حول الميثاق المعروض على أئمة المساجد في فرنسة ..

زهير سالم*

هل هو ميثاق للتوافق أو للاستفزاز ..!؟

قد نكون من أوائل من يدعون إلى مواثيق جميلة تؤكد على قيم الحياة التشاركية ، في المجتمعات المسلمة ، والمجتمعات المختلطة ، ومنها الدول الغربية التي أصبح المسلمون جزء من نسيجها البشري العام .

وقد نكون من أوائل من يدعون إلى ضبط إيقاع الشعارات والفتاوى والخطب والدعاء ..، على ألسنة الدعاة وأئمة المساجد من المسلمين ، كما على أسنة المثقفين والمغردين والمترددين على منابر الميديا الحديثة من المسلمين ... لأمور كثيرة أهمها الحفاظ على السكينة النفسية للمتكلمين والمستمعين والمراقبين المتوجسين ..

يصل إمام المسجد إلى لندن من الهند أو الباكستان أو مصر أو الحجاز ، يحمل معه إرث سنين من ثقافة كان لها فضاؤها وكانت لها أجواؤها التي مضت وانقضت، ولكنه ما يزال يعيش فيها ، ويبدئ ويعيد في أساليبها وألفاظها ومراميها ..

 

سمعت مرة عن خطيب في قرية من قرى حلب ، التي كانت تشرب من بئر تشترك فيه ، يقرأ خطبة على منبر القرية ، من كتاب مستورد من مصر : يوصي فيه الخطيب الجمهور إذا ركبوا في المراكب على النيل أن لا يرقصوا ..فقد رقص قوم من قبلهم فانقلبت مراكبهم !!!!

أكون في مجلسي في صلاة الجمعة هنا في لندن وأسمع الخطيب يستمر في دعائه : اللهم دمّر ديارهم .. نكّس أعلامهم .. واجعلهم .....

أقول له : طوّل بالك علينا ، لو استجيب لك ، لزلزل ما تحت قدميك ، طول بالك لم يبق لملايين من المسلمين ديارا يؤون إليها ، غير هذه التي تدعو بدمارها وخرابها وتنكيس راياتها وأعلامها !!!!

نعم عقل كثير من المسلمين ، وليس فقط خطابهم ، يحتاج إلى تجديد . وتجديد العقل، يبنى على أمور كثيرة منها فهم معنى الحضارة ، ومعنى "سيرورة التاريخ" التاريخ الإنساني ، والتاريخ القومي ، وكذا فهم الواقع ، وفهم المفارقة بين أستاذية العالم التي تخيلناها يوما ، وبين التشاركية الحضارية بين الناس ، بين الأفراد والجماعات وبين الأديان والملل والنحل والثقافات .. ولقد كتب فيلسوف الإسلام الأول محمد إقبال رحمه الله تعالى : تجديد التفكير الديني منذ نحو قرن من الزمان ... قليل من المسلمين قرؤوه ، والأقل منهم فهموه ..

وهذا التجديد مطلوب في المجتمعات المسلمة ، كما هو مطلوب بشكل أكبر من المسلمين الذين يشاركون الآخرين ديارهم ، ويعيشون بين ظهرانيهم .. وتجمعهم ضرورات العيش المشترك ، ومصالحه ، ومخاوفه .. ويلتقي وجه أحدهم كل يوم بوجه جاره ... ويا جارنا رد الصباح ..

وأعود إلى الميثاق ، الذي اطلعت على نصوص منه ، وقيل إن الحكومة الفرنسية تعرضه للتوقيع على أئمة المساجد في فرنسة فأقول ,,,نعم ليس فقط أئمة المساجد في فرنسة هم الذين يجب أن يعرض عليهم هذا الميثاق..!!

بل يجب أن يعرض أيضا وعلى السواء على كل المرجعيات الدينية والمدنية والإعلامية ، بمن فيهم مجالس تحرير الصحف ، والقائمين على الإعلام ، وعلى رأسهم العاملين في " شارلي إيبدو " وجميع شركائهم على السواء ..

المطلوب لضمان العيش المشترك على القواعد الأجمل والأرقى ميثاق يتوجه به العقل الجمعي ، والضمير الجمعي ، إلى لجميع بدون تمييز ولا اتهام ، وحتى على القواعد غير المتحيزة التي تقررها الجميلة " ماريان " ..

وحتى عندما تريد الحكومة الفرنسية شيئا من أئمة المساجد الفرنسيين ، فعليها أن تكتب تحت عنوان " سي فو بلية " وليس بلغة مخابراتية استفزازية صاغها جنود الوبا من مخابرات السيسي أو بشار ..

لا أحد يكتب ميثاقا يدعو فيه إلى المحبة والوئام ، بلغة الاتهام والاستفزاز وإلحاق المهانة بالمخاطبين ، وكأن الميثاق المعروض ميثاق إهانة وإذعان وإعلان قبول بالذلة والانكسار ..وليس ميثاقا يدعو إلى المحبة والسلام

يقف أئمة المساجد أمام ما يعرض عليهم اليوم مترددين ، وصحيح أن الحكومة الفرنسية ، تترك لهم الخيار الظاهري ، ولكننا نعلم أنه خيار له ما بعده ، في عالم يوصم فيها المسلم بالإرهاب لذبّ الذباب!!

نسأل الله أن يوفق أئمة المساجد في فرنسة إلى خيار موفق ، وإلى قرار موحد ، وإلى كلمة تجمعهم على الحق والهدى والصواب ..

وربما يكون خير ما يجمعهم ويصونهم ، أن يصوغوا بدورهم ميثاقا إيجابيا ، يحتوي على كل المقاصد المشروعة ، التي احتواها الميثاق الحكومي المقترح ، فيتعهدوا به ، ويوقعوا عليه ، ويطالبوا نظائرهم في المجتمع الفرنسي بالتوقيع عليه أو على مثله.

ونحن الذين وصفنا ربنا بأننا لا نريد علوا في الأرض ولا فسادا ..

وأهم شيء يجب أن نعلمه ونعلّمه هو أن الشهادة على الناس لا تعني الوصاية عليهم .

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية