فلسطين : الأرض والشعب والكرامة، المعادلة الصعبة والحق المسلوب

لطفي العبيدي

كل من اتهم الولايات المتحدة بممارسة الاستعمار في حرب فيتنام، أو العراق أو أفغانستان، كان غرضه هز ضمير أمة افتخرت كثيرا بمبادئها الديمقراطية وثوابتها الإنسانية، ومواقفها المناهضة للاستعمار. ومع ذلك لا تتوانى أمريكا عن أن تكون في كل حين امبراطورية عند الطلب، بنحو التوسع والطموح الإمبريالي على قواعد وأشكال مختلفة، لعل أبشعها استخدام القوة المفرطة خارج معايير الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية. وعندما نشير إلى إسرائيل إنما نعني إسرائيل وأمريكا، لأن ما من عمل يقوم به الكيان الصهيوني، إلا ويكون ضمن الحدود التي تسمح بها الولايات المتحدة الأمريكية، وبتخويل من واشنطن ودعمها. ولهذا فالانتهاك الإنساني المتواصل ضد فلسطين وشعبها، وكل ما حدث ويحدث في كل مرة هو أعمال وحشية أمريكية إسرائيلية.

أمام متغيرات دولية تتصف بالديناميكية المفرطة، واحتدام المنافسة بين القوى الكبرى، وما تخلفه من صدامات مباشرة أو عبر الوكالة. وفي ظل نزاعات عاصفة ومؤثرة في المنطقة العربية على أكثر من مستوى، وتناقضات المصالح بين الوطني والقومي، بالإضافة إلى تدخلات الخارج وسياسة المحاور والحصار الاقتصادي والمعونات المشروطة. يتناسى العالم فلسطين، خاصة دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان. والمؤسف أن هناك تمييعا متعمدا للقضية، ومحاولة تهميشها عربيا، من قبل الذين يهرولون نحو التقارب مع الكيان المحتل للأراضي العربية.


والخطى المتسارعة لدول التطبيع مع إسرائيل ومجاهرتها بتوقيع الاتفاقيات في مجالات متعددة، هي انكشاف استراتيجي عربي بالنسبة إلى الكيان الإسرائيلي، الذي يشكل خطراً على أمن المنطقة واستقرارها. وفتح أبواب بعض العواصم العربية لهذا الكيان، سيتيح الفرصة أمام أجهزته الاستخباراتية للتجسس والمراقبة، ومحاصرة المنظومة العربية واختراقها، والمضي في مزيد تفكيكها. وهي واقعية جيوستراتيجية في الطريق الخطأ، تعطي المشروع الصهيوني كل أسباب التمكين والتوسع، ليحقق بذلك مكاسب استراتيجية لم يحلم بها منذ الخمسينيات. وما دمنا أمام وحدات سياسية مكونة للنظام العربي، تتأرجح بين الخصام والحصار والمصالحة الهشة، وعلى درجة من الضعف والتخلف البنيوي، لن يسمح هذا الوضع بمعالجة القضية الفلسطينية ومواجهة إسرائيل. وفي غياب الشرعية لأغلب النظم السياسية، وأمام قانون دولي لا يزال محاصرا، وشرعيته مثار التباسات عدة، في ظل تنازع الأدوار وصراع الهيمنة والتنافس الاستراتيجي. يتلاشى مشروع تطوير النظام الإقليمي العربي، وتفعل إسرائيل ما تريد بالفلسطينيين، وتتجرأ هي وراعيتها أمريكا على اعتبار فلسطين ضيعة تُعرض في المزاد العلني، فصفقة القرن لا تختلف كثيرا عن خريطة كلينتون التي تقسم الضفة الغربية إلى أربعة كانتونات منفصلة بعضها عن بعض، بما فيها القدس الشرقية، إضافة إلى عزل الضفة عن قطاع غزة، المقطّع هو الآخر إلى كانتونات. وكما أكد تشومسكي، فإن السبب المباشر لعدم نشر الصحافة الأمريكية كلها خريطة لما طرحة كلينتون، أنه ما إن يرى المرء الخريطة حتى يدرك ما كان يجري، بالإضافة إلى أنها لا ترقى حتى إلى مستوى جنوب افريقيا في أيام البانتوستانات، عندما بادروا لإنشاء ولايات سود في أحلك أيام الأبارتيد.

