فَذْلَكاتٌ لُغَويةٌ سياسيّة (11)

د. محمد بسام يوسف

فَذْلَكَةُ الحاء*(4)

(حَمَلَ) وأخواتها!..

*حَلَّ ، حَمِيَ ، حَمِدَ ، حَلَقَ ، حَنِقَ ، حَمَشَ ، حَمِقَ ، حَنَثَ ، حَلَفَ ، حَلَكَ ، حَمَزَ ، حَمُسَ ، حَمْلَقَ، حَجَزَ*

(حَمَلَ) الشيءَ، أي: رَفَعَهُ .. والحَمْلُ بهذا المعنى يمكن أن يكون على ظهر الحامل أو على ظهر دابّةٍ!.. والدابّة لا تعرف ماذا تحمل على ظهرها، فكلّ حِمْلٍ عندها سيّان، أكان ذلك تراباً أم حَصْوَاً أم كُتُبَاً أم أثاثاً أم ذهباً، .. أم غير ذلك من الأحمال!.. وقد وصف الله عزّ وجلّ فئةً من بني إسرائيل بقوله: *(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)* (الجمعة:5).. أي إنّ الله سبحانه وتعالى، عندما أنزل التوراة على بني إسرائيل، أرادها لحياتهم مَنهجاً، ودستوراً يحكمهم ويعملون به في كل شؤون حياتهم.. لكنّهم لم يحملوها في صدورهم كما أمرهم ربهم، ولم يحفظوها في قلوبهم، ولم يعملوا بها كما أُمِروا، وبذلك حوّلوها إلى قطعةٍ جامدةٍ أو إلى حِمْلٍ من الأحمال، لها ثقل ماديّ فحسب، فحملوا هذا الثقل على أكتافهم وظهورهم، وتحوّلوا إلى ما يشبه الحمير التي تحمل الأحمال ولا تدري ما الذي تحمل، هل هو حصىً أم حنطة أم شعير أم ورق أم فضة أم تراب أم كتاب مقدّس .. أم غير ذلك!..

بذلك المعنى الأصليّ يقال: حَمَلَ القرآنَ، أي: حفظه وعمل به وجعله منهجاً وحيداً لحياته، لأنّ القرآن العظيم أنزله الله عزّ وجلّ إلى الناس ليكون منهج حياةٍ وحيداً شاملاً لهم، وعلى المؤمن أن يحملَه في قلبه وأحاسيسه وفكره وسلوكه وروحه، ويضحّي بكل غالٍ ورخيصٍ في سبيل تحكيمه بين البشر، ويمزجه في نفسه وعقله، حتى يصبح من المحال التفريق بينهما: أي بين النفس والقرآن!.. وإذا لم تتحقق هذه الحقيقة، أي إذا لم يصبح القرآن منهج حياةٍ للناس المؤمنين به، ولم ينعكس جوهره على سلوكهم وعلاقاتهم .. فإنّ حَمْله لا يعدو كونه حِملاً من الأحمال أو الأثقال، وحامله لا يكون إلا كمثل الحمار يحمل أسفاراً، كما هو حال بني إسرائيل الذين لم يحملوا التوراة بحقٍ كما أمرهم الله عزّ وجلّ!..

على هذا، وخلافاً لبعض علماء الاجتماع، الذين اعتبروا الإنسان حيواناً ناطقاً .. فإنّ مَن لا يعمل بمنهج القرآن، يحوّل نفسه إلى حمارٍ ناطق!.. لأن الله عزّ وجلّ لم يُنـزِل القرآن على الناس ليحتلّ مكاناً لائقاً على رفّ مكتبةٍ، أو ليُعَلَّقَ على الصدور، أو ليدلَّى من سقف سيارةٍ أو مركبةٍ.. وحسب، بل ليكونَ منهجاً للحياة، ودستوراً ينظِّم شؤون البشر!.. وكل مَن يُعطِّل العمل به، أو يتّخذ من المناهج الشرقية والغربية مَنهجاً لحياته، بديلاً عن مَنهج القرآن العظيم.. فهو حمار ناطق يحمل أسفاراً أو أثقالاً!..

