وداعاً أبا الجهاد
وداعاً أبا جهاد
عبد الله الطنطاوي
وأخيراً، اعتامك الذي هو غاية كل حي.
ورحلت عن دنيانا، طيّب النفس، طيّب الذكر.
وكنت تتوقع مصيبة الموت منذ زمن.. قبل صدور ديوانك الحزين (قبل الرحيل) وقد وضعت له عنواناً آخر (بعد الرحيل) إذا حُمَّ القضاء، ونزل بساحتك ملك الموت، قبل أن يرى النور.
ترى هل يكون الرحيل بهذه البساطة؟؟؟
وهل يكون الوداع يسيراً على من عرفك منذ أكثر من نصف قرن؟؟
هل تذكر -أبا الجهاد- أول تعارفنا ، عندما أنشأت –مع أخوين من إخواني- (رابطة الوعي الإسلامي) فبادرت – من عمان الخير-إلى قلمك وأوراقك ، لتخط أول رسالة تهنئني بهذه الرابطة ، وتطلب الانتساب إليها ،وأنت شاعر الإخوان وخطيبهم ورجل التربية والإعلام فيهم؟
وهكذا كنت أول أربعة انتسبوا إلى الرابطة من أردن الرباط..
أما الأدباء والشعراء والكاتبون الآخرون، فهم : الشاعر المبدع : حيدر محمود ، والأستاذ الكبير حسن التل – طيب الله ثراه والشاعر الدكتور سفيان التل ...كان ذلك عام 1955.
وكان لقاء الأشباح –بعد لقاء الأرواح – في مخيم اللاذقية الذي أقامه الإخوان السوريون، ودعيت لتشاركنا وتحاضرنا وتنشد أشعارك ، كنت المجلي بين شعراء الدعوة .
وعندما أنشأت جريدتك الأسبوعية المجاهدة (الكفاح الإسلامي) أرسلت تدعوني أنا وإخواني أعضاء الرابطة ، لنكتب فيها ، وقد نشرت لي كلمتين في بابك الأثير (شهد وعلقم) تركته ليحل قلمي الصاعد، -وأنا في المرحلة الثانوية– محل قلمك الراسخ ، تواضعاً منك، وتشجيعاً للشباب من أبناء الدعوة .
وعندما غادرنا بلادنا الحبيبة ، وهاجرنا منها، وجدنا في مهاجرنا (عمان الخير)، كل الدفء من أحبتنا في الأردن، وكان عريناك في جبل التاج ، ملتقانا الأدفأ ... نصراً ، وإيواء، ومناصحة..
وكم حزّنا عندما علمنا بمرضك المفاجئ، وأنت تحاضر في بلاد (برّة) عام 1991.. حزّنا لأننا رأيناك تتوارى إلى الظل ، تمهيداً لعودة السيف إلى غمده، وما كان ينبغي له ولك، وأنت المناضل في شتى الميادين .. تذود عن إسلامك، وعن جماعتك، وعن أرضك وشعبك، وأنت تصل الليل بالنهار، ولا تعرف شيئا عن استراحة المحارب.. وأنّى لك ذلك، والدعوات تطرق بابك، فتطير من بلد إلى بلد، ومن قارة إلى قارة، داعياً إلى الله ومبشراً بأن المستقبل لهذا الدين، ونذيراً للمتقاعسين، وتنديداً بالمتخاذلين وأصحاب المصالح الضيقة..
وهكذا كانت حياتك ليست لك وحدك، ولا لأهلك وحسب، بل كانت لهذه الدعوة، لهذا الإسلام العظيم، ولفلسطين، وللأقصى المبارك، حتى دُعيتَ بحق: (شاعر الأقصى).. فقد كانت -فلسطين- وكان –الأقصى- همَّك الكبير، إلى أن لقيتَ الله على ذلك، ونحن –على هذا- من الشاهدين..
تُرى.. هل –في وسعي ووسع هذه الافتتاحية- أن أكتب شيئاً ذا بال، عن الميادين التي صلتَ فيها وجُلْتَ- يا أبا جهاد؟- فهل تتسع لكلمات عن الصحفي البارع، والخطيب المفوّه، والمربي الفاضل، والسياسيّ المحنّك، والبرلماني الناجح، والوزير القدير، والمفكر الكبير، والشاعر المبدع، والمحاضر المبرِّز؟
هيهات.. هيهات.. إنْ هي إلا كلمات من ذوب عطائك، أنعى بها نفسي ونفوس التسعة والتسعين من الإبل المئة التي لا تكاد تجد فيها راحلة مثل أبي جهاد.. يوسف العظم؟
وداعاً، وسلاماً، وشآبيب رحمة.. أيّها الأخ الكبير.