قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه

محمد شركي

لقد حسم القرآن الكريم باعتباره رسالة الله عز وجل الخاتمة إلى البشرية  حتى تقوم الساعة في موضوع حرية العبادة  حيث ضمنها لجميع الناس ما داموا سيعرضون على خالقهم  بعد رحيلهم عن الدنيا ليقضي بينهم فيما كانوا بعبدون بمحض إرادتهم دون إكراه وقد خلقهم  لعبادته وحده دون شريك وامتحنهم لذلك في هذه الحياة الدنيا  .

ولقد قص علينا القرآن الكريم أخبار الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهم يدعون أقوامهم إلى عبادة الله عز وجل وحده دون  شريك بلا إكراههم على ترك ما كانوا يعبدون من دونه  ، وكان خاتمهم  سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه الله تعالى بقوله :

 (( قل الله أعبد مخلصا له ديني  فاعبدوا ما شئتم من دونه  قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوّف الله به عباده يا عباد فاتقون ))

 هذه القول التي أمر الله تعالى رسوله بقوله للناس جميعا بدءا بمن عاصروه وانتهاء بمن  يليهم إلى نهاية العالم  في رسالة ختم بها الرسالات  قد قيل لكل من سبقه من المرسلين وفيه دليل واضح على أنه لا إكراه في الدين ولا إكراه في العبادة .

وقل يخطر على بال البعض أن يسأل إذا كان الله عز وجل قد ضمن للخلق حرية العبادة في هذه الآية الكريمة ، فما باله  ذيل ذلك  بذكر الخسارة التي تلحق بمن يعبدون ما شاءوا من دونه يوم القيامة ،وهي عبارة عن نار ذات ظلل فوقية وتحتية ؟ والجواب عن ذلك يوجد في التذييل نفسه وهو أنه سبحانه وتعالى خوّفهم من عبادة غيره لأنه وحده سبحانه وتعالى المستحق للعبادة باعتباره ربهم الذي خلقهم ، ولا يمكن أن يكون كذلك وغيره يعبد من دونه. وليس في هذا التحذير ما يدل على مصادرة حرية العبادة .  وهذا أمر منطقي ذلك أن الخلق أنفسهم لو كانوا مستحقين شيئا ففوّت لغيرهم  دونهم لما رضوا بذلك .

ولهذا لا يمكن فهم تخويف الله عز وجل  من تخصيص غيره بالعبادة مصادرة لحريتهم في عبادة ما يشاءون ، ذلك لأن كل من عبد إلها في الدنيا مهما كان، فإنه يفعل ذلك من أجل مقابل أو جزاء يخشى أن يضيع منه أوعقاب يناله إن لم يعبده.  والله تعالى كمعبود وعد من يخلص له العبادة بالجنة ، وحذر من يعبد غيره من النار. وكل الناس على اختلاف  ما  يعبدون يتحدثون عن ربح  أو خسارة  تكونان وراء عبادتهم أو عدمها  في حياة أخرى بعد حياتهم الدنيا باستثناء الذين لا يؤمنون بتلك الحياة الأخرى ، لأن مبلغ علم هؤلاء أو ظنهم أنهم يحيون حياتهم الدنيا التي لا بعث بعدها ولا نشور .

ولمّا كانت حرية العبادة مضمونه في رسالة الله عز وجل الخاتمة للناس ، فإنه ليس من حقهم  أن يحرموا بعضهم البعض من هذه الحرية أو يضيّقوا على بعضهم البعض فيها تحت أية ذريعة من الذرائع ، ذلك أن ما لم يقرره الله تعالى من مصادرة لحرية العبادة لا حق لأحد من خلقه أن يفعله ، وإذا ما فعل ذلك كان معتديا وظالما لنفسه ولغيره متجاوزا بذلك قدره وغير عارف له ، وغير جالس دونه كما يقال .