الحمار الحيوان لا يُحاسَب على غفلته يوم القيامة، أما الحمار الناطق فسيحاسَب بل سيعاقَب أشد العقاب، يوم لا ينفع مال ولا بنون، لأنّ غضب الله عزّ وجلّ سيحلّ عليه، و(حَلَّ) غضبُ الله يعني: نَزَل، وقد ورد في محكم التنـزيل قوله جلّ شأنه: *(.. فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)* (طـه: من الآية 81).. أين سيهوي ذلك الحمار الناطق؟!.. في نار جهنّم، بعد أن تكون قد (حَمِيَتْ) أي: اشتدّ حرّها!.. فليُحَمْدِل مَن هداه الله إلى الإيمان، أي ليقل: الحمد لله، وليحمده الحمد اللائق به سبحانه وتعالى!.. و(حَمِدَه) تعني: أثنى عليه!.. وليبتعد الإنسان عن (حَمْدِ) الأرباب المزيَّفين، الذين يعطّلون العمل بكتاب الله ومنهج القرآن، فيحوّلون الناس إلى (حَميرٍ) ناطقة، حين يُحلِّلون لهم (الحرام)، أي: المحظور الممنوع، ويحرّمون عليهم (الحلال)، أي: المباح، إذ يقال: (حلَّ) الأمرُ أو الشيءُ، أي: صار حَلالاً مُباحاً، كما يقال: (حَلَّ) العُقدةَ أي: فَكَّها، وهناك مَن يستخدم عملية (حَلَّ) ضد كل مَن يرفض أن يكون حماراً ناطقاً لربٍ مزيَّفٍ، إذ يقوم الأخير (أي الربّ المزيّف) بحلّ رقبة الأول، أي: فَكِّها، بكل الأساليب القمعية الممكنة!.. 

فضلاً عن استخدام أسلوب: حَلّ الرقبة، من الممكن للربّ المزيّف استخدام أسلوب (حَلَقَ)، إذ يقال: (حَلَقَ الحلاقُ رأسَ فلان)، أي: أزال الشعر عن رأسه، لكن حديثاً طُوِّرَ معنى (حَلَقَ) إلى معانٍ عدّة، أبسطها: الطرد من الوظيفة أو النفي من الوطن، وأشدّها: (حَلْقُ) الكتفين، أي: إزالة الرأس عنهما!..

إذا ما كثرت أعمال الحَلْق واشتدّت بحق الناس والعامّة، من قِبَلِ الحكومة أو الحاكم الذي (حَنِقَ)، أي: اشتدّ غيظه، من أبناء رعيّته الـمُقَصِّرين في طاعته كما يُحب ويشتهي، بعدم تنفيذ مَنهجه الذي يضعه لهم ويفرضه عليهم.. ثم (حَمَشَ) القومَ، أي: ساقهم بغضبٍ، لأنه (حَمِقَ)، أي: قلَّ عقلُهُ، و(حَنَثَ) في يمينه أو قَسَمِهِ الذي (حَلَفَه) عند تولّيه مقاليد الحُكْم والسلطة، أي: أثِمَ ولم يبرّ باليمين.. إذا ما وقع كل ذلك.. فإنّ الأمة كلها ستغرق في عواقب فعل: (حَلَكَ)، أي: اشتدّ سوادُهُ!.. فيصبح نهارها كَلَيْلِها، أي حالكاً أسود بل شديد السواد!..

