مع مسيرة العودة الكبرى

منير شفيق

أنهت مسيرة العودة الكبرى، في قطاع غزة، شهر نيسان/إبريل الذي خاضت فيه مواجهات باسلة ضد العدو استمراراً لانطلاقتها في يوم الأرض في الثلاثين من آذار/مارس الماضي. وراحت تتهيأ للمواجهة الشعبية الفلسطينية الشاملة في الخامس عشر من أيار/مايو 2018، الموافق للذكرى السبعين لنكبة فلسطين عام 1948. وقد سطرت مآثر من البطولة والتضحية إذ ارتقى 35 شهيداً، وأصيب حوالى ستة آلاف بجراح تتراوح بين بليغة ومتوسطة. 

ولقد أثبتت مسيرة العودة الكبرى حتى الآن جدواها وصحة الاستمرار فيها والإصرار على مواصلتها. وذلك بملاحظة ما ولدته من إيجابيات للوضع الفلسطيني الراهن وللقضية الفلسطينية التي راح دونالد ترامب يشدد عليها النكير. ويضع كل إمكانات الولايات المتحدة الأمريكية لتصفيتها تحت مسمى "الصفقة التاريخية". 

فمن ناحية صحّحت البوصلة نحو التمسك في الثوابت، والتأكيد عليها ابتداءً من إثارة قضية العودة، ليس بالشعار فحسب، وإنما أيضاً، بزحف عشرات الألوف نحو "الشريط الناري" الذي يشكل رمزاً للنكبة، ورمزاً للحيلولة دون العودة. 

أما من ناحية أخرى فقد صبت زيتاً على نار الحالة الثورية الفلسطينية التي راحت تتأجج في القدس والضفة الغربية وتتهيأ للانتفاضة الشعبية الشاملة ضد الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس. إنها إعادة للمشروع الوطني الفلسطيني إلى استراتيجية المقاومة والانتفاضة بعد أن أُلقي به في الوحول من خلال استراتيجية التسوية والمفاوضات، والوصول إلى اتفاق أوسلو وتبعاته الكارثية. وأن من بينها وأخطرها التنسيق الأمني. 

هذا وقد أحيت مسيرة العودة الكبرى بما مرت به خلال خمسة أسابيع من مواجهات مع العدو، الروح الهجومية ذات الطابع الشبابي والشعبي والجماهيري، فإلى جانب تجارب الثورة الفلسطينية المعاصرة ومآثرها في المقاومة المعاصرة وصولاً إلى خوض ثلاث حروب منتصرة في 2008/2009 و2012 و2014 من خلال قاعدة مقاومة عسكرية جبارة في قطاع غزة،وإلى جانب انتفاضتين كبريين 1977-1993 و2000-2005.

وإلى جانب الانتفاضة الشبابية العفوية الفردية ( وأحياناً الثنائية) التي انطلقت في القدس والضفة الغربية في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2015، وما زالت مستمرة إلى اليوم ولو على تقطع وموجات، وإلى جانب الانتفاضة الشعبية التي ضمت عشرات الآلاف في القدس وعلى مدى 12 يوماً لإسقاط مشروع وضع الحواجز الإلكترونية على أبواب المسجد الأقصى. وقد انتهت بانتصار مشهود، إلى جانب هذه التجارب الهامة في مسيرة الكفاح الفلسطيني المعاصر جاءت مسيرة العودة الكبرى لتضفي تجربة جديدة تعتمد الانتفاضة الشبابية الشعبية السلمية مع وجود، قاعدة مقاومة عسكرية، ارتقت إلى مستوى الحرب شبه النظامية، متجاوزة مرحلة "اضرب واهرب" في المقاومة. 

وكان من الجديد في هذه التجربة الفذة أنها تمت من خلال وحدة وطنية ما بين كل الفصائل والمؤسسات والهيئات والتحركات الشبابية والشخصيات البارزة والاجتماعية. وهو امر أثبت أن الوحدة تحت رايات المواجهة ضد العدو هي طريق للخروج من حالة الانقسامات والتشتت والتمزق.

أي "وحدة على أرض المعركة" فيما فشلت حتى الآن كل مساعي الوحدة والمصالحة على أساس الذهاب إلى الانتخابات أو تشكيل إطار لقيادة موحدة بعيداً من إطلاق مواجهة ميدانية ضد العدو، أو قل أيضاً، ضد الاحتلال وحواجزه ومستوطناته. فأرض المواجهة والمعركة هي التي توحد. وهذه من خصائص الوضع الفلسطيني عبر تجاربه في المقاومة والانتفاضات. فثمة الآن، خارج قطاع غزة، شبه إجماع على دعم مسيرة العودة الكبرى حتى من قِبَل من اغتاظوا منها، ولا يريدون لها الاستمرار.

فما من قوة أو فرد إلاّ وينحني إجلالاً، وهو يرى شباب وشابات مسيرة العودة الكبرى، وهم يخوضون انتفاضة شبابية شعبية سلمية تواجه الرصاص القاتل بالحجر والخيام، وحرق الدواليب، وإطلاق الطائرات الهوائية، وبلا سلاح وبالصدور العارية (كما يقولون). إنها نمط من الاستراتيجية الشعبية التي ينتصر فيها الدم على السيف. 

هذه الوحدة التي تحققت في قطاع غزة، وأطلقت مسيرة العودة الكبرى، وعينها على أن تبلغ ذروتها في الخامس عشر من أيار 2018، تحث على أن تتكامل معها وحدة وطنية في كل أماكن التواجد الفلسطيني لجعل يوم الخامس عشر من أيار الجاري يوماً فلسطينياً مشهوداً للرد على النكبة.

وذلك بتثبيت ما يلي: فلسطين من النهر إلى البحر هي من حق الشعب الفلسطيني، وينبع من هذا الحق حقه بتحريرها، وحقه بالعودة إلى الديار التي هُجر منها.

أما ترجمة ذلك، سيراً على نهج مسيرة العودة الكبرى، فيكون بالحشد الشعبي السلمي في كل منطقة حسب ظروفها تأكيداً على وحدة الشعب الفلسطيني، وتصميمه بعد سبعين عاماً من النكبة، على أن ثوابت القضية ما زالت راسخة، والعزيمة ما زالت متأججة للرد على النكبة ومواجهة التحديات التي تدهمه، ولا سيما في ما تتعرض له الضفة الغربية من احتلال واستيطان وما تتعرض له القدس من تهويد ومصادرة. 

إن تراكم تجارب مسيرة العودة الكبرى السلمية، والانتفاضة المقدسية السلمية ضد الحواجز الإلكترونية في تموز/يوليو 2017، والانتفاضة الشبابية العفوية الفردية، وما سيشهده يوم الخامس عشر من أيار، لا بد من أن يترك كل ذلك أثره في إغناء العقل الفلسطيني ليبلور أساليب النضال المناسبة لظروف الوضع الفلسطيني. كما أن التجارب الفاشلة، المريعة في فشلها، بالنسبة إلى مسار التسوية والمفاوضات واتفاق أوسلو، والإصرار على نهج تجريب المجرب الفاشل، كما يفعل محمود عباس، سوف يراكم بدوره، أو يجب أن يبلور وعياً ضد ما لا يجب اتباعه من أساليب.

وهو الذي يقود الآن، إمعاناً في الإنقسام، وتشتيت الصفوف، مجلساً وطنياً عقد في رام الله غير شرعي، وتحت الحراب، ويفتقر إلى تمثيل الشعب الفلسطيني.