حديث هذه الجمعة دعا إليه الحادث الذي وقع في فرنسا حيث أساء أحد الأساتذة الفرنسيين إلى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال صور كاريكاتورية ، واعتبر أحد تلاميذه ذلك إساءة إلى مشاعره الدينية ، فأقدم على قتله  بفصل رأسه عن جسده .ومسؤولية ما حدث سواء الإساءة إلى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم أو القتل المترتب عن ذلك تقع على الدولة الفرنسية التي سمحت لتوجهها العلماني بالإساءة إلى دين الجالية المسلمة عن طريق الإساءة إلى شخص رسولها صلى الله عليه وسلم بواسطة رسوم كاريكاتورية عابثة بقدسيته بذريعة حرية التعبير التي لا تحترم حرية عبادة  المسلمين تحديدا علما بأن فرنسا لا تجرؤ على المساس بحرية عبادة غيرهم  ، ونخص بالذكر اليهود الذين يحظون  فيها بترسانة من القوانين الحامية لهم  والمجرمة لمن يستهدفهم بقول أو فعل .

ومما ابتلي به الخلق في هذا الزمان العلمانية التي يعرف موقفها من حرية التدين تناقضا صارخا ، فهي نظريا تصرح أن الناس في ظل حكمها أحرار فيما يعبدون ، لكنها عمليا تصادر حريتهم كما هو الشأن بالنسبة للعلمانية الفرنسية المعتمدة لما يزيد عن قرن من الزمن حيث تمنع الجالية المسلمة من ممارسة حريتها في العبادة ، وترى أن ذلك يعد تهديدا مباشرا لها، ونكتفي بسوق مثالين على ذلك ، وإن كانت الأمثلة كثيرة ، وأولهما هو مضايقة المرأة المسلمة في لباسها أو زيها الذي هو جزء من عبادتها خلافا لما هو عليه أمر اللباس بالنسبة لغيرها . ولا يمكن أن تزعم العلمانية الفرنسية أنها ضامنة لحرية العبادة بالنسبة للمرأة المسلمة وهي تمنعها من ممارستها بالتضييق عليها في لباسها الذي له دلالة دينية، وله صلة بعبادتها إذ لا مبرر لمنعها من الدراسة أو الشغل  لمجرد أنها مارست حريتها في عبادتها  من خلال لباس تلبسه . أما المثال الثاني فهو مضايقة العلمانية الفرنسية الجالية المسلمة في ممارسة حرية العبادة بالنسبة لذبح الأضاحي في عيد النحر، وهو من صميم عبادتها بذريعة الرفق بالحيوان مع أنها هي لا ترفق به إذ تصعقه ، ولو كانت ترفق به حقا كما تدعي  لما أقرت بقتله  أصلا لا نحرا ولا صعقا ، علما بأن الثيران في اسبانيا المجاورة يتسلى بقتلها أبشع قتل على الإطلاق دون أن يعاب عليها ذلك بذريعة ممارسة حرية الرياضة.

ولا داعي للخوض في أمور أخرى من صميم العبادة  تضيق فيها العلمانية الفرنسية على الجالية المسلمة  بل يتعدى الأمر ذلك إلى تدخلها هي وغيرها من العلمانيات الغربية  في عبادة  المسلمين وهم في أوطانهم .

ولقد حان الوقت لتقر كل أمم الأرض ودون استثناء وبإجماع قانونا يمنع المساس بحرية العبادة إجرائيا وليس نظريا أو ادعاء فقط  كما هو الشأن بالنسبة للعلمانية الفرنسية وغيرها من مثيلاتها في الغرب ، وفي عموم العالم . ومن حرية العبادة ألا تتعرض مقدسات كل الديانات على اختلافها للاعتداء ،وذلك صيانة لمشاعر أصحابها الدينية بل لا بد أن يتضمن قانون منع المساس بحرية العبادة إدانة وتجريما لمن يصادرها بشكل من الأشكال بما في ذلك الإساءة إلى مشاعر أصحابها عن طريق النيل مما يقدسون مهما كان نوع الإساءة .

اللهم إنا نعوذ بك أن نظلم أو نظلم أو نجور أو يجار علينا  أو نضل أو نضل . اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا  من لا يخافك ولا يرحمنا ، ولا تجعل اللهم فتنتنا في ديننا . اللهم صن دينك المحمدي واجعل آخره يا مولانا كما بدىء. اللهم انصره ولا تنصر عليه ،واعل رايته ، وأيد أهله تأييدا يمكن لهم في الأرض منة منك يا أرحم الراحمين. والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .