لا تعذليه لبن زريق البغدادي

هائل سعيد الصرمي

هائل سعيد الصرمي

[email protected]

رُوي أن ابن زريق البغدادي كان شاب وسيما بهي الطلعة , فصيح اللسان وكان فارس في الشعر لا يشق له غبار, يتنقل بين الأمصار كما تتنقل الطيور المهاجرة بحثا عن الرزق , فقد كان يدخل على الملوك فيستمتعون بروعة شعره وحسن بيانه فيغدقون عليه بالعطايا والهبات , فيعود إلى بلده " بطانا , كما تعود أسراب القطا التي تغدو خماصا وتعود بطانا

وقد تزوج ابن زريق البغدادي بابنة عمه وعاشا أحلى أيام عمرهما , في سعادة غامرة , يرشفان من كأس حب مترع كالشهد , ومخضر كالسندس , وظلا على ذلك فترة من الزمن حتى أصابته فاقة ، فأراد أن يغادر بغداد إلى الأندلس لسد فاقته ، وذلك بمدح أمرائها ، ولكن زوجته تشبثتْ به، وتعلقت بأثوابه كما يتعلق الوجل المحب بأستار الكعبة ؛ محاولة بكل جهدها أن تثنيه عن الرحيل ليبقى بجوارها شغفا وحبًا , وخشية عليه وخوفا.. ولقد ألحت عليه, مهونة من الفاقة ومعظمة لما بين يديهما من السعادة , فقد كانا ينهلان من نبع الهوى كما ينهل الظامئ من الماء العذب, ولكن دون جدوى ، فلم ينصت لها , وتجهز مفارقا وهي تبكيه و يبكيها ، ورحل قاصد الأمير أبا الخير عبد الرحمن الأندلسي ، ولما بلغ الأندلس مدحه بقصيدةٍ بليغة ، فأعطاه عطاءً قليلاً لا يكاد يذكر، فتحطمت آماله وانهار كيانه , وقال - والحزن يحرقه - سلكتُ القفار وخضت البحارَ إلى هذا الرجل، فأعطاني هذا العطاء الذي لا يفي بنزر يسير مما أنفقته في رحلتي .. و لاحول ولا قوة إلا بالله , وخرج منكسرا خائر القوي لا يدري ما يفعل, ونزل ـ مهموما ـ بكوخ استأجره لمبيته ؟!"

ثم تذكَّر ما اقترفه في حق زوجته التي أنحلها البين وأضر بها الفراق , فلو استجاب لها لكان خيرا له ، و تذكر طول البين وما سيتحمَّله من مشاقٍ لعودته التي ربما تأخذ منه شهورا ، مع لزوم الفقر وضيقِ ذات اليد ، فاعتلَّ غمًّا وداهمته حمى المنية من ليلته , وطلبوه في صبيحة اليوم الذي قضى فيه فوجدوه ميتا , وتحت رأسه رقعة مكتوب فيها: القصيدة التي خلدت ذكره ورفعت قدره , لقد سطرها بجراح قلبه ونزيف وجده , ويروى أن الأمير بعد قراءته القصيدة بكاه بكاء مرا وأقسم أن لوكان حيا لأعطاه نصف ثروته .

لقد طافت قصيدته الآفاق ؛ وبلغت من النفوس الأعماق , لما فيها من جليل المعاني وكريم الأخلاق , وذلك لا يساوى أموال الدنيا.. وإلى يومنا هذا والأجيال تلو الأجيال تستمتع برقتها وروعة تصويرها, إنها بديعة كل الأزمان ورائعة تفوق كل الأشعار, من قرأها لا يمل تكرارها ؛ ربما لأنه أمهرها أنفاسه , فبعد أن سكب روحه فيها فاضت.. هذا الثمن الباهض جعل لها هذا الأثر والخلود.

لا تعذليه

يقول فيها مخاطبا ابنة عمه التي مات وجدا وكمدا على فراقها:

لا تَعـذَلِيـه فَإِنَّ العَـذلَ يُـولِعُـــهُ قَد قَلتِ حَقـاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَـعُـهُ

جاوَزتِ فِي نصحه حَداً أَضَرَّبِه مِـن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ النصح يَنفَعُهُ

فَاستَعمِلِي الرِفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلا مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ

قَد كانَ مُضطَلَعاً بِالخَطبِ يَحمِلُهُ فَضُيَّقَت بِخُطُوبِ الدهرِ أَضلُعُهُ

يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ مِنَ النَوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُ

ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ

كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهـــهُ

إِذا الزَمانَ أَراهُ في الرَحِيلِ غِنى وَلَو إِلى السَندّ أَضحى وَهُوَ يُزمَعُهُ

تأبى المطامعُ إلا أن تُجَشّمه للــــرزق كداً وكم ممن يودعُهُ

وَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ تَوصِلُهُ رزقَاً وَلا دَعَةُ الإِنسانِ تَقطَعُهُ

قَد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُمُ لَم يَخلُق اللَهُ مِن خَلقٍ يُضَيِّعُهُ

لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى مُستَرزِقاً وَسِوى الغاياتِ تُقنُعُهُ

وَالحِرصُ في الرِزقِ وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت بَغِيُ أَلّا إِنَّ بَغيَ المَرءِ يَصرَعُهُ

وَالدهرُ يُعطِي الفَتى مِن حَيثُ يَمنَعُه إِرثاً وَيَمنَعُهُ مِن حَيثِ يُطمِعُهُ

اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ

وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ

وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ

لا أَكُذبُ اللَهَ ثوبُ الصَبرِ مُنخَرقٌ عَنّي بِفُرقَتِهِ لَكِن أَرَقِّعُهُ

إِنّي أَوَسِّعُ عُذري فِي جَنايَتِهِ بِالبينِ عِنهُ وَجُرمي لا يُوَسِّعُه

رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ

وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ

اِعتَضتُ مِن وَجهِ خِلّي بَعدَ فُرقَتِهِ كَأساً أَجَرَّعُ مِنها ما أَجَرَّعُهُ

كَم قائِلٍ لِي ذُقتُ البَينَ قُلتُ لَهُ الذَنبُ وَاللَهِ ذَنبي لَستُ أَدفَعُهُ

أَلا أَقمتَ فَكانَ الرُشدُ أَجمَعُهُ لَو أَنَّنِي يَومَ بانَ الرُشدُ اتبَعُهُ

إِنّي لَأَقطَعُ أيّامِي وَأنفقُها بِحَسرَةٍ مِنهُ فِي قَلبِي تُقَطِّعُهُ

بِمَن إِذا هَجَعَ النُوّامُ بِتُّ لَهُ بِلَوعَةٍ مِنهُ لَيلى لَستُ أَهجَعُهُ

لا يَطمِئنُّ لِجَنبي مَضجَعُ وَكَذا لا يَطمَئِنُّ لَهُ مُذ بِنتُ مَضجَعُهُ

ما كُنتُ أَحسَبُ أَنَّ الدهرَ يَفجَعُنِي بِهِ وَلا أَنَّ بِي الأَيّامَ تَفجعُهُ

حَتّى جَرى البَينُ فِيما بَينَنا بِيَدٍ سراءَ تَمنَعُنِي حَظّي وَتَمنَعُهُ

قَد كُنتُ مِن رَيبِ دهرِي جازِعاً فَرِقاً فَلَم أَوقَّ الَّذي قَد كُنتُ أَجزَعُهُ

بِاللَهِ يا مَنزِلَ العَيشِ الَّذي دَرَست آثارُهُ وَعَفَت مُذ بِنتُ أَربُعُهُ

هَل الزَمانُ مَعِيدُ فِيكَ لَذَّتُنا أَم اللَيالِي الَّتي أَمضَتهُ تُرجِعُهُ

فِي ذِمَّةِ اللَهِ مِن أَصبَحَت مَنزلَهُ وَجادَ غَيثٌ عَلى مَغناكَ يُمرِعُهُ

مَن عِندَهُ لِي عَهدُ لا يُضيّعُهُ كَما لَهُ عَهدُ صِدقٍ لا أُضَيِّعُهُ

وَمَن يُصَدِّعُ قَلبي ذِكرَهُ وَإِذا جَرى عَلى قَلبِهِ ذِكري يُصَدِّعُهُ

لَأَصبِرَنَّ على دهر لا يُمَتِّعُنِي بِهِ وَلا بِيَ فِي حالٍ يُمَتِّعُهُ

عِلماً بِأَنَّ اِصطِباري مُعقِبُ فَرَجاً فَأَضيَقُ الأَمرِ إِن فَكَّرتَ أَوسَعُهُ

عَسى اللَيالي الَّتي أَضنَت بِفُرقَتَنا جِسمي سَتَجمَعُنِي يَوماً وَتَجمَعُهُ

وَإِن تُغِلُّ أَحَدَاً مِنّا مَنيَّتَهُ فَما الَّذي بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُ