صناعة الكذب!

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي

[email protected]

ما العجيب في أن يكون العلماني راديكاليًّا، أو دِكتاتوريًّا، أو إرهابيًّا؟! 

(هتلر) كان علمانيًّا، و(استالين) كان. 

وكما أن صاحب الكرسي والصولجان مستعدٌّ أن يفعل أيّ شيء، وكلّ شيء، في سبيل بقائه على الكرسي، كذلك ظهيره من المثقَّفين، مستعدُّون للتضحية بأيّ شيء، وكلّ شيء، في سبيل بقائهم عبيدًا متنفِّذين على كرسي التيّار الذي ينتمون إليه!  وإذا عُرف السبب بطُل العجب.  فهم مثلًا مع انقلابٍ؛ لأنه يُقصي التيّار الدِّيني، ومع نظامٍ قمعيٍّ دمويٍّ، مستبدٍّ بشعبه، خانعٍ لأعداء ذلك الشعب؛ لا لشيء، إلّا لأنهم يخشَون مجيء التيّار الدِّيني البغيض. 

المثقف العربي اليوم مفارقةٌ مضحكة.  كثيرًا ما يتنمذج في كائنٍ طُحلبيٍّ، عبدٍ لرغائبه، ومصالحه الشخصيّة، بلا مبادئ ولا قِيَم.  هو يرفع شِعار القِيَم ضدّ طاغية، إذا كان وجود ذلك الطاغية يُهدِّد مصالحه الضيِّقة، ويقف في صفّ طاغيةٍ آخر، حين يوافق هواه، وحِزبه، وعقيدته، وحاجاته الفرديّة أو الطائفيّة أو الفئويّة.  ومعظم المثقّفين العرب كانوا من ذوي الاحتياجات الخاصّة والعامّة إلى الطغاة، وما زالوا.  لذلك لن يكون مدهشًا لك- والحالة بهذا الوحل- أن ترى شيوعيًّا يصف (باراك أوباما)، مثلًا، بأنه «زنجيٌّ حقير»، وأن تحرير العبيد كان غلطة تاريخيّة!  كيف يا مولانا الكادح المناضل، يا نصير المسحوقين والمهمَّشين؟  كيف تكون على آخر الزمان عنصريًّا متخلِّفًا بسحنتك هذه؟!  أنت شيوعيٌّ، يا رفيق، تُردِّد ليل نهار أنك كافر بالأديان لأنها- من ضِمن عُصابٍ طويلٍ عويصٍ يستبدّ بك في مناوأتها- رأسماليّة؛ ولأنها لم تحرِّر العبيد، بحسب زعمك المتغابي.  حتى إذ نَجَمَ تهديدٌ لطاغية (سوريا)، مثلًا، رفعتَ عقيرتك، بأن أوباما عبدٌ زنيم، وأن تحرير الزنوج كان فاحشة تاريخيّة عظمى وساء سبيلًا؟!  أ ولم تكن بالأمس مع المطبِّلين المزمِّرين لـ(أمريكا) لتحتلّ بلدك (العراق)، بحُجّة تخليصك من طاغيته!  إذن، المسألة هنا، يا رفيق الغفلة، أنك: طفلٌ ساذجٌ، يعوي لمرأى فأر، أو يعوي في طلب قطعة حلوى، لا أكثر.  فلا نُضج، ثمَّة، ولا رسالة، ولا قضايا، ولا مبدأ شريفًا.  إن مِثل هذا المثقف الشيوعيّ، اللاعق أرصفة المنافي، على استعداد تامٍّ لأن يقف مع أبشع الطغاة، والسفّاحين في العالم، وبلا ضمير.  وربما كان رفيقنا شاعرًا، ويا للمهزلة- شاعرًا بأيّ شيءٍ سِوى بالشّعر، بما هو ضمير- ما دامت آلهته تحارب الدِّين، وتتماهَى مع نظريته البلشفيّة في الحياة والمجتمع والكون، وسواء كانت مراتعها في (روسيا)، أو (سوريا)، أو (مصر).  أجل هو مناضل لا يُشقّ له غبار، وسيظل مناضلًا شعبيًّا، حتى وإن اقتضى نضاله الشعبي المجيد أن يكون مع جلّادي شعبه، وقتلته، بل حتى وإن لم يجد صاحبنا- في المقابل- ملجأً ولا مدَّخلًا ولا مغاراتٍ لنضاله إلّا في حضن إحدى العواصم الرأسماليّة اللعينة، (لندن) أو (نيويورك).  إنه المثقّف العربي النموذجيّ المسخ، الذي يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يعقل!  المثقّف الذي اتّخذ إلاهه هواه التجاري، فما يكسب به سيلعب به.  وستراهم يتخبَّطون هكذا، زرافاتٍ ووحدانًا، بين (باريس) و(لندن).  ومع ذلك فهم يطلِّقون طاغيةً في عاصمة عربيّة ليرتموا في أحضان آخر في عاصمة أخرى.  ولا ريب في أنهم سيتسرمدون كذلك، ويتسرمد نسلهم بعدهم، بين باريس ولندن؛ ما داموا يتوارثون النفاق، والخيانة العظمى: الخيانة لانتماءاتهم الإنسانيّة والثقافيّة والتاريخيّة الصميمة.  ما داموا لجيوبهم يحيون، ولكروشهم يرتعون، مقابل ما يدفعونه من أعمارهم وسمعتهم وشرف عروبتهم جزيةً لإلاههم (كارل ماركس)، أو (لينين)، أو (استالين)، ومن على دربهم سَلَكَ إلى أبد الآبدين.  وهم إذ يفعلون ذلك فإنما يفعلونه لأهداف قوميّة مجيدة، وعروبيّة شريفة، في مواجهة فريقٍ آخَر من العُبدان للغرب وأمريكا!  وخَسِرَ هنالك المُبْطِلون؛ خَسِرَ أولئك وأولئك أجمعون، وفي العبودية والهوان والعَتَه سقطوا، «ولم يُسَمِّ عليهم أحد»! 

وهكذا يدور الفلَك الثقافي العرباني، أو بالأصح يُدار، كثور الساقية.  تلك محرِّكاته، غالبًا، وذاك منتهى شأنه، ومهما كان بعدئذٍ الثمن؛ فالغاية تبرّر الوسيلة دائمًا، حتى لو كانت الوسيلة سَحْل البشر، وحَرْق النساء، وتسميم الأطفال بالأسلحة الكيمياويّة؛ فهؤلاء مجرد «إرهابيين»، وأولئك «عصابات مسلَّحة»، أو «قاعدة»، وبين هذا وذاك ما تنفكّ جماعات مشبوهة من «المندسّين»، ومن «العملاء»، المتّهمين- ويا للهول، أيها الشعب!- «بالتخابر مع حماس».. ولا حماس لمن تنادي!  وهكذا بات شعار «الحرب على الإرهاب» عُملةً دوليّةً رائجةً، مريحةَ التداول، بوصفها «البَلْطَة» المعاصرة الأحدّ لاستخدام أيّ «بَلْطَوي» وطنيّ، فردًا كان أو جماعة أو دولة!  أمّا أوباما، فصدّق أو لا تصدّق، أنه طلع «عميلًا لأمريكا»!  لا، بل «أحد المؤسِّسين العالميّين لحركة الإخوان المسلمين الكونيّة، هو وأخوه، والذين خلّفوه»!  كيف لا، و«الإخوان المسلمون كانوا وراء سقوط الأندلس!»، بل والسبب في الحربين العالميتين السابقتين، وكانوا يُعِدّون للثالثة، لولا أن تداركنا الله بلُطفه! 

كلّا، ليست هذه بهلوسات محموم، بل هي التماعات عقلٍ عربيٍّ سقط إزاره وهو يناضل، وما يفتأ ينضح علينا مواهبَه يوميًّا عبر الأقمار الصناعيّة.  ومَن ليس معنا فهو إخوانيّ، ومَن كان إخوانيًّا، فليس معنا، ومَن ليس معنا فليس مواطنًا، ولا كرامة له!  أمّا الثورة السوريّة، فإنما تُحاك بمؤامرة «كونيّة» خبيثة، كما صرَّح (المعلّم)، كيدًا وحسدًا!   ولاحِظ هاهنا- أخي الموطن، و«هل كلّ كائنْ.. يسمَّى مُواطنْ؟!» كما تساءل (درويش) على لسان دكتاتورٍ عتيق- أن المؤامرات علينا اليوم باتت «كونيّةً»، تستقطب سائر الكون (بكواكبه ونجومه وأفلاكه ومجرّاته وملائكته وشياطينه)، متناسبةً بذلك- طبعًا- مع حضورنا الخطير في الكون!  أمّا الأسلحة الكيمياويّة، فأطلقتْها المعارضةُ المجرمةُ على نفسها، وبيوتها، وأطفالها، بصواريخ أسطوريَّة، كديدن الخونة دائمًا، منذ (حلبجة) إلى (غوطة دمشق)، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها من الطغاة والكذبة! 

نعم، أيها السادة!  ومن جهة أخرى، أعرب متحدِّثٌ رسميٌّ عن أن الارتداد عن الشرعيّة المنتخبة عبر الصندوق- ذلك الصندوق الذي طالما تغنّى به المتغنّون، ورقصوا على أحلامه رقصةَ الزار، وتسرنموا به في مناماتهم الديمقراطيّة- إنما جاء تصحيحًا وطنيًّا رائعًا ومروِّعًا ضدّ ما اتّضح، ومنذ أوّل وهلة إلى آخر وهلة، أنه يحاك بأيادٍ إخوانيّةٍ (كونيّةٍ، تشارِك فيها واشنطن وباريس ولندن).  وقديمًا قال رئيسٌ سابق- كان بَطَلًا للحرب والسلام معًا-: «هناك أصابع تلعب في الخفاء»!  فسارت عبارته مَثَلًا.  وقد صَدَقَ، ويا لها من أصابع لا تكفّ عن اللعب في الخفاء.  لكن الفُطَناء لها بالمرصاد دائمًا!  ومَن ذا يستطيع أن ينكر أن تلك المعلومات الاستخباراتية تُعَدّ مبرّرات كافية- وَفق أنظمتنا التي تبهر العالم، سِلْمًا وحربًا- للإبادة الجماعيّة لكلّ من تسوّل له نفسه أن لا يرى ما نريد، أو أن يحرّك أصبعًا واحدةً في الخفاء؟!  ومن أنذر، فقد أعذر، وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون! 

تحيا القوميّة العربيّة، والمجد والخلود للجيوش العربيّة الباسلة جدًّا على الثغور والجبهات، ولا سيما الداخليّة؛ فإن الجهادَ (الجهادَ الأكبر) هو جهادُ النفس والأهل والأوطان!