الخير الذي فيه دخن.. حقيقته وفقهه

زهير سالم*

في الحديث الصحيح عن الفتن، الذي يرويه سيدنا حذيفة بن اليمان، يقول سيدنا حذيفة:

كانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّا كُنَّا في جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بهذا الخَيْرِ، فَهلْ بَعْدَ هذا الخَيْرِ شَرٌّ؟ قالَ: نَعَمْ، فَقُلتُ: هلْ بَعْدَ ذلكَ الشَّرِّ مِن خَيْرٍ؟ قالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ، قُلتُ: وَما دَخَنُهُ؟ قالَ: قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بغيرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بغيرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ منهمْ وَتُنْكِر.

ودائما كان "فقه الحديث" أو "فقه ما يستفاد من الحديث" هو ميدان عمل الفقهاء المبرزين، حملة العلم الحق من أهل هذا الدين. وقد يستخرج أحدهم عشرات الفوائد أو الأحكام من الحديث الشريف، لا يتجاوز متنه السطر أو السطرين..

وحديث سيدنا حذيفة عن الفتن التي تترصد التاريخ المستقبلي لهذه الأمة، منجم ثر عجيب في معرفة الحق من الباطل، والشر من الخير.، وفي تحديد طريقة التعامل من الدعوات والأفكار.

يرتب الحديث الشريف العصور الكبرى للأمة، على النحو التالي: الخيرية المطلقة- يتبعها شر وأي شر ؟؟ معرفتنا بطبيعته محدودة، وإذا قلنا فيه فسنقول على سبيل الحدس والتخمين. ثم مرحلة من الخير المدخن، وقد أخبرنا رسول الله عن بعض معالمها، ثم مرحلة من الشر المطلق، حيث يقوم الدعاة على أبواب جهنم.

وأزعم أنه لو قام مجمع كبير من علماء أهل الإسلام، لتتبع معالم هذا التعاقب، وإسقاطه عمليا على تاريخ المسلمين، بالمعنى العام للتاريخ "ماض وحاضر ومستقبل" لأغنوا الأمة برؤية عملية أكثر جدوى في التعامل مع تقلبات الزمان.

الحديث عن فقه عصر "الخير فيه دخن"، يشكل نقطة مفصلية في فقه أهل الإسلام لحركة التاريخ، وطريقة تعالمهم معه. وإعادة قراءة الحديث الشريف بغير مقترنات مسبقة، أو محددات رؤية مسيطرة، ربما تمنحنا رؤية مغايرة لكثير من الشعارات والمحددات التي اعتقدناها طيلة القرن العشرين، وما زلنا. وفقه "عصر الخير الذي فيه دخن"، يسقط من فكرنا كما من مناهجنا ادعاءات منها طرح بناء "الكانتون" الإسلامي المزعوم وسط مجتمع لقبناه اعتباطا "بالجاهلي"، مع أنه الماء الذي نشأنا منه ، والحوض الذي نسبح فيه، ومنها إسقاط نظريات وشعارات كثيرة، صبت جميعها في بناء قاعدة (لَا مِسَاسَ) التي يزيدها البعض يوما بعد يوم يبوسة وعنادا. والتي لا يزيد البعض يعمق حوضها ويزيدها طلاء وزخرفا..

ولو سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مرحلة الخير الذي فيه دخن، أو عن دخن هذا الخير، لأجابك موضحا : "قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي."

تعال نكبّر معا، ونحن نستقبل هذا المعنى، ونتأمله، ونستشرفه ، ونحاول أن نلتحق بأفقه. الله أكبر ...وهل يجرؤ أحدنا أن يعيد شرح هذه العبارة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم شرحا مباشرا تفصيليا، من غير محاولة إعادة احتواءـ أو توجيه..!! فكيف أقول أو تقول؟؟

خير فيه دخنه . عنوان معبر وكاف وجازم. هو خير وفيه دخن، وكفى !! وما هو هذا الخير المدخن يا سيدي يا رسول الله ؟؟ يقول : قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي..فهل بعد هذا البيان من بيان؟؟

وتقفز إلى الذهن فورا عبارة ما يزال يرددها الخطباء على المنابر حتى كانت ركيزة من ركائز التفكير في قلوب وعقول المسلمين.. وسدت على المتأمل المسلم سبل الرؤية والمعرفة، وأنه يمكن أن يكون خيرٌ ولو مدخنا، من مصادر ومناهج ودعوات أخرى!! ما لي أرانا أتمضمض بالكلمات!!

ونسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: وما واجبنا في الخير الذي فيه دخن يا سيدي يا رسول الله ؟؟ هل ننبذه، و ننبذ إلى أصحابه على سواء..؟؟!!

هلنرفض الكتب من عناوينها؟؟ لا نقارب صحيفة ولا عهدا ولا ميثاقا ولا اتفاقية، ونسم كل سطر في كتاب بأنه باطل، لأن عنوان الكتاب باطل. وكل بند في ميثاق أو دعوة أو اتفاقية بأنها باطل كلها، لأن فيها وفيها، ومنها ومنها. هل ننبذ كل ما قيل على هوية القائل، وشخصه، مهما اختلف موقعه من الحق؟؟

يقول لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : خير فيه دخن ، تعرف من أصحابه وتنكر. ويعلمنا سيدنا أن من حقنا ومن واجبنا، أن نتأمل كل ما يعرض علينا من الخير المدخن، فنعرف ما نعرف من الخير بنور شريعتنا، وننكر ما ننكر من الدخن بالنور نفسه..

وعلى هذا الأساس، نمسك بالقلمين الأخضر والأحمر، ونقرأ كل الكتب والنظريات والدعوات والمواثيق والاتفاقيات، ونؤشر هنا لما نعرف بالأخضر، ونؤشر هناك لما ننكر بالأحمر. ورائدنا دائما (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ)

كتب "جان دانيال" الكاتب اليهودي، المغربي الأصل، الفرنسي الجنسية، كتابه "السجن اليهودي" فأبدع فيه دفاعا عن أهل ملته، دافع عنهم بالتصدي لهم. ونتابع على ألسنة بعضنا محاولات سجننا، وقمعنا على الطريقة نفسها، وبناء "كانتون" وجودي وحضاري وفكري حولنا ...

دعوة نبينا جاءت رحمة للعالمين، ونحن بعض هذا العالم نتأثر به ونؤثر فيه، نقبل منه ونرد عليه، وتبقى دعوتنا إلى الكلمة السواء مبسوطة على كافة الجبهات. من كل الحضارات والعقائد والأفكار والمناهج والثقافات نعرف وننكر، ونبني مواقفنا على قاعدة المعرفة والإنكار.

ونحن شركاء صميمون مشتبكون مع كل خير وإن كان فيه دخن ، نقبل الخير ونرد الدخن، ونعتز دائما بقدرتنا على أن نعرف وننكر مما ورثنا من نور شريعتنا...

(وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ).

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية