيدي.

أغلق الرقيب الطاقة وصاح بالشرطة أن يفتحوا الباب.

في الثواني القليلة التي استغرقها فتح الباب، التفت أبو محمد الى الناس وقال:

-         يا شباب سامحوني ... إدعوا لي ... ويللي  يضل طيب منكم خليه يروح لعند ولادي ويحكيلهم كيف مات أبوهم! 

فُتح الباب. جمهرة من الشرطة أمامه تنظرالى الداخل، جمهرة من المساجين وفي المقدمة أبو محمد ينظرون إلى الخارج، صاح الرقيب:

-         ولا ابن الشرموطة ... اطلع لبره.

قذف أبو محمد نفسه بينهم، صاح الرقيب بالشرطة أن يغلقوا الباب، كل السجناء واقفون إلا العجزة ودكتور الجيولوجيا، جلست أنا ايضا وغطيت نفسي بالبطانية، وبسرعة وبهدوء نزعت الكتلة الاسمنتية قليلاً... قليلاً.

لم أكن أعي أو أدرك ما أفعل، فالشرطة أمام مهجعنا تماماً والثقب كبير يمكن لأي شرطي أن يلاحظه، ولكني فتحت الثقب ونظرت.

أبو محمد كان ضابطاً سابقاً، وكان رجلاً حقيقياً. منذ فترة وعندما حدثت بعض المشاحنات في المهجع بسبب توزيع الطعام القليل أصلاً، أحس انه قد مُسَّ من قبل شخص ما، بقي على أثرها سبعة أيام لم يتناول خلالها ولا ذرة طعام، سبعة أيام بدون طعام بعد أشهر من الجوع.

اتى لعنده مجموعة من كبار المشايخ والناس الأكثر احتراماً في المهجع يطيبون خاطره ويعتذرون نيابة عن كل الناس، ورجاءً خالصاً ان ينسى كل شيء، وانهم لن يذهبوا من عنده قبل ان يأكل، وكان مما قاله ابو محمد رداً عليهم:

-    ابو محمد لا يمكن ان يسمح ل" لقمة أكل " ان تذله ... واذا كان هناك من تصرف او سيتصرف بدناءة، فهذا الشخص لن يكون ابو محمد، الموت ولا الذل.

بعد ان فتحت الثقب كان اول من رأيت هو ابو محمد، بيده عصا غليظة من المؤكد أنه انتزعها من أحد عناصر الشرطة بعد أن فاجأهم بطريقة خروجه، يضرب بها ذات اليمين وذات الشمال، تحيط به دائرة من عناصر الشرطة والبلديات، ثم رأيت واحداً من الشرطة ممدداً على الأرض.

تضيق الدائرة حوله وتنهال عليه بعض الضربات من الجانبين ومن الخلف، يتألم يلتفت ويهجم، تتسع الدائرة، معركة حقيقية ولكنها غير متكافئة عددياً، من طرف رجل يعرف انه سيموت في كل الأحوال، وقرر ألا يموت موتاً سهلاً ورخيصاً، ومن الطرف الاخر مجموعة كبيرة من الأشخاص اعتادوا ان يكون قتلهم للآخرين سهلاً.

والكثرة غلبت الشجاعة. سقط أبو محمد ارضاً بعد زمن قدرته بحوالي ربع الساعة، حضر اثناءها المساعد والطبيب ومدير السجن، على الأرض اربعة اشخاص ممددين، ثلاثة من الشرطة بينهم الرقيب " ابن الشرموطة "، لقد رأيت كيف تقصد ابو محمد أن يهاجمه هو رغم أنه كان بعيداً عنه، وكيف نزلت عصا ابو محمد على رأسه.

فحص الطبيب الجميع، أسعفوا أحد العناصر بسرعة، الرقيب والعنصر الآخر ماتا، ابو محمد مات، قدم الطبيب هذا الشرح لمدير السجن الذي التفت الى المساعد طالباً منه أن يجمع كل من في السجن من عناصر الشرطة والبلديات وأن يقف جميع الحراس المسلحين الموجودين على الاسطحة فوق مهاجع الساحة السادسة.

عرفت ان المشهد لما ينته بعد، أغلقت الثقب جيداً وأزحت البطانية.

( من الاشياء التي لا يمكن أن أنساها ابداً، شجاعة العميد في الساحة الاولى وشجاعة ابو محمد في الساحة السادسة، وفكرت كما يفكر الجميع هنا، تساءلت : كيف يحدث، او لماذا يحدث، ان يوجد هكذا ضباط في السجن، يُقتلون فيه والكل يعرف اننا في حالة حرب؟

ولكن فوراً قمعت هذا التفكير، محوته من ذهني ) .

اعتبر المقدم مدير السجن أن ما حدث كان تمرداً وسابقة خطيرة يجب أن تجابه بكل قوة، بمنتهى القسوة والعنف كي تكون درساً للجميع.

حوالي الثلاثمائة سجين، يحيط بهم على محيط الساحة أكثر من هذا العدد بكثير من عناصر الشرطة والبلديات، عشرات الحراس المسلحين على الأسطحة.

-         لا تتركوا أحداً في المهجع.

جمعونا وسط الساحة، في آخر الصف قريباً من المهجع وضعوا العجزة، القى مدير السجن محاضرة نصفها شتائم، والنصف الآخر تهديد ووعيد، وقد نفذ تهديده، قال للمساعد:

-         مابدي حدا يفوت على المهجع وهو ماشي، السليم منهم لازم يفوت زحف على بطنه.

"بعض السجناء سيسمي هذا اليوم لاحقاً ب / يوم التنكيل / وبعضهم الآخر سيسميه / يوم أبو محمد/". .

استمر التنكيل من قبيل الظهر إلى ما بعد حلول الظلام، وكان أكثر ما يؤلم مشهد المشلولين وهم يُضربون، يحاولون الحركة، يحاولون تفادي الضرب .. ويظلون مكانهم.

دخلنا زحفاً وجرجرةً، من لم يستطع ان يجرجر نفسه أوغيره، تكفل البلديات ب " قذفه" داخل المهجع، اخذنا نضمد جراحنا، نغسلها، نبحث عن مزقة قماش نلف بها جرحاً ما.

الجوع يعضنا، رغم ذلك نمنا.

7 تشرين اول

في الصباح الجميع ينظر الى الجميع، كل من لديه القدرة يحاول أن يطمئن على جاره، الحصيلة ثلاثة قتلى ماتوا ليلاً، جراحي خفيفة ولا تشكل أي خطر.

أتى المساعد ومعه الشرطة، كل من يستطيع الوقوف وقف، "اكتشفت أن ابو حسين وهو الشخص الذي يوزع الطعام ويرضي الجميع كان قد نقل فراشه ليلاً الى مكان ابو محمد".

تقدم المساعد خطوتين، شمل المهجع بنظرته، ابتسامة على زاوية الفم، نظر إلى ابو حسين، نظر إليّ، أشار إليّ قائلاً:

-         إنت بتصير رئيس مهجع.

سكتّ ولم اجب، سكت المساعد وتراجع يريد الانصراف، تحرك ابو حسين مصطنعاً الخوف، رفع يده عالياً وقال:

-         يا سيدي اسمحلي بكلمة.

-         قول ولا.. كرّ.

-         يا سيدي هادا يللي عينتوا رئيس مهجع .. يا سيدي، مجنون!.

التفت المساعد إليّ، سألني:

-         انت مجنون .. ولا؟

لم إجب. لم أعرف بماذا أجيب. قال المساعد:

-         طيب .. أصبح انت بدك تصير رئيس مهجع.

-         متل ما بدك سيدي .. بس في عندنا ثلاثة ميتين.

-         ميتين؟.. ولا شهداء؟

-         ميتين سيدي.. ميتين.

-         قول نفقوا.. ولا جحش.

-         نفقوا سيدي.. نفقوا.

-         يالله .. طالعوهم لبره.

وأغلق الباب. أصبح ابو حسين رئيس مهجع، اقترب مني بهدوء وقال:

-         انا بعرف إنك مانك جاسوس .. وساويتك مجنون لأنه للضرورة أحكام.

" هاهو واحد اخر منهم يشعرني بالأمان الى جانبه ".

24 شباط

البرد يجمدنا، الجوع يضنينا.

أكثر من عشرة اشهر مرت ونحن جائعون، ربع رغيف أقسمه ثلاثة أقسام، وأقاوم، أقاوم الرغبة بالتهامه كله دفعة واحدة، عشرة شهور لم يصل فيها أحد السجناء الى الشعور بالشبع، الهزال بدا شديداً على الجميع، الوجوه مصفرة وآثار سوء التغذية جلية واضحة.

في البداية تعامل الجميع مع المسألة بأنفة وعزة نفس، شيئاً فشيئاً ومع استمرار الوضع بدأت التصرفات الغريزية تطل برأسها، فالسجن أساساً هو عالم الاشياء الصغيرة، عالم الصغائر، اثنان من اساتذة الجامعة، شخصان محترمان جداً، كبيران في السن .. يتشاجران، يتشاتمان، ينتهي الأمر بالمقاطعة، والمسألة برمتها تكون قد بدأت على الشكل التالي:

-         يا اخي كم مرة قلت لك لا تلبس شحاطتي؟!

-         ايه ... شو فيها إذا لبسناها؟ .. رح ينقص من قيمتها يعني؟!

-         بينقص ما بينقص ... لا تلبسها وبس... صار ميت مرة حكينا ... وإلا انت ما بتفهم حكي؟!

-         انا ما بفهم!!... شو شايفني حمار متل حضرتك؟!

-         أنا حمار ؟! ... ايه إنت وأبوك وكل عيلتك حمير يا أكبر حمار!!.

وقد يتطور الأمر بين الأستاذين إلى الضرب إذا لم يتدخل أحد بينهما.

لا يمر يوم دون مشاجرة أو أكثر موضوعها الوحيد الطعام .

-         ليش اعطيتني قطعة خبز أصغر من غيري؟

-         ليش تعطي لفلان ملعقة لبنة كاملة وانا يا دوب نص ملعقة؟

-         ما بيكفي إنه حصتي ثلاثة حبات زيتون وفوقها تكون صغيرة، حبات غيري سمينة.

قبل شهر اجتمع الاطباء مع رئيس المهجع ابو حسين، شرح احدهم لابو حسين ان استمرار الوضع الحالي ينذر بكارثة مرضية، وأن لديهم اسباباً قوية من خلال ملاحظاتهم وفحوصهم للاعتقاد أن قسماً من السجناء قد أصيب بالسل، وطلبوا منه إبلاغ ادارة السجن بالأمر، وبعد نقاش تقرر اعتماد خطة المرحوم ابو محمد.

أبلغوا جميع المهاجع بالأمر عن طريق "المورس" وتبين أن الإصابات لدى الجميع، وبعد المطالبة حضر المساعد ، شرح له ابو حسين الوضع وأردف:

-    يا سيدي الأطباء متأكدين إنه مرض السل.. ومتل ما سيادتكم تعرفوا هادا مرض معدي كتير ... ونحن وانتو بمحل واحد، ومتل ما ممكن السجين يمرض، ممكن لا سمح الله الشرطي كمان ينعدى.

-         ابتدأ العلاج ، تفاعل السلين ، الأرشيدين ...

************

أنا منذ أشهر مستمر بالمراقبة والتلصص عى ساحة السجن عبر الثقب، حفظت وجوه عناصر الشرطة كلهم، شاهدت الإعدامات ... ثمان مشانق ... كل اثنين وخميس، أسمع كلام الشرطة بوضوح احياناً، كان الناس هنا يتساءلون: لماذا لم نعد نسمع صيحات الله أكبر لدى تنفيذ حكم الأعدام ؟. الآن عرفت السر، بعد أن يخرج المحكومون بالإعدام من المهجع يغلق الشرطة الباب ويقومون بلصق أفواه المحكومين بلاصق عريض، كأن صرخة الله أكبر من المحكومين قبل اعدامهم تشكل تحدياً واستفزازاً للمحكمة الميدانية وادارة السجن، فمنعوها باللاصق.

المشانق غير ثابتة، لا تشبه المشانق العادية التي يصعد اليها المحكوم بالإعدام. هذه المشانق هي التي تنزل إلى المحكوم، البلديات الأشداء يميلون المشنقة إلى أن يصل الحبل إلى رقبة المحكوم بالإعدام، يثبتون الحبل حول الرقبة جيداً ثم يسحبون المشنقة من الخلف، يرتفع المحكوم عليه وتتدلى رجلاه في الهواء، بعد ان يلفظ الروح ينزلونه الى الارض ... وتأتي الدفعة الثانية ثم الثالثة ... أغلب الذين شاهدت اعدامهم كانوا هادئين، شاهدت أيضاً حالات كثيرة ظهر فيها حب الحياة والضعف الانساني، البعض كانت ترتخي لديه مصرتا البول والبراز، والشرطة في هذه الحالة ينزعجون كثيراً، فالرائحة لاتطاق، يشتمون ويضربون الشخص الذي عملها !. بعضهم الآخر كانوا يبكون، يحاولون الكلام والتضرع فيمنعهم اللاصق العريض، أحد المساجين من صغار السن استطاع أن يفلت من بين ايديهم ويركض في الساحة السادسة، وهي ساحة كبيرة جداً ذات فرعين، الهرب مستحيل واضطر الشرطة والبلديات للركض وراءه لدقائق الى أن أمسكوه، اوقفوه تحت المشنقة فجلس على الارض، رفعه اثنان من البلديات وأدخلوا رقبته في الحبل، بعد قليل لعبط برجليه في الهواء.

20 آذار

علاج مرضى السل مستمر، وجولات الدكتور سمير الذي قام بالعلاج أيضاً مستمرة، مرّ شهران كاملان لكن الاصابات في تزايد مستمر، وصل الرقم الى ألف وثلاثمائة إصابة في السجن حسب ما قال الدكتور سمير، الوفيات قليلة جداً.

كان الجميع هنا يعزي معالجة التهاب السحايا ومرض السل الى فضل طبيب السجن، الجميع يشيد بانسانيته وذلك حتى عشرين يوماً خلت، حيث وردت رسالة "مورس" مؤلفة من بضع كلمات:

" طبيب السجن قتل اثنين من زملاء دفعته. "

الرسالة واردة من المهجع السابع، بعد ثلاثة أيام وردت رسالة اخرى:

" طبيب السجن قتل ثلاثة من زملاء دفعته. "

الرسالة واردة من المهجع الرابع والعشرين.

أبو حسين، وهو شخص ديناميكي جداً بالاضافة الى انه ذكي، احس بالخطر، فدعا الطبيبن زملاء دفعة طبيب السجن لعنده، تحدث واياهما مطولا، سألهما عن أشياء كثيرة، كانت لديه خشية كبيرة من أن يقوم طبيب السجن بقتل كافة زملاء دفعته ومنهم هذان الطبيبان، استخدم أبو حسين كل لباقته ودهائه كيلا يدخل الخوف الى قلبيهما، وفي الوقت نفسه كان لا يريد أن يكذب عليهما. الحديث كان طويلا جداً، وأهم ما فيه قول أبو حسين لهما:

-    أنا لا أريد أن أهون المسألة وأكذب عليكما، يبدو أن زميلكما قد بدأ هناك ومن المحتمل أن ينتهي هنا، - وأرجوا من الله أن يكون ظني خاطئاً -  ولكن  قد يكون دوركما قادماً -  لا سمح الله - ، والآن هل استطيع أنا أو غيري أن نفعل شيئاً؟.

سكت الطبيبان قليلاً ثم تناوبا على الحديث بعد ذلك:

-    ليس بيدك أو بيدنا يا أبو حسين إلا أن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، وستأتي ساعة نقف فيها جميعا بين يدي الله، و يا ويله من تلك الساعة.

-         ولكن قولا لي لماذا يفعل هذا؟ هل هو ينتقم؟ وممن؟.

-    والله يا أبو حسين لا نعرف الكثير عنه، ما نعرفه ويعرفه جميع زملائنا أنه أتى الى الجامعة وكان فقيرا جداً، كان ريفيا بسيطا وخجولا، قد يكون زملاؤه أبناء المدينة قد تعاملوا معه بفوقية، وبعضُ منهم عامله باحتقار، عرف الجميع أنه من عشيرة الرئيس وهو لم يكن يخفي هذا، كان يدرس الطب على نفقة الدولة، قيل إنه كان يعمل مخبرا لدى الجهات الأمنية، كل أبناء المدينة تجنبوه، والقصة التي لها بعض المعنى في هذا المضوع هو حبه لزميلة من زميلاتنا من بنات المدينة، بقي حتى السنة الثالثة في الجامعة يحبها بصمت، لا يجرؤ على الاقتراب منها أو مصارحتها، في السنة الثالثة انتهز فرصة انفراده بها بأحد المخابر، أمسك يدها وصارحها بحبه، قال إنه يعبدها ... وإنه.... وإنه.

الفتاة وهي من عائلة مدينية محافظة عرفت بالغنى والقوة، كانت ردة فعلها عنيفة جداً، وقد تكون هي السبب في كل ما يحدث ، صدته باحتقار واشمئزاز، اشتكت الى عمادة الكلية، ثم أخبرت أهلها بما حدث.

عوقب من قبل الجامعة، ولكن ردة فعل الأهل كانت أعنف، ثلاثة من أخوة الطالبة ظلوا يتجولون في أرجاء الكلية بصحبة أختهم مدة ثلاثة أيام، وكان واضحا للجميع أنهم يخفون أسلحة تحت ثيابهم، كانوا يبحثون عنه وبنيّتهم قتله، هكذا قالت الطالبة فيما بعد، لكنه لم يكن موجوداً، لقد اختفى ولم يعد يحضر الى الكلية.

بعد أسبوع حضرالى الكلية وكأن شيئا لم يكن. إخوة الطالبة انسحبوا. عقوبة الإدارة ألغيت.

-         راح جاب قرايبه المخابرات، ودخّل وساطات، باس الأيادي حتى عفا عنه أهلي.

هكذا راحت الطالبة تشرح الأمر للآخرين.

تابع دراسته منزوياً لايختلط مع أحد إلا طالباً أو طالبين من منطقته، الكل كان يعامله بعدها باحتقار، وبعض زملائنا الطلاب كانوا أحياناً يسلقونه بتعليقاتهم اللاذعة.

-    لكن ... اقسم بالله يا اخي ابو حسين , نحن هذه المجموعة لم نكن ننتبه لهذه الامور لا من قريب ولا من بعيد , كنا في صف واحد أكثر من خمسة وعشرين شاباً مؤمناً بالله نحضر بعد الدوام دروسا دينية في المسجد، ولهذا السبب نحن هنا الان، كم من الاخوة قبض عليه وكم منهم نجا، لست أدري ... كان الله في عون الجميع.

-    هم م ... قلت لنفسي إنه قد يكون في الامر امرأة. إن هذا الشخص يشعر بالعار، ولكن هل اذا  قتل شهود عاره، يمحي هذا العار ؟... غبي ...

ولكني إعتقد أن هذا السبب على قوته لايكفي! أعتقد ان هناك سبباً اخرَ لا يعرفه احد!

اليوم في 20 آذار، قبل عيد الربيع بيوم واحد، كان موعد هذين الطبيبين مع زميلهما.

أخرج عناصر الشرطة الطبيبين وأغلقوا الباب، أسرعت الى بطانيتي والثقب، رايت الطبيبين يسوقهما عناصر الشرطة إلى أمام طبيب السجن الذي يقف على مبعدة أربعة او خمسة أمتار من المهجع. يقف الطبيب عاقداً يديه على صدره وهو يبتسم. رحب بهما: أهلاً وسهلاً، ثم التفت الى عناصر الشرطة وأمرهما:

-         روحوا خلوكم جانب البلديات.

