في عَصْرِ الثَّوْرَة يَومُ الهِجْرةِ

د. محمد بسام يوسف

في إحدى صفحات الصراع بين الحق والباطل، استدار رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو راكب راحلَتَه- باتجاه وطنه مكة المكرّمة، بُعَيْدَ انطلاقه مهاجراً إلى المدينة المنوّرة، ناظراً إلى الأفق البعيد، مودِّعاً أغلى وطنٍ وأحبَّه إلى نفسه، قائلاً بمرارة المهاجر المتألم الحزين: [والله إنكِ لَخَير أرضِ الله، وأحبُّ أرضِ الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجتُ منكِ ما خرجت].. (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان).

فمَن ذا الكريم الوفـيّ الذي يهاجِر من وطنه، إلا مضطراً أو مُجبَرا؟!..

مَن ذا الذي يغادر وطنَه من أبنائه الأبرار؟!.. لولا أنّ الوطن صَيّره المستبدّون المتجبِّرون دمعةً حزينة، وأنّةَ ثكلى، وشلاّلَ دمٍ مهراق، ولُقمةً مغمَّسةً بالذلّ والأحمر القاني، وأرضاً تَميد بأهلها، وسَوْطاً مُسلطاً على الظهور والرقاب، وقَبواً مظلماً، وكرامةً مُضَيَّعة، وهلاكاً للزَّرع والضَّرع، وخذلاناً مؤلما؟!..

*    *    *

لا يعرف مرارة الغربة إلا مَن فَقَدَ الوطن، ولا يَذوق ألم الحزن إلا مَن اضطرّ لهجرة وطن، ولا يُقَدِّر حلاوة الوطن إلا مَن ذاق علقمَ الهجرة والتنقّل والترحال بين الأمصار والبلدان، فحين تجيش الذكريات، تصرخ العَبَرات: وطني لا يعوِّضه في الدنيا وطن!..

إذ مَن ذا الذي هجر الوطن الحبيب.. لا يتحرّق شوقاً إليه، ولا يتلوّى ألماً عليه، ولا يسكن إلى عبرات الحنين لكل نسمةٍ عليلةٍ..كانت تلامس في رحاب الوطن وَجْنتيه؟!..

مَن ذا الذي لا تلتهب مقلتاه عذاباً لفراق الوطن الغالي العزيز، ولا يذوب قلبه كمداً عليه، ولا يتوق إلى ريحان ترابه العذب المعفَّر بلظى ذكراه؟!..

ومَنْ مِنَ الذين ذاقوا مرارة الهجرة والتهجير من أوطانهم، لم يحتفظ في صدره بصواعق الحزن، التي حين تنفجر.. تُفجّر كلَّ رصيد الأحزان المتراكمة في الصدور.. على الأوطان، والأحياء والشهداء من الخِلاّن؟!..

*    *    *

حين نفقد الوطن، ويتعذّر علينا أن نُقيمَ داخله، فسنبنيه في نفوسنا، ونُسكِنه في أعماقنا، ليصيرَ جَناحَيْنِ لروحنا، نُحِسّ به، ونستشعر عُلُوَّه ومكانته، ونندفع لتحريره.. فمَن تعذّر عليه أن يسكنَ في وطن، عليه أن يُسكِنَه بين ضلوعه، ليتذكّر في كل وقتٍ وحين، أنّ الإنسان لا قيمة له من غير وطن، فمَن يستردّه في أعماقه، لا بد أن يستردّه من مُـحتلِّيه!..

*    *    *

في يوم الهجرة، تنفجر الأشجان، لِتُذكِّرَنا، أننا نتوق إلى وطنٍ آمنٍ عزيزٍ كريمٍ حُرٍّ مَنيع، تبنيه سواعدنا المضمَّخة برحيق ياسمين الشام وبَياضه، ولسانُ حالنا يردّد أهزوجةَ الثوار بين جنبات النفوس الواثقة: [ما لنا غيرك يا الله].. نعم نتوق إلى وطنٍ حُرٍّ ولسانُ حال إنساننا، يردّد بين جنبات النفس العليلة بفقد الوطن: [اللهم إليك أشكو ضَعفَ قوّتي، وقلّةَ حيلتي، وهواني على الناس.. يا أرحم الراحمين، أنتَ ربُّ المستضعَفين وأنتَ ربي.. لكَ العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلا بك]!.. فتلك كلمات قالها قبلنا سيّد خَلْقِ الله، المهاجر محمد صلى الله عليه وسلم..

في يوم الهجرة، نمضي، بعيونٍ مُكحَّلةٍ بدم شهدائنا الأبرار، ترفرف حولنا أرواحُ أطفالنا التي أزهقها الهمجُ الأسديّون، والصامتون، والمتواطئون، والخاذلون، وأوباش الروس،.. والمجوس.. ودجّالو البيت الأبيض والبنتاغون.

نمضي، مُزَوَّدين بعزم خنساوات سورية الثائرة الهادرة، وبإصرار مجاهديها الأبطال، من أحفاد الفاروق عمر والسيف المسلول خالد.. فالشام وطن الأحرار، وطننا، يستقرّ خالداً بين ضلوعنا، لا يُفَارق صدورنا، ولن يغيب عن حدقات عيوننا وثنايا أعماقنا.. إلا بوقف أنفاسنا، وافتراق أرواحنا عن أجسادنا!..