إذا ما (حَمَزَ) الهمُّ، أي: اشتدّ على الناس، الذين (حَمُسوا)، أي: امتلكوا الشجاعة والقوة على قول الحق.. فإنّ السيد الوالي يطلب من أعوانه وحرّاسه وأجهزة أمنه، أن يحملقوا جيداً -حِيطةً وحذراً- في وجوه أبناء الرعية، و(حَمْلَقَ) تعني: فَتَحَ عينيه بشدّة، وفي هذا يقال مثلاً: (حَمْلَقَ حارسُ حاجبِ السلطان في وجه رجلٍ كان يمشي مع صديقه، فقرأ الصديق الفاتحةَ على الرجل.. وعلى ذريّته .. وذريّة ذريّته)!..

عندما يعجز السلطان عن تهدئة الأوضاع الداخلية المتفجّرة، باستخدامه كل وسائل الحَلْقِ والحَمْشِ والحَمْزِ والحَمْلَقَةِ والحُمْقِ والحِنْق.. فإنّ الشعبَ والوطنَ يُفاجَآن بحملةٍ يشنّها العدوّ على البلاد والعباد، و(حَمَلَ) حَمْلَةً على الوطن تعني: كرَّ عليه في حرب!.. وعندئذٍ يُحَمِّل فخامة الوالي رعيّتَه مسؤولية شَغْلِهِ عن مقاومة العدو، ثم يدعو الناسَ إلى (حِلْفٍ) وطنيٍ للصمود في وجه العدوان والتصدّي له، لأنه في مثل تلك الظروف العصيبة، ينبغي أن يكونَ الشعبُ (حَليفاً) للسيد الوالي، أي: مُتعاهداً معه على التناصر، فيصبح أبناء الوطن كلهم بلا استثناء -جلاداً وضحايا- (حُلَفاء) في سبيل الوطن الذي يتعرّض للعدوان والانتهاك!..

حين يهبّ الشعب لمقاومة العدوان هَبّة رجلٍ واحد، تخترق فخامةَ الوالي -بشكلٍ مفاجئٍ- هَبّةٌ من (الحِلْمِ) تجاه العدوّ الغاصب، فيتخلى عن حُمقه وحِنقه وحَمشه، ويدعو أبناء الرعية إلى الالتزام بما التزم به تجاه العدوّ، أي بالـ (حِلْم)، وهو: الأناة أو ضبط النفس، وفي هذا يقال مثلاً: *[حَمَلَ الأميركيون والصهاينة علينا حَمْلةً، واحتلّوا ثلثي بلادنا، فدعت الأمم المتحدة العربَ إلى (الحِلْم)، ريثما يحتلّ المعتدون الثلث الباقي، والتزمت –مشكورةً- كل الأطراف العربية بدعوة الأمم المتحدة، التي تمثل الشرعية الدولية]!..*

لكن إذا ما جوبه الصهاينة وحلفاؤهم الأميركيون بمقاومةٍ شعبيةٍ وطنية، ولم يتمكّنوا من احتلال الثلث الباقي من بلادنا العربية والإسلامية.. فإنّ الأمم المتحدة تُسارع إلى الحَجْزِ بين الأطراف المتحاربة، و(حَجَزَ) بينهما تعني: فَصَلَ بين الفريقين المتحاربَيْن أو المتصارعَيْن، إذ تُستَورَد قوات أجنبية غربية أميركية وأوروبية إلى وطننا، الذي احتُلَّ ثلثاه، لاحتلال ثلثه الذي عجز العدو عن احتلاله!.. ويتم ذلك -عادةً- تحت غطاء: قوات الفصل الدولية أو القوات متعدّدة الجنسيات، وهي: قوات دولية (شرعية)، تُضحّي بالغالي والنفيس، والرخيص أيضاً، في سبيل تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدوليّ وما يُسمّى بالشرعية الدولية، والأمم المتّحدة.. علينا!..

ــــــــــــــــــــــــــــــ

**الفَذْلَكَة -كما ورد في المعجم الوسيط- تعني: [ مُجْمَلُ ما فُصِّلَ وخُلاصَتُهُ ]، وهي [ لفظة محدَثة ].