في وسط الساحة سبع من البلديات العمالقة. وقف عناصر الشرطة بالقرب منهم، اسمع الحديث بصعوبة، قال طبيب السجن:

-    ايه ... هلق عم تقولوا لحالكم : سبحان مغير الاحوال ... طيب وانا كمان بقول هيك ... بدي اطلب منكم طلب، مين منكم بدو يجوزني اختوه ؟ .

لم يجب الطبيبان بشيء، رأساهما منكسان قليلاً، تابع طبيب السجن:

-         ليش ساكتين؟! ... شو يا عدنان ... أنا عم أخطب اختك على سنة الله ورسوله، الزواج عيب شي؟.

-         بس انا ما عندي اخت، والحمد لله.

هنا قال طبيب السجن لعدنان شيئاًً لم اسمعه. سادت فترة صمت ثم التفت الى الطبيب الآخر، وقال :

-         طيب ... وأنت يا زميل سليم كمان ما عندك أخت؟.

-         نعم ... عندي أخت.

-         طيب خطبني اياها على سنة الله ورسوله.

-         الزواج قسمة ونصيب، ونحن هلق بوضع ما بيسمح بنقاش هيك أمور، وأولاً وأخيراً أنا ماني ولي أمرها.

-         هذا أسلوب تهرب ...

اقترب منه وبصوت أقوى:

-         وإلا شايف انه نحن مو قد المقام، انتو ناس أغنياء وأكابر، نحن فلاحين، مو هيك؟

اقترب منه ولوح بيده أمام وجهه وبصوت حاد صاح وهو يصر على أسنانه:

-    ولك شوف ... افتح عيونك وطلع لهون، شايف هذا البوط، بوطي أحسن منك ومن أختك وأهلك و كل عشيرتك وطايفتك ... ولا كلب.

ثم التفت الى حيث البلديات وصاح:

-         بلديات... تعوا لهون ولاك... خذوهم ع نص الساحة.

سحب البلديات الطبيبين. ومشى وراءهم وهو يصيح:

-         هدول ناس أكابر ... يعني فوق ... فوق، وهلق نحن بدنا نطالعهم كمان لفوق أكثر وأكثر ... يالله لشوف.

في منتصف الساحة كنت أرى ولا أسمع، استلقى عدنان على ظهره وأمسك به سبعة من البلديات، من الرجلين، اليدين، الخاصرتين، ومن تحت الرأس. إنها عقوبة المظلة. والمظلة عقوبة تعني واحداً من ثلاثة أشياء: إما كسور مختلفة في سائر أنحاء الجسم وعلى الأغلب في الحوض، وإما شلل دائم عندما يكون الكسر في العمود الفقري، أو الموت وهو الاحتمال الثالث خاصة عندما يسبق الرأس الجسم في النزول، وغالبا هذا يحدث عندما يكون عنصر البلديات الممسك بالرأس أقل قوة من الآخرين.

رفع البلديات عدنان، وجهه الى السماء، ظهره مواز للأرض الاسفلتية، أرجحوه قليلاً ثم بصوت عال:

-         يالله .. واحد ... اثنين ...ثلاثة.

وقذفوه الى الأعلى، ثم خبطة قوية على الأرض، لم يتحرك عدنان بعد أن صرخ صرخة ألم رهيبة.

انتظر طبيب السجن قليلا، أشعل لفافة تبغ وظهره لعدنان والآخرين، كان ينظر باتجاه باب مهجعنا، عبّ نفسا من اللفافة وزفره، التفت وأشار للبلديات الذين تقدموا ورفعوا عدنان مرة أخرى و ... واحد ... اثنين ... ثلاثة، هذه المرة لم تصدر أية صرخة.

أشار لسليم اشارة وهو يتكلم كلاماً لم أسمعه، اقترب سليم وانحنى فوق عدنان، وقف وقال كلاماً لطبيب السجن الذي انتفض وصفعه على وجهه صفعة سمعت صوتها وأنا جالس داخل المهجع ... وبدأ يصرخ ويشير بيديه.

تكرر نفس الأمر مع سليم.

تركوهما وسط الساحة في حالة استلقاء أبدي. غادر طبيبُ السجن، يحيط به موكبه، الساحةَ.

مجموع ما قتله طبيب السجن من زملاء دفعته أربعة عشر طبيباً.

إذا كان بعض هؤلاء الأطباء أو أحدهم يعرف الأسباب التي دفعت زميلهم إلى قتلهم فإنه أخذ السر معه الى القبر، لأن القاتل لن يتكلم. وظل الأمر داخل السجن في إطار التكهنات ... فلا أحد يعرف السر الحقيقي.

6 ايار

الدكتور سمير ومن خلال جولاته الطويلة داخل السجن استطاع أن يحقق بعض الأمور التي لم يحققها غيره، عرف تقسيمات السجن وتوزع ساحاته ومهاجعه، أصبح لديه كم هائل من المعلومات عن نزلاء كل مهجع، ينقل الأخبار بين المهاجع، فقد يكون هناك مجموعة من الإخوة من عائلة واحدة اعتقلوا سوية ولم يعد أحدهم يعرف عن الآخر شيئاً، يقوم هو بالسؤال عنهم وتطمين بعضهم ان الاخرين موجودون في المهجع كذا وكذا.

أهم أمر حققه انه نال امتياز التكلم مع الشرطة وهو مفتوح العينين، فنتيجة للاحتكاك الدائم تعود الشرطة ان يبدأهم هو بالحديث وهذا غير ممكن للآخرين.

الاثنين الماضي جاءت الهليوكوبتر، دخلت هيئة المحكمة الميدانية الى الغرفة المخصصة لها، سلمت اللائحتين إلى إدارة السجن، لائحة الذين سيحاكمون ولائحة الإعدام.

جلست أمام الثقب مغطى بالبطانية أتلصص على الشرطة وعملية الاعدام التي أصبحت روتينية بالنسبة لي، كالعادة حضر السجناء الذين سيتم تنفيذ حكم الإعدام بهم، تمت كل الاجراءات المعتادة، جهزت المشانق، البلديات جاهزون، وضعوا اول مجموعة ثمانية اشخاص تحت المشانق، لم يبق إلا انزال المشنقة والحبل، عندها صاح احد الذين لم يلصق فمهم بعد وكان الشرطي واقفاً امامه واللاصق بيده:

-         ياسيدي ... دخيلك، نحن لسه ما تحاكمنا.

انهال عليه الشرطة بالضرب والشتائم، فلا يجوز له ان يبدأهم الكلام، ولكن صيحته وصلت الى المساعد الواقف عند آخر مشنقة، قال:

-         اتركوه ... اتركوه.

ثم اقترب من السجين وسأله:

-         شو عم تقول .. ولا؟

-         ياسيدي نحن مانا محكمومين، لسه ما رحنا ع المحكمة.

-         شو ها الحكي !!.

التفت المساعد إلى الرقيب المسؤول. طلب منه اللائحة. تبين ان هناك خطأ ادارياً بسيطاً، لقد اخطأ الرقباء فأخذوا السجناء الذين من المفترض أن يعدموا الى المحكمة، وجلبوا الاشخاص الذين من المفترض أن يذهبوا الى المحكمة ليتم إعدامهم.

كل السجناء الذين جلبوا امام المشانق يعرفون انهم هنا بطريق الخطأ، ولكن لم يتجرأ إلا شخص واحد على تنبيه الشرطة على هذا الخطأ.

وبّخ المساعد الرقيب وتم اصلاح الخطأ.

بعد شهر تقريباً من مقتل الطبيبن عادل وسليم، عاد الدكتور سمير من جولته العلاجية، دخل المهجع، السلام عليكم، وقف قليلاً ثم جلس عند ابو حسين، بعد الاحاديث المعتادة قال ابو حسين:

-         شو دكتور ؟... انا شايف انه عندك حكي.

-         ايه والله ياابو حسين ... بدي نصيحتك.

شرح الدكتور لابو حسين ان لا نتائج ملموسة لكل العمل الذي يقوم به، ومع كل يوم جديد يتفاقم وضع مرضى السل اكثر فأكثر، "أنا كمن يحرث الماء"، وأن الدواء وحده لايكفي، فالغذاء الذي يتناوله المريض شيء اساسي، و:

-    متل مانك شايف ياابو حسين ... الناس جوعانه، واذا ما تحسن الاكل بالسجن، مستحيل حدا يطيب من هالمرض، بالعكس المرض بدو يشتد اكتر، وعدد المرضى بدو يزيد. وانه يفكر جدياً بأن يطلب اعفاءه من هذا العمل.

امتد النقاش طويلاً، شارك فيه اخرون، اخيراً ختم ابو حسين النقاش مذكراً الدكتور سمير بواجبه امام الله وواجبه الانساني طالباً منه أن يجعل من يأسه منطلقاً لتحسين الشروط، عندها سأله الدكتور:

-         وكيف بدي اعمل ؟

-         اطلب طبيب السجن، اشرح له الأمر، وطالبه بتحسين الطعام.

-         طبيب السجن ؟! هذا ... الجلاد!.

-         نعم .. هذا الجلاد، انت اعمل اللي عليك واترك الباقي على الله.

في صباح اليوم التالي ، كالمعتاد فتح الشرطة والبلديات الباب وهم محملون بالادوية ، لم يخرج الدكتور وقال للرقيب :

-         قبل الجولة ... لازم شوف طبيب السجن ... ضروري .

بعد قليل حضر طبيب السجن ، شرح له الدكتور سمير الأمر بلغة الاطباء ، وأنهى حديثه إلى نتيجة ان لا جدوى من العلاج كله اذا بقيت الشروط الغذائية كما هي عليه الان ، رد طبيب السجن :

-         اترك لي موضوع الطعام شي يومين.. ثلاثة ، وروح انت تابع العلاج مثل العادة .

الزائد أخو الناقص !.

بعد أسبوع من هذه المحادثة فتح الشرطة الباب لادخال الفطور، واذا بتلٍ من الخبز والبيض المسلوق، أدخل الفدائيون الطعام، وزعوه، نصيب الشخص الواحد سبعة ارغفة مع خمس بيضات مسلوقات ... من سيأكل كل هذا ؟.

نبه الاطباء الى ضرورة الاعتدال بالأكل، لانه بعد كل هذا الجوع لايجوز للبطن ان يمتلئ كثيراً.

استمر الجوع عاماً كاملاً تقريباً، اسماه السجناء " سنة الجوع "، وهي سنة غيرت الناس كثيراً، وانأ أيضا تغيرت، وهذا التغيير أحسه جلياً من الداخل، بعد مضي الأسابيع الأولى من سنة الجوع، أصبح الأمر عادياً، أن تكون جائعاً أمر طبيعي لم يعد يستلزم الكثير من التفكير، ولكن مع تناقص وزن الجسد كلن يتامى داخلي إحساس عميق بالصفاء والنقاء.

اذكر أنني في بواكير المراهقة أخذ إحساسي بالجسد الإنساني عموماً وجسدي خصوصاً يكبر شيئاً فشيئاً، ومن همسات رفاق المدرسة والشارع تعلمت كيف أصل إلى انفجار اللذة الذي يعصف بالجسد كاملاً.

دخلت الحمام في منزلنا وقمت بتطبيق ما تعلمته من رفاقي ، كدت أصاب بالإغماء لذةً وخوفاً ودهشة، ولكن بعد مضي دقائق قليلة تلبسني إحساس بالإثم، إحساس بالتلوث، فقدت طهارتي ونقائي الى الأبد.

منذ ذلك الحين لازمني هذا الإحساس كظلي، إلى أن مررت بسنة الجوع والتي خلالها كنت اشعر أن هذا التلوث.. هذا الدنس قد بدأيزول تدريجياً، وانني اعود الى بساطة وبراءة الطفولة.

" اكثر ما امضني واحرقني هو عدم قدرتي على مشاركة أي انسان بما احسه واشعره، كان شعوري بعودة النقاء فرحاً رافق عذابات الجوع ".

حتى أحلامي تغيرت، أحلام اليقظة والتي كانت قبل سنة الجوع منصبة كلها تقريباً على المرأة،  تغيرت وانصبت بمعظمها خلال هذه السنة على الطعام، الطبخات التي كنت احبها، ابتكرت بعض الطبخات، احلم بوجبة مليئة باللحوم والدسم ... وإذا كنت استطيع معالجة الحاجات التي تخلفها احلام اليقظة الجنسية، فانني لم استطع معالجة الحاجات التي خلفتها أحلام اليقظة الطعامية!.

اصبح الدكتور سمير بطلاً على مستوى السجن كله، ولكنه بتواضع اصيل قال لابو حسين:

-         الفضل كله الك يا أبو حسين.

اليوم اجروا لي فحصاً، فتأكد خلوي من مرض السل.

14 تموز

خلال الفترة الماضية تمت السيطرة على مرض السل بنجاح لابأس به ، الوفيات بسببه توقفت ، يقدر الدكتور سمير ان هناك حوالي الفي شخص يعالجون من هذا المرض ، أصبح هناك طبيب اخر يساعده في جولاته .

الطعام أصبح مشكلة كبيرة ، في الأيام الأولى من وفرة الطعام أخذ السجناء يحاولون تخزين مايمكن تخزينه خوفاً من العودة الى ايام الجوع ، ولكن تدفق الطعام استمر بمعدل يزيد عن حاجة او قدرة الانسان على الاكل بضعفين او ثلاثة اضعاف ، لم يبق فراغ في المهجع الذي هو مكتظ اصلاً الا وخزن فيه السجناء الخبز اليابس ، حتى اصبحت الحركة صعبة داخل المهجع ، ثم استحالت .

" في هذا السجن لايوجد قمامة ، ممنوع منعاً باتاً اخراج أي قمامة من أي مهجع " .

اشتكى السجناء لابو حسين :

-         يا ابو حسين ... لاقي لنا حل ، شوف المساعد بلكي ياخدوا من عندنا بس الخبز اليابس.

ابو حسين طلب من الدكتور سمير ان يتحدث بالموضوع مع المساعد فقال سمير له في نفس اليوم :

-    ياسيدي ... صار في عندنا خبز يابس كتير ... بلكي سيادتك تسمح للسجناء يطالعوه برات المهجع ، لانه زائد عن حاجتنا ... وممكن غيرنا يستفيد منه ... اذا في حولكم اغنام ... هذا ممكن يصير علف جيد للاغنام .

جاء رد المساعد حاسماً :

-    شو دكتور !!... شايفك صرت عم تتمدمد اكتر من اللازم !.. شو شايفنا رعيان غنم !؟ بعدين نظام السجن واضح وصريح : ممنوع يطلع من المهاجع ولا ذرة زبالة . هذا اولاً ، اما ثانياً : انتو يللي طلبتوا نزيد الاكل ... زدناه ، وهلق كل شي موجود في المهجع لازم تاكلوه .

احتدم النقاش في المهجع. المكان ضاق، الخبز اليابس جلب معه قطعاناً جرارة من النمل والصراصير والجرذان.

كان السؤال كيف نسطيع التخلص من كل هذا الخبز ؟... وجاء الحل من عند ابو حسين:

-    ياشباب ... خلونا نختصر، انا برأي ما في غير حل واحد، ننقع هذا الخبز بالماء وعلى دفعات، بعدين نمرسه حتى يصير سائل بعدين نصرفه عن طريق المراحيض.

وقامت قيامة المهجع :

-         هذا حرام ... هذا كفر ... نعمة الله نلقيها بالمرحاض !!.

-         هذا ما بيجوز من الله ... ياما احلى سنة الجوع !!.

-         ايه والله صحيح ... ايه يكون طول سنة الجوع عشر سنين احسن من انه الواحد يكب الخبز بجورة المرحاض !!.

-         يالطيف ... يالطيف وين وصلنا !!.

خلال السنوات الماضية وحتى قبل سنة الجوع كنت ألاحظ الاحترام الكبير الذي يعاملون الخبز فيه، كان واحدهم حريصاً جداً على ألا يوقع اية قطعة خبز على الارض، وإذا صدف وأن رأى قطعة خبز مرمية على الارض فإنه يرفعها باحترام ، ينفضها ثم يقبلها ثم يضعها على جبينه، اما ان يأكلها او يضعها في مكان عال ٍ ، فللخبز عندهم مكانة القداسة ، والآن يتجرأ ابو حسين ويقترح ان يرموا الخبز في المرحاض ، وهاج الناس هياجاً شديداً.

" للحقيقة فان الحل الذي اقترحه ابو حسين كان قد ورد الى ذهني وانا استمع الى نقاشاتهم، وبعد ان رأيت الهياج الذي عم المهجع، قلت الحمد لله اني ممنوع من الكلام، فلو انني كنت الذي قدم هذا الاقتراح لقتلوني حتماً ".

قابل ابو حسين هياجهم بهدوء شديد ، جلس مكانه ، لم يجادل ، لم يتكلم وتركهم يوماً اخر.

كل يوم يعني حوالي ألف رغيف خبز زيادة ، صار الجميع يمشي بين تلال من الخبز ، الوصول الى المغاسل او المرحاض أضحى صعباً جداً ، وأعيد فتح النقاش في اليوم التالي فلم يشارك فيه ابو حسين ، في الوقت الذي كان الجميع ينتظرون رأيه ومساهمته ، ضاق الناس ذرعاً بسكوته فتوجه اليه احدهم بالكلام ، قال :

-         ايه ابو حسين ... شايفك ساكت ، ما الك رأي بالموضوع وانت رئيس المهجع ؟.

-    طبعاً الي رأي ! لكن قبل كل شي لازم احكي شوي مع المشايخ ، ياريت الشيخ فلان ... والشيخ فلان ... يتفضلوا لعندي شوي.

عدد اسماء خمسة مشايخ كانوا في الحقيقة يمثلون الاتجاهات والتحزبات الموجودة في المهجع ، وكنت قد اصبحت أعرفها جيداً من خلال تلصصي الدائم ، كل واحد منهم هو الاكثر علماً واحتراماً في جماعته .

تكلم ابو حسين مطولاً ، بدأ حديثه بسرد مجموعة من ايات القرآن واحاديث النبي محمد ، ثم وصف الواقع والمخاطر ... أنهى حديثه قائلاً :

-    نعم ... كلنا نعرف أن هذا نعمة من عند الله يجب احترامها ، لكن يجب ان لا ننسى ان الانسان اهم ، الانسان مخلوق على صورة الله ولذلك هو اعلى قيمة من أي شيء آخر على وجه البسيطة ، ولقد كرمنا بني آدم ... ثم الم يعلمنا ديننا ان " الضرورات تبيح المحظورات ؟ " .

كان منطقه مفحماً ، ان هذا الرجل ثعلب ، ذو شخصية قيادية هائلة ، سكت قليلاً وعاد يتكلم :

-    واخيراً يا أفاضل ... شو بنحسن نساوي ؟... مثل ما بقول المثل: كعكة بخمسة !! هذي النعمة ، اما نطالعها لبرات المهجع ، وهذا مستحيل ، أو بناكلها كلها ، وهذا كمان مستحيل ، أو إنه نصرفها عن طريق المرحاض ، ولا تنسوا إنه المرحاض هو المنفذ الوحيد النا هون على ه الارض .

سأله احد المشايخ :

-         ايه طيب ... شو المطلوب منا نحن يا ابو حسين ؟.

-         فتوى... انتو مشايخ هذا المهجع ، هلق تجتمعوا وبطالعوا فتوى ، موبس لهذا المهجع ، فتوى لكل المهاجع .

وصدرت فتوى بأغلبية اربعة ضد واحد ، عممت الفتوى على السجن بكامله ، نظم مهجعنا طريقة التخلص من الأكل الزائد ، كل يوم عشرون شخصاً دورياً مهمتهم الوحيدة : نقع الخبز ، مرسه ، تصريفه في المرحاض ، هو وكل المواد الأخرى ، الرز والبرغل والبطاطا والبيض .

حدثت أزمة من نوع أخر ولكنها اخف، أصبح على الشخص أن ينتظر مدة طويلة حتى يأتي دوره في الدخول إلى المرحاض لقضاء الحاجة !.

29 أيلول

عاد يوسف " مجنون القائد " لزيارتي ، لقد تحسن وضعي في المهجع قليلاً منذ شهر تقريباً ، خفت ممانعتهم له عن زيارتي .

استيقظت في الصباح الباكر قبل موعد الاستيقاظ العادي بساعة او ساعتين على أنين رجل يتألم بشدة. انه جاري في الفراش، كان يضع يده على بطنه وهو يتلوى ألماً، يحاول جاهداً أن يكتم أنّات ألمه، نظرت حولي... أنا الوحيد الذي أستيقظ على أنينه ، نظر الي مباشرة ، هي المرة الأولى التي تلتقي فيها أعيننا ، نظرته تحتوي على نداء استغاثة لرجل يتألم بشدة ، رغبتي بمساعدته شديدة ، ولكن كيف ؟!... تلفتُّ حولي حائراً، ورغم انه كان قد ترك مسافة أكثر من خمسة وعشرين سنتمتراً بين فراشي وفراشه إلا انه كان قريباً جداً، هممت أن أسأله عما به وماذا يريد، لكن لم أعرف كيف افعل ذلك !، وبنفس الوقت أشاح بوجهه الي الطرف الأخر ، دقائق كانت طويلة ... استيقظ العديد من السجناء ، اقتربوا منه ، طلب منهم أن يأتوه بطبيب ، حضر أحد الأطباء استفسر منه وسأله وهو يفحصه عما به:

-         مغص ... مغص شديد يادكتور ... مصاريني عم تتقطع، ألم ما بينطاق ... راح موت يا دكتور!!.

خلال ساعة اجتمع ثلاثة من الاطباء عند ابو حسين رئيس المهجع :

-    التهاب حاد بالزائدة الدودية، لا نعرف الزمن الذي يمكن أن تنفجر فيه، إذا لم يتم إسعافه سريعاً واجراء عملية جراحية لاستئصال الزائدة فهي حتماً ستنفجر وسيموت المريض.

نظر ابو حسين الى الأطباء، التفت الى المريض ... تساءل وكأنه يحادث نفسه :

-    ايه ... والحل ؟ ... لازم نلاقي حل ... أظن ما في غير حل واحد ... منشان شيل خطيته من رقبتي! ... ندق الباب ونطلب طبيب السجن، هذا كل شيء اقدر اساويه ... بس ياهل ترى رح يردوا علينا ؟... ولك خلينا ندق الباب ويللي بدو يصير يصير !!... هي موتة وحدة !... وأكتر من القرد ما مسخ الله !... شو رأيكم بهالحكي؟.

-         متل ما بدك يا ابو حسين.

دق ابو حسين الباب، الشرطة والبلديات في الساحة يوزعون طعام الافطار، جاء صوت الرقيب " ابو شحاطة ":

-         مين ه الكلب يللي عم يدق الباب ؟.

أخبره أبو حسين برقم المهجع، وان الدكتور سمير يريد طبيب السجن لأمر هام.

فوجئ الدكتور سمير بذلك لكنه وقف إلى جانب ابو حسين بانتظار طبيب السجن، قال أبو حسين لسمير:

-         والله يا دكتور ... كيف طلع اسمك معي مابعرف !!... يجوز إلهام من الله، وانت صاروا يعرفوك ويجوز يسمعوا منك.

كان مرض السل في اواخره ولا زال الدكتور سمير يتابع علاج عشرات الحالات التي أسماها مستعصية، ولذلك فهو على احتكاك دائم مع الشرطة.

استغرق مجئ الطبيب اكثر من ساعة لأن الوقت لازال مبكراً، جاري يعتصر من الألم ويحاول كبح أنّاته، فتح الباب وظهر أمامه الطبيب والمساعد وبعض الشرطة، سأل الطبيب الدكتور سمير عن سبب استدعائه، شرح له سمير الأمر، لكن طبيب السجن لم يتكلم ابداً، أدار ظهره ومشى، المساعد رمق سمير بنظرة طويلة وقال:

-    مشان زائدة دودية عملتوا كل ه الضجة ؟!... صحيح ه الكلب معه زائدة بس انت معك ناقصة، وأنا من زمان حاسس إنك ما تنعطى وجه ... طلاع لبره.

 خرج الدكتور سمير الى خارج المهجع ، وخاطب المساعد أبو حسين:

-         مين دق الباب ... ولا خرى؟

-         انا يا سيدي دقيت الباب.

-         طلاع لبره كمان يا كلب ... يا ابن الكلاب.

خرج ابو حسين ايضاً واغلق الباب، نصف ساعة كنا نسمع صراخهما، ومع مجئ الهليوكوبتر  توقف الضرب وادخلوهما المهجع.

-         مشان الله يادكتور لا تواخذني !... انا سببتلك ه العقوبة، انا يللي ورطتك.

ضحك الدكتور سمير وهو يحجل في مشيته، ربت على كتف ابو حسين:

-    بسيطة ابو حسين بسيطة ... هنن كم كرباج !... راح سجلن دين عليك واستوفيهن انشاء الله بره ... يعني قدام ام حسين، المهم هلق شو بدنا نساوي بالمريض؟.

طرح هذا السؤال على مستوى المهجع  كله، كثرت الاقتراحات، كثرت التعليقات والتساؤلات:

-         العمى ... بدي افهم !... ليش عالجونا من السل، وما بعالجونا من الزائدة الدودية؟.

-    يا اخي ... لازم نفهمها منيح ... الزائدة شخص واحد، يعني فراطة، اذا مات ما بتفرق معهم، أما السل جماعي ، يعني جملة، اذا ماتوا كل الناس هون هذا مو من مصلحة ه الحكومة بنت الكلب لانه نحن مثل الرهائن عندها، تضغط على الناس يللي بره بهالرهائن.

-    لم يدم النقاش والحوار اكثر من عشردقائق، تقدم خلالها طبيب كهل اشيب الشعر وسيم القسمات، عيناه صغيرتان براقتان، جلس على فراش ابو حسين، قال:

-    تعرف يا ابو حسين اني طبيب جرّاح، انا بحسن هلق ساوي عملية جراحية للمريض بستأصل الزائدة فيها، لكن يلزمني بعض الاشياء، وكمان لازم المريض يقول قدام الناس كلها إن العملية على مسؤوليته هو.

دون أن يجيب ابو حسين أمسك يد الطبيب وسحبه إلى عند المريض، انتقلا من يساري الى يميني، جلسا الى جانبه، قال أبو حسين للطبيب:

-         احكي له، شو بدك منه.

-    شوف يا اخي، راح كون صريح معك، انت معك التهاب حاد بالزائدة الدودية، وخلال فترة بسيطة اذا ما ساوينا عملية جراحية راح تنفجر وتموت، في عندنا فرصة نساويلك عملية جراحية، لكن بهذي الظروف خلينا نقول إنه نسبة النجاح أقل من خمسين بالمية، وهلق انت بدك تختار قدام الناس كلها بين الموت المؤكد، وبين الموت المحتمل.

واختار المريض الموت المحتمل، نفى امام الناس كل مسؤولية عن الطبيب.

ابلغ الطبيب ابو حسين بمستلزمات العملية:

-    يوجد قماش نظيف، يوجد كحول، يوجد ملح، يوجد بعض حبوب المضاد الحيوي التي استطاع الدكتور سمير أن يغافل الشرطة عنها، يوجد ابر خياطة، يوجد خيطان، يوجد نار، لكن ما نحتاجه هو بعض الاشياء المعدنية لنحولها الى مشارط !!.

مع ظهور كل هذه الاشياء تبين أنني كنت غافلاً وأن تلصصي لم ير إلا ما يظهر على السطح.

التلييس الداخلي للمهجع كان ذا اسمنت خشن والجميع يدرمون اظافرهم بهذا الاسمنت – لا مقصات أظافر في السجن – الاسمنت يستخدم كمبرد، وعلى هذا الاسمنت تم صنع وابتكار العديد من الأشياء، فمن قطع عظم صغيرة تم صنع إبر الخياطة، يمسك احدهم العظم ويبدأ بحكه على الجدار ... يوم ... يومين.. ايام، إلى أن يأخذ شكل الابرة، وبواسطة مسمار يكون قد تم برده ايضاً على الحائط، يقوم الشخص وبصبر عجائبي بفتح ثقب الابرة ، " المسمار هنا يعتبر ثروة ، وتبين ان هناك عشرات المسامير في المهجع " ، الخيطان امرها سهل ، ينسلون قطعة قماش ، بصبر وهدوء يغزلون الخيطان الرفيعة من جديد وحسب الطلب .

وقتها انتبهت إلى ان معظم الثياب التي يلبسونها قد اهترأت ، " كيف لم يخطر على بالي أن اتساءل عن الوسيلة التي يرقعون بها ثيابهم ؟!" ، علماً أن بنطالي كان قد اهترأ عند الركبتين والورك وأضحى بأمس الحاجة الى ترقيع .

الكحول : بعض الاطباء – او بالاتفاق بينهم جميعاً – قاموا بتخمير المربى في بعض المرطبانات البلاستكية " كيف حصلوا عليها ؟؟!" وتحول السائل الى كحول ، قد تكون نسبته قليلة لكنه كحول .

