العَميلُ المُغَفَّل

د. محمد بسام يوسف

أمنُ الثورة

إننا لا نخشى العدوّ حين نقول: إنّ حجمه كبير، ووسائله ماكرة، ويقظته دائمة، وتخطيطه للقضاء على الإسلام وأهله مستمر متطوّر، ودأبه لرصد أبناء الحركة الإسلامية قائم ثابت في الخفاء والعَلَن والسرّ والجهر.. لكنّنا في ظروفٍ كهذه نتساءل: هل يمكن للمسلم المؤمن الذي باع نفسه رخيصةً لله عزّ وجلّ.. أن يفكّرَ في إعلان أو كشف أساليب عمله وأسرار جهاده وحركته، وأسماء النوابغ والناشطين من إخوانه، وتفصيلات خططه وأهدافه القريبة أو البعيدة، وأساليب تنفيذ مهماته التنظيمية الإسلامية؟!.. فيقدّم للعدوّ ما يرغب به، من غير عناءٍ أو كلفةٍ أو جهد.. إذ يوفّر عليه ذلك كله، ما يجعله متمكّناً من رؤية أبناء الإسلام بشكلٍ واضح، ورصد حركاتهم وأهدافهم ومناهجهم وخططهم وبرامج عملهم وأساليبهم.. فيسهل عليه بسط سيطرته عليهم، وإبقاء الإسلام بعيداً عن تحوّلات مجتمعهم، بهيمنته على الأمة وأبنائها، فارضاً عليها العبودية والذِّلة والضعف والتبعيّة!..

لا يعجب المرء عندما يعرف أنّ العدوّ يجنّد كثيراً من العملاء ضدّ أبناء الإسلام والحركة الإسلامية.. لكنه قد يصاب بالذهول حين يكتشف أنّ فئةً من المحسوبين على العاملين للإسلام، يخدمون -من غير قصدٍ- أهدافَ عدوّهم المتربّص بهم!.. والفرق بين الصنفين الخادمَيْن للعدوّ، هو أنّ الأول منهما عميل حقيقي، يخدم سادته بتكليفٍ رسميٍ منهم، وفق خطةٍ مرسومة، وبرامج محدّدة، وأهدافٍ واضحةٍ للقضاء على الإسلام وأهله، ثم يؤجَر على جهوده بالمال والمتاع ورَغَد العيش في الدنيا.. أما الصنف الثاني، فيخدم هدف العدوّ من غير تكليفٍ رسميٍّ منه، أو خطةٍ مرسومة، أو برامج محدّدة.. إذ يقدّم خدماته مجّاناً لعدوّه، ولا يؤجَر عليها بالمال أو المتاع أو رَغَد العيش الدنيويّ.. بل يعاقبه ربّه سبحانه وتعالى يوم الحساب، على تفريطه، عذاباً يليق بالمفرّطين بدينهم ودعوتهم وإخوانهم!.. فيُحرَم بذلك من متاع الدنيا ورَغَد الآخرة، لأنه رضي أن يجعلَ من نفسه عميلاً للعدوّ من غير تكليف، وخادماً له من غير عزّة، وعاملاً لصالحه من غير أجْر!.. فأيّ الصنفين أشدّ خطورةً على أبناء الحركة الإسلامية ودعوتهم: ذاك العميل المكلَّف مع سبق الإصرار، أم هذا العميل المغفّل من غير قصد؟!..

إنّ من أنجح الأساليب أن يجرّ المسلمون المبصرون عدوّهم إلى ما فيه مصرعه وهزيمته وفشله وهو أعمى.. يرونه ولا يراهم، ويشعر بنجاحاتهم من غير أن يدركَ أبعادها، ويرتطم بخذلانه من غير أن يعرفَ مَن ساقه إليه!.. إنها الخدعة المباحة، والمكر الشرعيّ المسدَّد المؤيَّد بنصر الله عز وجل: *(.. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)* (لأنفال: من الآية 30)، وكتمان أسرار العمل التنظيميّ الإسلاميّ ليس هدفاً، لكنه أسلوب وقائي لحماية العمل ومؤسّساته وبرامجه ومناهجه وخططه وأهدافه وأنشطته المختلفة، وحماية أبنائه ومجاهديه، الذين وضعوا أنفسهم وحَيَوَاتهم ومستقبلهم وما يملكون.. في يد حركتهم الإسلامية!.. *(استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان)*.

إنّ ما يزيد خطورةً على خطورة العدوّ ذاته، ذلك الذي يجلس ويتحرّك ثرثاراً، على الرغم من كل ما قد يكون له من فضلٍ وعملٍ وجهادٍ وسابقةٍ طيبة.. يتبجّح في كل مكانٍ ومناسبة، بكشف الخطط والأعمال والأشخاص، وبشرح الأساليب والمهمّات والأهداف، وبنقل الأخبار أو الإشاعات، غير مقدِّرٍ حجم الضرر الذي يمكن أن يجرّه إلى جماعته وإخوانه، بتصرّفه وثرثرته وحمقه وعاطفيّته وسذاجته.. فيخون نفسه وإخوانه وجماعته ودِينه، خائناً بذلك ربّه عز وجل الذي أمره بحفظ الأمانة، وخائناً رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم: *(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)* (لأنفال: 27).

المسلم المؤمن الحقيقيّ يشعر في كل أعماله وحركته وسلوكه، بعِظَم الأمانة المتمثّلة في إخوانه وجماعته وحركته، وبثِقَل المسؤولية التي تتمثّل في كل كلمةٍ تخرج من جَوْفه: *(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)* (قّ: 18)، *(أمسِك عليك لسانَكَ..)* (الترمذي)، *(مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيراً أو لِيَصمُت)* (متفق عليه).. وهكذا، فأبناء الحركة الإسلامي الأوفياء الأتقياء: حَذِرون يَقِظون حريصون على أمنهم وأمن إخوانهم ونشاطاتهم، في حِلّهم وترحالهم، وغربتهم وأسفارهم، ولقاءاتهم واجتماعاتهم، وعلاقاتهم الاجتماعية المتعدّدة الأشكال والألوان، وفي مراسلاتهم واتصالاتهم المختلفة الوجوه والوسائل، وفي علاقاتهم التنظيمية وحَيَوَاتهم الأسرية، وفي المواقف السهلة والصعبة المحرِجة!.. *(.. وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً)* (النساء: من الآية 102).

تُعتبر عملية جمع المعلومات أهم محاور الصراع بين المسلم وعدوّه، فلنحرص على أن نكونَ أقوياء النفوس والتربية والإيمان، وأبعد ما نكون عن السذاجة والحماقة والغَفْلة، التي توقع صاحبها في المآزق والمهالك الدنيوية والأُخرويّة.. لنحرصَ على أن نعرفَ كل شيءٍ عن عدوّنا، من غير أن نقدّمَ له أيَّ معلومةٍ يستفيد منها بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر.. لنكن أبناء الإسلام حقيقةً وواقعاً وفعلاً، لا اسماً ولقباً!.. ولنكن فَطِنين حقيقيّين لعدوّ الإسلام: عدوّنا.. لا أغبياء أو مغفَّلين مفرِّطين، فالإنسان محاسَب على كل حركةٍ أو سكْنةٍ يقوم بها في حياته.. فلا تكن لعدوّكَ عميلاً مغفَّلاً!..

*(.. إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)..* (الإسراء: من الآية 36).