عالم ما وراء الطبيعة

رمضان زيدان

هل أنت موجود أم أن الموجود غيرك ؟!

هل ما تراه عينك حقاً ؟

أم أنه درب من خيالٍ في عالم الرؤى !

عالم ما يراه النائمون معتقدون

أنه في المصائب جَلَبْ

هل ما رأيت هو انعكاسات الحديث ؟

أم انتكاسات الحدث ؟!

غفوت فتذكرت ولم تكترث

توالى سقوطاً وميض الشهب

من بين أركان الكون الرحِبْ

إذن فالحركة والسكون قد تما

ومن ثمَّ المد والجزر البزوغ والخفوت

العلو والهبوط الليل والنهار متعاقبان

وتم للأرض دوران حول الشمس في وئام

كل شيء يمضي كذلك

لا الحجب تمنعه ولا يؤرقه مآلك

الحوانيت في رواج الشوارع في صخب

والخلق سائرون يتصبب منهم العرق

فتملّك الأرق من ذلك الضجيج

لم يتوقف أحدٌ لأحد

لم يحزن قلبٌ من أجل قلب

وما جاعت معدة لمعدة

ولم تذرف عينٌ دمعها من أجل عين

أبداً لم ينتصر عقلٌ لعقل

ولن يبقى على قيد الحياة

ساعدٌ لآخر منافحاً عنه المخاطر

إنما المظلوم يُظلم بغير جريرة وذنب

ربما لأنه من غير أم وأب

بائسٌ لطيم منفطر القلب

أو نكاية في الآخرين فينساب دمعه الحزين

مثل خطوط تجري وقنوات تَصُبْ

في سيلها الذي لم يتوقف بعد

تمر مشاهد الجور في ذاكرة الأيام

تمر أمام نُصبٍ من قتام

قد كنت وحدك وها أنت مازلت وحدك

تروح وتغدو تثّاقل وتنشط تتحدث وتصمت

ترى أكنت أنت أم كان للأهوال غيرك ؟!

ملأ الضياء الكون

حينما انبلجتْ الشمس من مشرقها

ولم ينظر أحدٌ عليك

اجتمع الناس على مقهى الميدان وانصرفوا

لم يذكروك يتذكروك أو يلمّحوا إليك

تسوّق من تسوّق وأذّن المؤذن

معلناً الآن أن الغروب حان

ليذهب الجميع للبيوت وحضنها الدافئ

في هدأة الملكوت والمرافئ

لتناول الإفطار بعدها يلعب الصغار

بالفوانيس وامتد للفجر اللعب

حينما خَلَت الطرقات من المارة

لم يهتم ولم يكترث بك شاخص

فمنذ قليل كان التوهج قائظ

كأنما عمد بعين أشعلٍ عاكس أن يسلّط ضوءه

لم يبقى حينها غيرك وعابري السبيل

فترتاد المطاعم كل يوم ولا ترى تودداً في القوم

لا تسمع منهم سوى صياحهم وهم يطلبون ما يشتهون

وعلى المقاهى يحتسون المشاريب

فيلعب هذان دومينو وآخران طاولة

خلصوا من جولة ليستأنفوا جولة

وكان أولى بهم الحفاظ على مكتسبات ملكاتهم

فيغرم المنهزم ويغنم من يصيب

وسار من سار فوق راحات المغيب

ضجيجٌ صراخٌ فخارٌ وعُجْب

أتذكر يوم جلست في الركن البعيد

تحتسي الشاي وأنت في الطليعة من صباك

هل كنت أنت أم كان أحد سواك ؟

من كان أيها المزعوم أجب ..

وشعرت أن في مشقة الخروج للحياة

كتل العناء تراكمت وتمخّض السيل في كل اتجاه

وكأنك الكائن الغير مرغوب في وجوده

الكل يجهلك أيومها كنت أنت أم كان المجهول غيرك ؟

بينك وبينها صراعٌ سرمدي قد نشب

.....

المورفات الثلاث وقفن قائمات سنيناً سامقات

وكم يحملن من سمات

ضاربات بجذعهن العتيق في التربة السمراء

كن يتمايلن طرباً لرؤية الرابيات في سماء الكبرياء

يعانقن الهواء يعبقن النسيم

وترتسم تباسيم المُحيا على أفرعهن المزهرات

في صمودٍ يقفن مثل القلاع الشامخات

من حولهن تمتد سواعد النَصَبَ

وكم مددن ظلالهن علي المقلة البريئة والجبهة الصبوح

كانت تجري من تحتهن قناة الري

والربيع الحي غاية الوضوح

والعصارة الخضراء تسري في شرايين الفروع

العصافير تزقزق والفراشات ترفرف

والندي يغسل رهافة الأوراق من الغبار

فأشرق البريق وانتهى وبلغ الربيع المنتهى

مع غروب الشمس الموكب المزدان

تنحّى عن مكانته عن مكانه غَربْ

مضيت على تلك الدروب في مراس

وظل الخريف مخيماً على المورقات الثلاث

صارت الأفرع كالرهبان في مغارة الجبل

كدن يسقطن من الإعياء والشحوب والألم

ممتقعو الوجه ذابلو النضارة

وتلك الإشارة لأجل الخلاص

كالمصلوب يتلقى صفعات الرياح السافيات

حتى ثقبن قفص صدره وحنجرته

فصدر عنه صوت نايٍ حزين

كأنما حلَّ عليه الشجن وحده

بعدما تغيب وعن العالم ذهب

الشجرات الثلاث توجعن ..