الحالة الفلسطينية لا تنفصل عن مشهد التوتر الدولي، المرجح أن ينفتح على احتمالات نزاعات جديدة، أو تجدد نزاعات سابقة، والإدارة الأمريكية التي تفاعلت مع نهاية نظام الثنائية القطبية، الذي طبع فترة الحرب الباردة، بمزيج من الإنكار والتقلب والتخلخل الاستراتيجي، ترتبك من جديد في صراعها الدبلوماسي مع إيران، فالمبادرة الوقائية التي تعوض إخفاق الدبلوماسية، تلاشت، ولم تعد تلوح في الأفق، وتضاءلت فرص تحققها رغم كل محاولات نتنياهو وتنبيهه إلى أخطار وشيكة نابعة من إيران نووية، وهو ضجيج يواصله خلَفُه بينيت. ويظل الساسة الاسرائيليون يهددون باتخاذ قرارات أحادية وخطوات استباقية، إذا ما واصلت طهران التمسك ببرنامجها النووي، وهم يعلمون أنهم دون قرار من واشنطن، لا يستطيعون اقتحام مغامرة بهذا الحجم، وإشاراتهم تلك، لا تتجاوز حدود رغبتهم في إبقاء أمريكا منتبهة لهذه القضية، واضعة إيران ضمن أولويات قضايا الأمن القومي، ما يبرر تزويد تل أبيب بأحدث الأسلحة الاستراتيجية. فالولايات المتحدة الأمريكية تستطيع أن تتعايش مع إيران نووية، كما هو الشأن مع كوريا الشمالية، لكن إسرائيل لا ترغب في أن يزاحمها شريك نووي في الشرق الأوسط، وهي تواصل الضغط المطرد على الساسة الأمريكيين من أجل دفعهم لمجابهة طهران، مثلما تم توريطهم في العراق، فالتهديد الفعلي المنبعث من طهران ليس تهديدا لأمريكا، مثلما كان الأمر ذاته مع العراق، وبالتالي، فإن الخوف الاسرائيلي يبرر تواصل الضغط والتجييش، باعتبارها عناصر حاسمة وراء قرار الولايات المتحدة بالأمس واليوم، وهم يعلمون ثمن حياد واشنطن عن موقف التأييد لمقاربة إسرائيل المتشددة، وتجاهل تبريراتها، إذ لن تتمكن بعد ذلك من أن تبقى القوة الإقليمية المهيمنة، ومخطئ من تأمل خيرا ببايدن، ونظر إلى فترة ترامب بأنها المرحلة السوداء في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فالموقف الأمريكي هو ذاته، ولا ضغط على تل أبيب، والإدارة الديمقراطية الحالية تحاول تسكين ملفات الشرق الأوسط والتفاهم مع إيران، لتجعل من الصين أولى تحدياتها، وهي عاجزة في الحقيقة عن تقديم مراجعة نقدية للممارسات الصهيونية، لأنها في الخندق نفسه، ومسؤولة عما وصلت إليه الأوضاع منذ عقود، فمنذ عام 1971 والولايات المتحدة ترفض وبشكل منهجي التسوية السلمية، وتتجاهل الإجماع الدولي، وتدعي البحث عن حل دبلوماسي. فهل دعمت أمريكا استقلال فلسطين؟ أم أنها زادت في تمتين الاستعمار، وترسيخ الاستيطان عبر سياسة الفيتو ودعمها المطلق لإسرائيل وتهميشها لكل مبادرات السلام؟
دون أدنى شك، لا وجود لمعادلة أخلاقية في هذا السياق سوى خدمة مصالح صهيونية أمريكية مشتركة، تتحول بفضلها إسرائيل إلى شريك إقليمي يصنع السلام، ويعقد اتفاقيات التطبيع والتقارب، ويتم تجاهل سجلها التاريخي الحافل بالسياسات العدوانية والمجازر والتهجير. في الأثناء، يرى الطرف الإسرائيلي أن الاتفاق مع الدول المطبعة، يمنح تل أبيب مصلحة في توسيع تعاونها في المنطقة من الجانب الأمني، ما سيسمح بتقوية شراكاتها الإقليمية ضمن الاتفاقات الإبراهيمية، وهي تعمل على تعزيز ارتباطها في الإقليم، وبناء علاقة طويلة الأمد مع الحكومات التي تناقض تطلعات شعوبها، على أمل أن ذلك سيكون حجر الزاوية لأمنها الجيوستراتيجي، هي إحدى النتائج الطبيعية لاتفاقات التطبيع الإبراهيمية، لكن وضع إسرائيل ربما كان أفضل في كل هذه المسارات التاريخية، لو كان اللوبي الصهيوني اليهودي أضعف، وكانت السياسة الأمريكية أكثر توازنا وحيادا، ورغم أنه لا وشائج تقرب أغلب النظم السلطوية الموجودة من وجدان الجمهور العربي، فإن الشعوب تعتبر فلسطين قضية مركزية، ومن المستحيل أن تتخلى عنها، مهما حاولوا مغالطة الرأي العام والتبشير بالتطبيع والأسرلة. وستبقى فلسطين تقاوم الاحتلال بكرامة وشموخ، رغم الحصار والخذلان إقليميا ودوليا، وهي معادلة يصعب على كثيرين فهمها.