عمم ابو حسين الامر على المهجع :

-         كل من لديه قطعة معدنية مهما كان نوعها او شكلها ليأت بها .

وظهرت المعادن ، مسامير ، قطعة نقدية من فئة الليرة عليها صورة رئيس الدولة ، اربع علب سردين فارغة ! اسلاك معدنية، خاتم ذهبي " خاتم زواج " .

مددت يدي الى جيب سترتي الداخلي ، تحسست الساعة ، أمسكت بها، يجب ان اعطيها لهم ... ولكن لمن؟... هل سيقبلونها ؟ ... أم انهم سيقذفون بها على وجهي باعتبارها نجسة من شخص نجس ؟ ! ساعتي مفيدة جداً لهذا الامر ، ف " الكستك " المعدني مؤلف من قطع معدنية رقيقة يسهل تحويلها الى أدوات حادة ، وكذلك غطاؤها الخلفي ، وحتى زجاجها اذا لزم الامر، وطال ترددي دقائق طويلة ، عدة اشخاص كانوا قد انتشروا وبيد كل منهم قطعة معدنية ما يبردها حسب توجيهات الطبيب ، تم فرش بطانية امام المغاسل حيث لا يستطيع الحارس على السطح ان يرى شيئاً ، واستلقى المريض وهو يتأوه على هذه البطانية ، الطبيب الجراح يتناقش مع مجموعة من الاطباء وسط المهجع .

حزمت امري ، سأغافلهم واضع الساعة في مكان يستطيعون فيه ان يجدوها بسهولة ، ولكن الن يسألوا عن صاحب هذه الساعة ؟ ، هل أستطيع أن اجيبهم بأنها لي ؟ ... لا أعتقد .

لو ان يوسف " مجنون القائد " يزورني في هذه اللحظة لأعطيتها له .

ليكن ما يكون ، وقفت ومشيت باتجاه الطبيب الجراح ، دون اية كلمة مددت يدي بالساعة اليه .

بوغت الجميع ، سكتوا ، نظر الجراح في عيني مباشرة ، عيناه عسليتان دافئتان دهشتان قليلاً ، وببطء مد يده وتناول الساعة مني ، قال :

-         شكراً .

ثم التفت الى الاطباء وهو يقلب الساعة ، قال :

-         هلق صار فينا نبدأ ، ه الساعة راح تساعدنا كثير .

عدت الى مكاني وجلست، قليلٌ من النشوة، قليلٌ من الرضى ، استرجع وقع كلمة " شكراً " بعد كل هذه السنوات " احدهم " يشكرني ، يخاطبني مباشرة وهو ينظر في عيني مباشرة ، لا يشيح بنظره قرفاً واشمئزازاً وحقداً .

وزع الطبيب قطع الساعة و " الكستك " على بعض السجناء الذين انهمكوا في عملية البرد والشحذ ، فجأة قرقع المفتاح في الباب ، أذيعت اسماء تسعة اشخاص من مهجعنا ، ثلاثة اعدام وستة محاكمة ، توقفت التحضيرات لإجراء العملية اكثر من ساعة ، توضأ خلالها المحكمون بالاعدام ، صلوا ، ودعوا الناس ، خلعوا الثياب الجيدة وارتدوا ثياباً بالية ، فتح الباب ... خرجوا .

-         اللهم احسن ختامنا ، عليهم رحمة الله ، خلونا نتابع الشغل يا شباب لأنه المريض ما عاد ممكن يتحمل اكثر من هيك .

توجه الطبيب الجراح بهذه الكلمات الى بعض الاطباء والى الشباب الذين كانوا يقومون بالاستعدادات ، انتهى تجهيز المشارط ، توجه الطبيب ومعه بعض الشباب الى حيث يستلقي المريض متألماً امام المغاسل .

تملكني الفضول ، اريد ان ارى اجراء العملية الجراحية ، وقلت ان من حقي ان ارى ، تمشيت متمهلاً الى الداخل ، دخلت الى المرحاض ، حوالي عشرة اشخاص منهمكون بالتحضير ، خرجت من المرحاض وانزويت جانباً ، لم ينتبه إليّ احد ، اخذت أراقب .

كيس بلاستيكي مملوء بالدهن ، يبدو أنهم كانوا يجمعون الدهن المتجمد على سطح الطعام ، ينقونه من الشوائب ويضعونه في الكيس ، ملأوا احدى علب السردين بالدهن وغرزوا فيه قطعة قماش بعد ان فتلوها جيداً ، اخرج احدهم علبة كبريت واشعل الفتيل ، " من اين الكبريت ؟!" ، اشتعلت النار مدخنة ، وضعوا فوق النار علبة سردين اخرى مملوءة بالماء وبه " المشارط " ، كانوا ينفخون على الدخان المتصاعد من الدهن ويحاولون توزيعه قدر الامكان كي لا يصعد الى السطح ويشمه الحارس ، بعد قليل غلت المياه فتعقمت ادوات الجراحة .

في هذه الاثناء كان الطبيب قد غسل بطن المريض بالماء والصابون ، ثم احضر ملحاً رطباً فرك به نفس المكان ، غسل يديه جيداً واصر على اراتداء الكمامة قبل اجراء العملية ، تغيرت نبرة صوته وبدأ باصدار الاوامر :

-         ما في عنا مخدر ... لذلك بدك تتحمل الالم ولا تتحرك ابداً .

-         تعالوا انتو الاربعة ، امسكوه بقوة ، كل واحد من طرف .

اخرج الطبيب المشارط من علبة السردين وبدأ بتجريبها واحداً بعد الاخر ، اختار المشرط المصنوع من غطاء ساعتي ، جربه على اظفر ابهامه ، قال :

-         يالله يا اخي ، توكلنا على الله ، يا شباب ثبتوه منيح ولا تخلوه يتحرك ابداً .

وضع المشرط على بطن المريض " بسم الله الرحمن الرحيم "، وحز جرحاً بطول عشرة سنتيمترات تقريباً.

-         آخ يا امي .

صاح المريض ولكنه لم يتحرك .

انتهت العملية ، كان الطبيب يعمل بسرعة فائقة ، وبعد خياطة الجرح مسحه ونظفه ، فتح عدة حبات من المضاد الحيوي وافرغ المسحوق فوق الجرح ، ثم قطعة قماش نظيفة وربطه جيداً .

-         انشاء الله معافى يا اخي ، يا شباب احملوه على فرشته .

عدت الى فراشي فوجدت بنطال بيجاما وقطعتي قماش فوقهما ابرة عظمية وخيطان ، امسكت بهذه الاشياء نظرت حولي ولكن لم يكن هناك احد يلحظني ، من وضع هذه الاغراض ؟ البنطال عرفته كان لاحد الذين أعدموا اليوم ، لكن من وضعه على فراشي ؟ .

بعد قليل أدركت الامر ، لقد اعطوني هذه الاشياء ، هل هي مكافأة ؟ هل يعني هذا انني لم اعد جاسوساً كافراً ؟! التفت الى ابو حسين ، رفعت الاشياء بيدي أمام وجهه وقبل ان أنطق بحرف قال بحدة شعرت انها مفتعلة :

-         الك ... هدول الك ... ماداموا على فرشتك يعني الك .

من يومها احسست ان وضعي قد تحسن قليلاً ، رقعت بنطالي من الخلف ومن الأمام ، أصبحت البس بنطال البيجاما عندما اغسل بنطالي ، اصبح يوسف "مجنون القائد" يزورني مجدداً دون ممانعات .

الآن وبعد مرور شهر على اجراء العملية فان الرجل تعافى وأصبح يمشي بشكل طبيعي .

" لكنه سيعدم بعد حوالي السنة شنقاً ".

1 كانون الثاني

البارحة كان عيد رأس السنة ، اغلب الناس خارج هذا المكان يحتفلون بهذه المناسبة حتى الصباح ، أما هنا فأعتقد أني الوحيد الذي يعني له هذا اليوم شيئاً. منذ بداية المساء نام الجميع ، البرد جارح ، لبست بنطال البيجاما وفوقه بنطالي والسترة ، تغطيت بالبطانيات لكن لا جدوى ، قداماي مثلجتان ، انفي ... اذني ... لففت نفسي جيداً وغطيت رأسي، هذا البرد الصحراوي اللعين ... برد كنصل الشفرة .

حاولت الهرب منه الى أحلامي ، رتبت سهرة لرأس سنة ما ، تعبت قليلاً في اختيار المكان           والأشخاص ، انا نجم السهرة بلا منازع ، المائدة مليئة بالأطعمة والأشربة ، الموسيقا ، الرقص ... جو المرح والنكات، الثلج يتساقط في الخارج، أقف خلف زجاج النافذة، أرقب اشجار الصنوبروقد تكللت باللون الأبيض، الدفء داخل المنزل يحيطني ... أحس بالترف، وبنفس الوقت بالتعب، سريروثيروأغطية ناعمة اللمس !!.

مستحيل ... غير ممكن في ظل هذا البرد ان تحلم بالدفء!. أزحت الغطاء قليلاً، حككت يدي ببعضهما، نفخت عليهما، فركت قدمي بقوة علّ الدماء تسري فيهما ! .

عند منتصف الليل سمعت اصواتاً في الساحة أمام مهجعنا ، تغطيت بالبطانية ونظرت من الثقب ، الساحة مضاءة كالعادة ، كل ساحات واسطح ومهاجع وسور السجن تبقى مضاءة ليلاً نهاراً ، هناك في الساحة جمهرة كبيرة من الشرطة يصدرون ضجة كبيرة ، ضحك .. صياح .. شتائم .. امعنت النظر جيداً ، المساعد في وسط الساحة تحيط به مجموعة من الرقباء .

احسست بحركة داخل المهجع ، نظرت من تحت البطانية كان الجميع قد استيقظ ، البعض يبسمل ويحوقل ، البعض يردد عبارات مثل : يالطيف .. ياستار .. اللهم مرر هذه الليلة على خير !!.

عدت للنظر الى الساحة، كان المساعد وشلته قد اقتربوا قليلاً من مهجعنا الذي يعتبر من أكبر المهاجع في هذه الساحة ، طلب من الشرطة فتح الباب وإخراج السجناء الى الساحة. وخرجنا .

خرجنا حفاة عراة ، حتى السروال الداخلي أمرونا ان نخلعه ، صفونا أرتالاً وأمروا أن يبتعد الواحد عن الاخر خطوتين .. وأن لا نستغل عرينا لنلوط بعضنا !.

" وردت رسالة قبل بضعة ايام عن طريق المورس من الساحة الثانية تقول إن الرقيب ( يا منيك ) قد اجبر سجيناً ان يلوط أخاه !!".

[ لماذا تركز الشرطة على هذه المسألة كثيراً ؟!] .

الشرطة والرقباء والمساعد جميعاً يرتدون المعاطف العسكرية وقد لفوا رؤوسهم باللفحات الصوفية ، المساعد يتمشى جيئةً وذهاباً أمام الصف ، الشرطة يضبطون الاصطفاف : وقف باستعداد ولا ... نزل راسك ..

الريح شمالية خفيفة ولكنها قارسة ، اعتقد ان درجة الحرارة تحت الصفر ببضع درجات .

بللونا بالمياه من الرأس وحتى اخمص القدمين ، امرونا الا نتحرك ، عناصر الشرطة يمشون حولنا وخلال صفوفنا وبايدهم الكرابيج والعصي .

بدأ المساعد خطبة طويلة ، وقفته والكثير من عباراته وجمله وحركاته هي تقليد وتكرار لحركات واقوال مدير السجن ، ثلاثة ارباع الخطبة شتائم مقذعة ، وقد بدأها بتحميل السجناء مسؤولية بقائه بالسجن بينما العالم كله يحتفل ، ولولا اننا موجودون هنا حالياً لكان هو ايضاً يحتفل ، الضباط ذهبوا ليحتفلوا وتركوا كل المسؤولية على عاتقه. " رجل ذو اهمية تاريخية !" .

انهى خطبته وغادر الساحة وقد شد صدره الى الخلف ، دون أن يعطي اية تعليمات بشأننا .

صوت اصطكاك الاسنان مسموع بشكل واضح الجميع يرتجف برداً ، انا بالكاد أتماسك لأبقى واقفاً .

أظن أن هناك سؤالاً طاف بأذهان الجميع .

-         ما نهاية كل هذا ؟... ماذا سيفعلون بنا ؟... هل هي مقدمة لمجزرة جديدة ؟... هل سنعود ثانية الى مهجع"نا" ؟!.

لا كلمة ، لا صراخ ، لا شتيمة ، صمت مطبق لا يخدشه الا صوت خطوات الشرطة وهي تتمشى حولنا ، حتى ايديهم التي يحملون بها الكرابيج والعصي دسوها في جيوبهم وبرزت العصي وتدلت الكرابيج من هذه الجيوب .

الجسد ... الخدر يزداد وينتشر ، الالم يتعمم ويتعمق ، الاسنان تصطك ، من اللسان وحتى المستقيم ارتجاف واحد ، الانف ، الاذنان ، الكفان ، القدمان ، كل هذا ليس من الجسد. تتساقط الدموع برداً وبكاءً فتتجمد على الخدين وزوايا الفم المرتجف ، والسؤال : متى سأسقط ارضاً ؟.

يسقط أحدهم قبلي ، يوقف جميع عناصر الشرطة عن الحركة لدى سقوطه ، تخرج الايدي من الجيوب ، وينطلق بضعة عناصر ، يجرون السجين الذي سقط الى امام الصف حيث يتجمع الرقباء ، يقول احد الرقباء:

-         يالله ... دفّوه .

تنهال الكرابيج على جميع أنحاء جسده المتخشب ، يحاول الوقوف ولكن وقع الكرابيج يمنعه ، يسقط آخر ... يجر الى حيث التدفئة ، وآخر ... وآخر.

أجالد نفسي خوفاً من السقوط ، يحدث انفصال تام بين العقل والجسد ، عقلي صافٍ تماماً وواعٍ كل ما يجري حولي ، أما جسدي فينفصل عني شيئاً فشيئاً خدراً وتجمداً ، تختلط الدموع مع المخاط السائل من الأنف واجد صعوبة بالتنفس ، لا أجرؤ على رفع يدي إلى أنفي ... حتى لو استجابت يدي !.

وسقطت ... سقطت دون ان افقد الوعي وجروني الى امام الصف .

لقد جربت وعاينت الكثير من صنوف الالم الجسدي ... لكن أن تساط في البرد وأنت مبلل ... أمر لا يمكن وصفه .

مع بزوغ ضوء الفجر وسقوط آخر شخص وتدفئته من قبل الشرطة انتهت الحفلة. دخلنا المهجع ركضاً على ايقاع الكرابيج ، ركضنا بخفة ورشاقة وكنت أظن أنني لن استطيع النهوض عن الارض ، لكن ما أن سمعت الأمر بالدخول ورأيت الكرابيج تهوي حتى قفزت ، " لطالما تساءلت بيني وبين نفسي عن منبع هذه القوة !... المقاومة ؟".

هذه المرة رأيت فرحاً حقيقياً على وجوه الناس بخلاصهم من مجهول كانوا يخشون وقوعه في دواخلهم كثيراً ، وخلف هذا الفرح تراكمت طبقة جديدة من حقد اسود تزداد سماكتها بازدياد الالم والذل .

5 حزيران 

قيل قديماً إن الله خلق للانسان فماًً واحداً وأذنين اثنين حتى يسمع أكثر مما يتكلم ، أما أنا فقد كنت طوال هذه السنوات بلا فم وبعشرات الآذان .

كلام ... كلام ... كلام ... بيادر وأهرامات مكدسة من الكلام ، انقل إذناً الى زاوية المهجع البعيدة لأسمع بم يتحدثون ، الاذن الاخرى انقلها الى حائط المورس ، ماذا يرد رسائل من المهاجع ، لا أحرك عيني ، فقط اذني ، الأذن الثالثة تنتقل الى حيث حلقة حفظ القرآن ، " لقد حفظت الكثير جداً من القرآن !"، والأذن الرابعة ... الخامسة .

فمي مقفل ، أحن الى الكلام ، أشتاق الى ان أسمع صوتي أنا ، حتى عندما يجلس يوسف عندي لا أتكلم ، لأنه ببساطة لا يتيح لي المجال حتى اسأله شيئاً ، ما ان يجلس حتى يبدأ الكلام ، احياناً تكون الجمل مترابطة ، احياناً مجرد تخاريف ، لكن لا فواصل ولا توقفات ، وعلى الاغلب ينهض مغادراً وهو يتابع الحديث .

كلام ... كلام ... كلام ... الجميع يتكلم والجميع يسمع ، ولأن الكلام دائماً يكون همساً اأو بصوت خافت فإن مجموع هذه الهمسات يتحول الى شيئٍ لا هو بالأزيز ولا هو بالطنين ، لا بالفحيح ولا بالهسيس ... هو شيء من كل هذا ، يدخل الاذنين ومنه الى الرأس الذي يتحول آخر اليوم الى ما يشبه الطاسة الفارغة ، شيء ما كالطبل ، أنقر على رأسي بأصابعي فأسمع الرنين ، حتى بعد ان ينام الجميع وتسكت الاصوات كلها تبقى هذه الضجة المكتومة تحوم داخل الاذن وتقرع جدران الرأس.

احلم احد احلامي الصغيرة ، وقد صغرت كل احلامي :

-    أحلم ... أن اعيش ولو ليوم واحد فقط في زنزانة انفرادية ، في صمت مطبق ، لا ضجيج ، لا نظرات عداء ، لا نظرات احتقار ، وأنام خلاله نوماً عميقاً .

-         احلم ... أن أستحم ولو لمرة واحدة فقط في حمام السوق ، محاطاً بالبخار والمياه الساخنة المتدفقة ، والمكيس والمدلك .

-         أحلم ... أن اقف على الرصيف امام محل للفلافل ، آكل سندويشة واشرب العيران .

-         احلم ... أن اسير في شارع هادىء ظليل ، سيرَ شخصٍ عاطل متبطل ٍ ، لا يقصد مكاناً محدداً ، وغير محدد بزمن معين .

-         احلم ... بأمي وهي توقظني صباحاً ، وأنا ارفض دلالاً أن استيقظ مغطياً رأسي باللحاف .

-         احلم ... بشخص ... أي شخص ، يقول لي صباح الخير .

كلام ... كلام... كلام... ، منذ عشرة ايام كل الكلام يدور حول موضوع واحد هو الزيارة !.

منذ عشرة ايام قرب اثنان من السجناء في المهجع  رأسيهما من الجدارالذي ترد منه الرسائل عادة ، يسمعان النقرات ويبلغانها لأربعة اشخاص خلفهما :

-         فاء – ياء " في " ، ا- ل – م – ه – ج – ع " المهجع " ، وهكذا الى ان اكتملت الرسالة – البرقية - :

" في المهجع  الواحد والعشرين أحد الاخوة أتته زيارة ، وقد حضر كل اهله !" .

في البداية كان الذهول سيد الموقف ، بعد ان أذيعت الرسالة على الجميع ساد الصمت ، البعض ينظر الى البعض ، اعقبتها نظرات ساهمة ، تذكر الجميع ماكانوا قد نسوه لمعظم الوقت ، او أُجبروا على نسيانه ، قاموس حياتهم اصبح يحتوي على عشرات المفردات فقط ، تبدأ بالمرحاض والحنفية والطهارة والنجاسة ، وتنتهي عند الكرباج والاسماء المحلية للشرطة ، اما الصلاة والقرآن، على ما فيهما من غنىً لغوي ، فيصبح تردادهما آلياً لا يستدعي اشغال الفكر .

تذكر الجميع أن هناك حياةً اخرى خارج هذا المكان ، وخارج هذا القاموس اللغوي الضئيل ، وانها هي الاصل ، وما هم فيه طارىء عابر .

يذهب الخيال الى حيث الأهل والاحبة ، تحضر المرأة بقوة مهيمنة ، المرأة الزوجة ، المرأة الام ... الاخت ... الابنة ، ويسود وجوم رمادي حامض ، تثور التساؤلات الممضة والحارقة عن المصائر ؟!.

الزمن في السجن زمنان ، يستتبعهما احساسان متناقضان ، الزمن الراهن ... ثقيل بطيء ، والزمن  الماضي ، ما مضى من ايام وشهور وسنين السجن ... زمن خفيف سريع ، تنتبه فجأة وتسأل نفسك :

-    ماذا ؟ ! ... اصبح لي في السجن خمس سنوات ، سبع ، عشر ؟! الحقيقة لم اشعر بهذا الزمن ، ياالهي كيف مضت هذه السنون بسرعة البرق !!.

تفكر ، وتعرف ان هذا الاحساس ناتج عن انه في زحمة التفاصيل اليومية قلما يتاح لك الوقت لتعد الايام والسنوات ، وهذا كالجلد بالكرباج ، اذا بدأت عد الضربات حتماً سوف تضعف ، وكذلك اذا بدأت عد الايام وتسجيلها خطاً وراء خط على الحائط ، حتماً سوف تضعف ، او ... تجن !.

كسر ابو حسين الصمت بعد دقائق قليلة ، نادى احد جماعة المورس وطلب منه الاتصال مع المهجع الواحد والعشرين والاستفسار عن الزيارة ، كيف اتت ، هل فتحت الزيارات للجميع ، ام هي بالواسطة ، ام الرشوة ... كيف تعامل الشرطة مع الامر ، هل احضر الاهل اغراضاً ... الخ؟ .

وجاء الجواب ، لا يعرفون شيئاً عن آلية الزيارة ، هناك الكثير من الاغراض ، البسة واطعمة ونقود ، السجين ذهب الى الزيارة وعاد دون ان يضربه احد .

بعد ثلاثة ايام ألقى مدير السجن خطاباً ، تحدث فيه عن انسانيته ورحمته وان قلبه ينفطر ألماً عندما يرى ابناء وطنه في هذه الحالة !! وقال :

-    كل من تأتيه زيارة منكم عليه ان يطلب من أهله إخبار كل من يعرفون من اهالي السجناء الاخرين لكي يسعوا الى زيارته وبنفس الطريقة .

لكن ماهي الطريقة ؟... لم يعرف احد ، ولم يجرؤ على السؤال احد ، وكانت المرة الاولى التي يخاطبنا فيها وعيوننا مفتوحة ورؤوسنا ليست منكسة الى الاسفل .

اليوم اتت زيارة لشخص من مهجعنا ، ابو عبدالله ، نادوه باسمه الثلاثي ، وهنا قلما يعرف الاسم الثلاثي لشخص ما ، فالكل ينادون بعضهم ب " ابو " ، ابو حسين ، ابو عبدالله ، ابو علي ، ابو احمد ...

طلب الشرطة من ابو عبدالله ان يلبس ثياباً جيدة ، وتبارى الجميع لإلباس ابو عبدالله افضل ثياب في المهجع ، ذهب ابو عبدالله وعاد بعد اكثر من نصف ساعة ، عاد لاهثاً مخضوضاً يتصبب عرقاً ، وقف بمنتصف المهجع  يتلفت وينظر الى الجميع ، ولكن يبدو كمن لا يرى احداً ، باب المهجع  لايزال مفتوحاً والبلديات يدخلون الاغراض بجاطات بلاستيك ، بعد ان اغلق الشرطة الباب قال شخص لاخر :

-         ماشاء الله ... ما شاء الله ، خمسة وثمانون جاطاً !!.

ابو عبدالله يتلقى التهاني من الجميع وهو لازال واقفاً كالمأخوذ :

-         مبروك ابو عبدالله ... مبروك الزيارة .

-         الله يبارك فيكم ... عقبال عندكم .

-         مبروك ابو عبدالله ... كيف الاهل ؟.

-         الحمدلله بخير ... يسلمون على الجميع .

قطع ابو عبدالله سلسلة " المبروك " والتفت فجأة الى ابو حسين ، قال :

-         كيلو ذهب ... كيلو ذهب ياابو حسين !! ... الله وكيلك كيلو ذهب .

فوجئ ابو حسين ، نظر الى ابو عبدالله بتمعن ، وزن الامور قليلاً ، ثم سأل :

-         خير ابو عبدالله ... خير ، شو قصة ه الكيلو ذهب ؟.

-         الزيارة يا ابو حسين الزيارة ... كل زيارة بكيلو ذهب .

فارتفعت عدة اصوات متسائلة الى جانب صوت ابو حسين :

-         شو !!... كيلو ذهب كل زيارة ؟

-    نعم كيلو ذهب ، سألت اهلي قالوا لي ، لازم امك تروح لعند ام مدير السجن تأخذ معها كيلو ذهب ، وام مدير السجن تعطي ورقة زيارة !!.

اراد ابو حسين ان يهون على ابو عبدالله :

-    ولو ابو عبدالله ... كيلو ذهب فداك ... المهم انو شفت اهلك وشافوك وتطمنوا عليك ، ايه ه الشغلة بتساوي اموال الدنيا كلها ، الله يلعن الذهب وابو الذهب... المال وسخ ايدين بروح وبيجي ، المهم انت وصحتك واهلك ، الذهب مو مهم المهم البني ادم اللي بجيب الذهب .

-         ايه والله صحيح ... ايه والله صحيح ياابو حسين !.

يومها انا دخت ... سكرت ... حتى ان عيني قد غامتا ... تشوشتا ...!.

البلديات كانوا ينقلون الجاطات حتى باب المهجع ، يخرج الفدائيون ويأخذون الجاطات منهم ... دون أي ضرب !... يفرغونها داخل المهجع  ويسلمونها للبلديات ... الكثير من الالبسة ، خاصة الملابس الداخلية الصيفية والشتوية ، كأن هناك من أسرّ بأذان الاهل عن حاجاتنا ، والكثير ... الكثير من الخضار والفواكه التي يمكن ان تؤكل نيئة .  

 ما اسكرني ... كان الخيار ... الخيار بلونه الاخضر ، انسابت روائحه وعطوره الى انفي ، ثلاثة جاطات من الخيار أفرغوها وسط المهجع غير بعيد عني مشكلة تلاً صغيراً اخضرَ ، الى جانبه تل صغير احمر من البندورة ، رائحة الخيار ملأت المهجع ، الجميع كان فرحاً ، ابو عبدالله كان مذهولاً من اثر الزيارة ، ودون ان افكر او اعي بما اقوم به مشيت وجلست الى جانب تل الخيار الاخضر ، انحنيت وشممت بعمق ، انها رائحة الطبيعة ... انها رائحة الحياة ، اخضراره هو اخضرار الحياة ذاتها ، امسكت واحدة وادنيتها من انفي وتنشقتها بعمق ، اغمضت عيوني واعتقد ان ملامحي كلها كانت تبتسم .

كان كل هذا اشبه بزلزال ، ارتج كيانه كله ، فتحت عيني واذ بغابة من العيون تحدق بي ... لم اعبأ ، القيت الخيارة على كومة الخيار ، مشيت الى فراشي ، تمددت ، غطيت رأسي ... وبكيت بصمت .

بقيت عدة ساعات تحت البطانية ، لا اريد ان ارى احداً ، لا اريد ان ارى شيئاً ، البكاء اراحني قليلاً ... ولم البث طويلاً حتى نمت ، استيقظت عصراً رفعت البطانية وجلست ، كان امام فراشي مجموعة متنوعة من الاغراض ... " نصف خيارة ، نصف حبة بندورة ، رغيف خبز مدني ، قطعة بقلاوة فاخرة ، بعض انصاف حبات الفاكهة ، ولكن الاهم كان الالبسة ... بيجاما رياضية ، غيار داخلي شتوي من الصوف ، غيار داخلي صيفي ، جوارب صوفية ... ثم شحاطة !".

طوال كل هذه السنوات ومنذ ان اخذوا حذائي بمركز المخابرات لم انتعل بقدمي شيئاً ، وقد تشكلت على كامل قدمي من الاسفل طبقة سميكة من اللحم الميت المتقرن المتشقق ... والان ها هي شحاطة !.

نظرت حولي ، واضح ان حصتي مساوية لحصة أي سجين اخر منهم ، لااكثر ولا اقل .

( هم جميعاً يكرهونني ، هم جميعاً يحتقرونني ، بعضهم يريد قتلي ... كل هذا صحيح ، ولكن في الامور الحياتية ... كانوا عادلين معي ) .

اخذت الاغراض ، رتبتها كوسادة ... اكلت ، ولكن لم اشأ ان اكل نصف الخيارة .

6 حزيران 

البارحة كان يوماً حافلاً ، لم استطع النوم الا في ساعة متأخرة واستيقظت كالعادة صباحاً ، فاجأني وجود قطعتين من الخيار " نصفين " الى جانب النصف الخاص بي ، ثلاثة انصاف ... واستنجت ان هناك شخصين قد تنازلا عن حصتهما من الخيار لي !!... ظنا انني احب الخيار !... لم يعرفا ان الخيار برائحته ... لونه ... قد استحضر الحياة بكل ثقلها الى نفس كانت قد نسيت الحياة !.

اثنان من "هم" يتعاطفان معي ! ... ولكن لا يجرؤان على اظهار هذا التعاطف !.

داخلي قليل من الراحة والاطمئنان ، نظرت حولي ، هل أستطيع تمييزهما ؟ .

كل الوجوه مغلقة ، كل العيون كابية .

يتبع