حَزَنَّ بشدة وحزنهن طال

خلعن حُلة الربيع

تساقطت أوراقهن وذبل جمالهن البديع

أصبحن عرايا لا يجدن من يشفق عليهن

من يواري سوأتهن من ذئاب البراري المتلصصة

والأجواء في الليالي ببردها قارصة

تعالت الأصوات بالعواء والنشيج

على مرأى ومسمع الخلق تنتحب

نزل الجليد واكتسى الجو بالزمهرير

وظللت تحبس مواجعك

لساعة هطول الودق الموسمي لتتوه أدمعك

بين حبات المطر خشية أن يراها أحد المارة

فيربت على كتفك فتشعر بالحرج

ويبقى الأنين قابعاً وما خرج

متوارياً خلف أستار الحُجب

.....

في ساعة الإيلاف والصفاء والمُجالسةـ

الأحداق تذرف أدمعاً ولوعاً

لاستمالة القريض والبيان والمؤانسة

سلوى لقلبك المكلوم فدغدغت مشاعرك

حظوة بالمغريات قدمتها رغماً عنك

قرباناً وخشية أن يقال

أنك عديم الانتماء براءة وطيبة منك

حقيقة بالحق تعترف

ها أنت قد مضيتَ فوقّعتَ لمن أساءوا إليك

وثيقة الغفران

حسب ما قال الأولون خبزٌ ومِلحٌ يكفيان

فما لبثوا إلا أن تمادوا في غيهم

متغطرسين أفاكين متلبسين بكبرهم

ربما أنهم استضعفوك وفهموا عودتك خطأ

أصالة منك كنت أنت المبتدئ

متناسين أنك قد غفرت فأتيت

إليهم من جديد رافعاً غصن زيتون فريد

لم يعرفه من قبلك أحد

لأن ما وقع عليك من مظالم

كان أكبر من أن تسامح أو تسالم

كان أكبر من سماحة الوليّ

من محبة القديس من قلبٍ نديّ

كان أكبر من أن يُغتفر

لكنها الخطوات تمضي بقدر

لم يحفظوا صلةً وقُربى فزادت الكربات كربة

وكم عانيت وحدةً وغربة

وصلوا بدأبٍ جُب قاع الانحطاط

وتحرك الوطواط مشعلاً للفتنة

على أثرٍ خلف مُنظّرهم مضيتَ لقاع أخدودٍ زمان

ثقة به وهو ليس أهلاً لها .. خوّان

أفاك ملِيءٌ بِسُمّهِ الزعاف وكنت مازلت تخاف

من قابل المجهول فمن ذا تستشير حينها ؟

ولم تجد عليك من يُشير

ما علمت ولم تعرف أحداً أمامك

نقّبت . بحثت في وجوه من حولك

فلم ترى حقاً إمامك

وبقيت في حيرةٍ من أمرك في عثرةٍ من سَيْرِك

وبعد وقت ليس بالقليل من غفلتك

استيقظتَ على قناعة مفجعة

وانكشفت لك بشاعة مروّعة

أن من أمّنتهم كانوا همُ المتآمرون

فلديهمُ الضمير مُنعدم قد أصابه العطب

أقسى من أقسى ألم

على النفس البشرية على الروح البريئة الندية

أن تقابَل مودتها وطلعها السميّ

بالغدر والإيذاء والجفاء من لدن حاقد غبيّ

.....

الانتماء خاصية يثرثر بها البلهاء والبلغاء على حدٍ سواء

حينما يركضون إليها يحضون عليها

فهي بكينونة الخلقة مكنونة مخلوقةٌ تتدفق

من بين العروق كالشروق

لم يخلف يوماً موعده مع كل إصباحٍ جديد

وكل طلّةٍ من قسمات وجه النهار

حتميٌ حدوثه وقوعه أكيد فهو لا يحتاج

أن يُظهر الكائن البشري له احتياج

لأنه من البديهي أن يكون للفرد انتماء

لمعتقده لأبيه لأرضه لوطنه والانتماء الأهم للذات العلية

هكذا الأمر صدر

حتى لا تذهب النفس للتلاشي بالأرضين القصية

أدراج الرياح في طي البطاح

في دروب التيه والشتات لتمعن بالصمود مجابهةً في الآتيات

.....

