جرحانا الألم الأمل

د. سماح هدايا

د. سماح هدايا

 في بلادنا شعب ينمو من الموت والمأساة. ونحن هنا في الشّتات القسري والطوعي نشمّ عن بعد رائحة الموت، فنتوجّع، وتثير سخطنا الحرب الطويلة غير المتكافئة، وأعداد الضحايا المدنيين والأبرياء والأحرار. وتحصد المعركة الآلاف؛ فنخاف من تأخر النصر، ونشتم ونلعن، ثم نتباكى على ألم الجراح. ويستمر الزمن الأصعب ويسقط في كل يوم عشرات القتلى ومئات الجرحى ويختفي كثيرون. ومازلنا لا نتقن لغة التواصل مع أرض المعركة، ومع المناضلين والثائرين والمتضرّرين؛ كأنهم في نظرنا كائنات غرائبيّة من عالم أخر لم نفهمه بعد، لأنه واقع جديد ما اعتادت ذاكرتنا على شبيه له .

 مازالت شبكة عملنا مقطوعة من عدة جهات، تتعثر خيوطها في إيصال عطائنا لأبطال ثورتنا وضحاياها الأحياء والشهداء، ومنكوبيها وجرحاها وأحرارها، ليس لأنّنا أنذال أو بخلاء أو تجار دم أو أو متقاعسين، وإن كان الأمر لا يخلو من أمثلة عار؛ لكنْ، لأنّ أكثرنا لم يعتد العمل المنظّم وعمل الفريق الواحد، والعمل الجماعي الطوّعي والتطّوّعي. ولأنّ الخطب في بلدنا فادح، لا تلبي مطالبه عطاءات من هنا وهناك، وتسيء إلى حرمة دمه الحار أمزجتنا المتقلّبة والباردة في قناع الأنا.

 إنّ الوطن لم يعد أمامنا أو خلفتا على مرأى النظر، وليس على مرأى حجر، وليس الجنة التي نتغنّى بها لنحصد في الغد بعض الثمر. الوطن هناك في الصراخ والغبار والخراب والدمار وصوت الحق ونضال النصر. هناك حيث المعركة والنار والدماء. حيث يتعرى الوطن من ثياب النفاق والانكسار، ويمتحن قوته بالتغلب على الموت، ويمتحن حريته بمصارعة الوحوش الطغاة، ويمتحن شرفه بالفداء والحب النماء. 

 جرحانا هم الآن المشهد الذي يستدعينا للعمل والسخاء في الأفق الميداني. جرحانا مازالوا يغرقون في الدماء والأوجاع. ويضحكون رغم الجراح، ليقولوا لنا. كفّوا عن وجعكم المترف، ويأسكم السوداوي الذي تمارسون فيه على الثورة ضغط الولاء والرياء والإنهاك، وتمارسون فيه مازوخية المتفرّج على الألم وسادية المذنب والمعاقب.

 ليس العبء عليهم وحدهم أبطالنا وجرحانا وضحايانا. فكيف نقاسمهم الوجع، ونحمل العبء معهم؟ لنا في كلّ كتلنا السياسية وتجمعاتنا الحزبيّة وجمعياتنا أن نجيب عن السؤال بالعمل الواقعي الجدي المنظّم

هم مدميون، وبابتساماتهم الواثقة يحاولون غسل جراحنا السطحية، ليموت فيها اليأس. فمنهم من فقد البصر، ومازال يمتلك بصيرة؛ لكنه يطلب النجدة، لكي يرى بعين جديدة.. ومنهم من فقدوا أطرافهم، ومازالوا مستعدين لاستعمال عكاز والذهاب به إلى أرض المعركة، لكنهم يحتاجون إلى أطراف صناعية.

 هناك طفل في مقتبل المراهقة مقطوع الساق، ولم يكن يبكي أو يخاف أو يتحسّر. قال للمتفرجين والزائرين لا مشكلة لديّ فلا تجزعوا ولا تشفقوا عليّ...ولو تطلّب الأمر لقدمت ساقي الأخرى هدية للثورة. المهم أن ننتصر وسننتصر.

 وهناك شاب معطوبة يده بسبب تشظيها بالشظايا. طلب من الطبيب المتطوّع أن يعطيه الإذن ليغادر المشفى. وعندما سأله الطبيب متستغربا: هل آذاك احد منا لتطلب المغادرة وأنت مازلت في وضح صحي غير مستقر.؟ أجابه: أبدا. كنتم طيبين ورائعين؛ لكني سمعت ان أصدقائي يخطّطون لعملية عسكرية بطوليّة ضد جيش النظام. وأريد أن اكون معهم. ولن يعفيني من الواجب شلل يدي المعطوبة ووجع الجسد الشاحب.

 وكان هناك أيضا، شاب يضجّ وجهه حياة، لكنه يعرج، فقد شلت ساقه بقذيفة أصابت الظهر، ترك المخيم، فجأة، وعاد إلى ساحة المعركة ليحمل السلاح في وجه الطغاة، غير مبال بوجعه وزلة قدمه.

وتلك امرأة فقد عينها، لكنها مازالت سعيدة أنّ لديها عينا ثانية سترى فيها أطفالها وترى وطنها حرا بعد أن ينتصر أبطال الحرية الشرفاء.

 هؤلاء هم جرحانا من الثوار ومن الآمنين في بيوتهم، هم أقوى من الجراح، يملكون من التصميم والإرادة ما يبني الجبال. ولديهم أمل يقيني بالنصر؛ فلماذا لا نتحد بهم وجدانا، ونترك إيماننا ينمو كما تنمو في الفجر بذرة الشمس، ونقدم لهم واجبنا في كفاح واقعي نزيه، وفي إغاثة سخيّة مستدامة، وفي عمل طوعي نضمّد فيه جراحهم الجسديّة وجراحنا المعنويّة وأخطاءنا الوطنيّة؟ لماذا يا أهلنا كلّنا لا ننغمس، روحا وجسدا، في حياة الشقاء لكي نسهم في صياغة البهاء؟