الرواد . الرهبان المفكرون . المبدعون

الأولياء . القديسون

لطالما عاشوا في عزلةٍ ووحدة

لسمو الأهداف وهذا هو وجه الاختلاف

وقفتَ في مصاف هؤلاء متأملاً

فأصبحت مترنماً وناسكا في محرابهم

ومن شرفة الاستشراف

كان هنا ضريبة الاختلاف العزلة والاجتناب

في غير اعتساف لأحد ومن ثم الانزواء

للظل رويداً . رويداً كي يهدأ الغضب

كيف كنت وكيف صِرت

حكايات . محطات . مراحل

وفي النهاية كلٌ مفارق وراحل

حقبة تسلم الأخرى وكان أحرى

بك أن تعود للخيال الجامح

تقاطعات . تداخلات . تشابكات

سكينةٌ واضطراب سكونٌ واغتراب

يلهمك ربك فتعلّم نفسك بنفسك

تحاورها . تخاطبها تثور عليها

تنصحها . تناصحها . تعاتبها

تواجهها . توجهها مستلهماً

روح الحكمة من قصص الأولين

من نماذج إنسانية مررت في يوم صحوٍ عليها

في عالم الشهادة وجدت الأجدى لديها

وفي أخر الليل حينما يخيّم الصمت على

الأشياء من حولك كنت تتصفح في الأسفار

تقرأ ثم تسبح في الملكوت

ثم تقرأ ثم تسرح ثم تطنب من جديد

لكل شاخص ترسمه اللفظة المجردة في معاني تفرده

فتتمايل رأسك طرباً وعجب

وأنت تتقمص شخصية البطل الأسطوري

في الرواية في تتابع الحكاية

لتصنع عالمك الذي سكن بتكوين ماهيتك

عالمك الخاص تصنعه بنفسك

كل ما تتمنّى نفسك من أعاجيب المزايا

وممن حوته أسفار الوصايا

فكرٌ وإبداع . عشيرة وعزوة . بطولة وقدوةٌ

نبوغ ونُبلٌ ومهابة . شهامةٌ وشموخ وقامة

حكمةٌ وحنكة . إقدامٌ وجرأة

ذودٌ عن الحمى مناصرةٌ لمظلوم

تسديد عن مُعسر مساعدة محتاج

ومعلومٌ أن أباك الذي لم تراه بين جنبات الحياة

يرسل بك كمبعوثه الخاص إلى الحدود

للتفاوض والتروي والصمود

لتأديب المارقين أو لتقديم الوعود

من حولك إخوتك الأحد عشر

حلم في كيانك قد أسر

وأبناء عمومتك والعامة من المحبين والجماهير الغفيرة

وأيام بها من الرغد والنِعم الوفيرة

وفتاة أحلامك التي طالعتك من شرفتها الشاهقة

ترنيمة القمر فوق ربوة الثريا سامقة

وأنت مار في موكبك المهيب

وأمك الحنون تنثر مِلحها عليك خشية الحسد

مرددةً آيات من الذكر الحكيم

تعويذةً لدحر النفاثات في العُقد

ثم تهبط بعدها من برجك العاجي

من عالم ما وراء الطبيعة إلى عالمك الواقعي

فالواقع أنك مسترخياً على الأريكة

من شدة التعب ونفسك الغريقة

بين الطرائق والدروب بين التقهقر والوثوب

ولمبة الكيروسين البائسة أنهكت عينيك

من ضوئها الرتيب الخافت في وجنتيك

عتيقة من الخوالي بغتة سراجها كاد أن يشُبْ

فترى تطويق سوادها الوخيم حول بلورها المتصدع السقيم

تغفو قليلاً ثم تستيقظ لتجد سِفْر قصصك الشجيّ

من بين يدك على الأرض وقع

وما وقع في كيانك من فكرٍ صدع

وأنت مازلت وحدك لا أب . لا أم

ولا إخوتك الأحد عشر

ولا حبيبتك التي تمنيت هالة القمر

لم تلقى غير قواصفٍ وعواصفٍ قد راحت تَهُبْ

لا عشيرة ولا عزوة ولم يبقى أحد سواك

غير شخوص قابعة في خيالك وجدران متصدعة أمامك

وأصوات الرياح وتوحش النباح

في الشارع المجاور وأفكار كثيرة تساور

لكنك كنت تشعر بيدٍ علويةٍ حانيةٍ عليك

نفحاتٌ رحماتٌ تطوف بك

ترفرف حولك تغشّتك السكينة وتلك أسرار دفينة

للمخلوقات النورانية التي تمد في شعاعها لديك

كما تنزلت بحنوها لقاع بحرٍ وجُبْ

فيا تُرى أكنت ساعتها أنت المخلوق موجود ؟!

ومواكب الخَلق من حولك شهودٌ غير الشهود

فمن ذا يصدق أن ما مر بك من كرٍ وفرٍ قد مر

والمصاب الجلل في كافة الأرجاء صب

وجلل المصاب كان هو الخطب فهل كنت ساعتها بالفعل أنت ؟

لأن مرور الزمن فيما مضى لا يَجُبْ

ولأن قسوة المآسي قد صارت روافدها مَصبْ