شوقي ضيف الذي عرفته
شوقي ضيف الذي عرفته
أ.د/ جابر قميحة
وأخيرًا.. غادرنا إلى الله أستاذنا، وأستاذ الجيل شوقي ضيف (1910-2005)... أعظم حراس العربية في العصر الحديث، ولو قلنا: إن العمر يقاس بحيوية الضمير، والغيرة على الحق، والعمل النبيل، لما أسرفنا إذا قلنا: لقد عاش ألف عام.
لقد عاش حارسًا للعربية، حريصا على الذود عنها... حارسا لا ينام، لأن العدوان عليها –في نظره- عدوان فاحش على ديننا، وقيمنا، وعلى هويتنا وأصالتنا. وكم تألمنا معه، وعَصرتْنا المرارة، ونحن نرى في العام الماضي واحدًا من الفقاقيع الأدعياء، تسانده "جوقة" من المنافقين النفعيين.. رأيناه "يشرع" للغة العربية.. معدلا.. مشوهًا.. مجَّرحا، و"الجوقة" وراءه تردد معه هتافه الجاهلي الدميم الذميم "بسقوط سيبويه"، وسقوط من لقبوهم "بالحرس القديم"، وكان هؤلاء الأدعياء هم المعنيون بقول الشاعر:
لقد هزلتْ حتى بدا من هُزالها كُلاها، وحتى سامها كل مُفلِس
العطاء العظيم
عاش أستاذنا يعتز بالتراث الأدبي العربي اعتزازه بالأهل والأبناء والذات. وما أجمل، وأكثر ما تعلمناه من موسوعته الفائقة في عصور الأدب العربي.. الجاهلي والإسلامي والعباسي.. وصولا إلى العصر الحديث. وإليها وجهْنا أبناءنا وطلابنا، فنهلوا منها، وعلُّوا، وكم هو غنى ما نهلوه، وعَلّوه.
أما ملكته النقدية، فكانت قوية وضاءة ثرية، لأنها لم تتعبد لمدرسة معينة، أو مذهب نقدي مما فتن به النقاد، وسقطوا في شباكه أسارى. وقد تمثلت هذه الملكة في حاسة مرهفة جدًا، تعتمد على التعمق والاستقراء الشامل لإبداع الأديب، قبل أن يخلص إلى حكم نقدي، ولو كان جزئيا، فهو منهج نرى فيه الموضوعية الفاحصة المتعمقة تتلاحم بالذائقة الذاتية المرهفة، بعيدًا عن الغلو والإسراف... وقد تأتي أحكامه النقدية متفقة -إلى حد ما، أو إلى حد كبير مع الموجود النقدي في الساحة الأدبية، وقد تأتي مختلفة أو مناقضة لهذا الموجود. وما قصد في كل أولئك إلى مسايرة، أو مخالفة. ولكنه التجرد الخالص في الخلوص إلى الحكم النقدي، وإن شئت فقل هي " الاستقلالية" فكرًا، ووجدانًا، وهي نخاع الموضوعية العادلة.
أخلاقيات شامخة
لقد عايشت الدكتور شوقي –رحمه الله- قرابة أربع سنين من بداية السبعينيات من القرن الماضي، أي من خمسة وثلاثين عامًا مضت، كان هو أستاذًا بقسم اللغة العربية بجامعة الكويت، وكنت أنا منتدبا –من خارج الهيئة- لتدريس اللغة العربية والثقافة الإسلامية للطلاب الأجانب بهذه الجامعة.
عرفت الرجل معرفة حقيقية عن كثب. رأيته مثالا صادقا للعالم الزاهد في الأضواء، والشهرة والضجيج الدعائي. كان يمنح عطاءه في هدوء واتزان وحكمة.
وكان دمث الخلق، عف اللسان، حتى مع الذين أساءوا إليه حسدًا وحقدًا. أذكر أنني قرأت كتابًا كبيرًا في النقد الأدبي للدكتور (م.ن) –غفر الله له. وفي الكتاب هجوم سوقي شرس على الدكتور شوقي، وكنت أعتقد أنه لم يقرأ هذا الكتاب.
وفي حياء وتردد أخبرته أن هناك كتابًا ألفه فلان". وقبل أن أكمل حديثي رأيت ابتسامة عريضة تغمر وجهه، وهو يقول: آه... لقد شتمني بشدة في هذا الكتاب.. ولكنه يضم فصولا طيبة". قلت: أتمنى أن ترد عليه، أو اسمح لي أن أرد أنا عليه، فأنا واحد من تلاميذك..." فاتسعت ابتسامته، وهو يقول: يا سيدي.. لا أنا.. ولا أنت.. وسترى من هذا الكثير والكثير.. ومثل هذه الشتائم لا يقتلها إلا إغفالها، وإهمالها".
أنا.. وشيخ أثينا
وأذكر في هذا السياق كذلك أنه –هو والدكتورة سهير القلماوي رحمها الله كانا عضوين في اللجنة التي ناقشتني في الأطروحة التي تقدمت بها للحصول على درجة الماجستير، وموضوعها: "الشعر القصصي عند خليل مطران"، وكان مما قاله في مناقشتي " لقد أغفلت قصة شعرية مهمة لمطران، هي: (شيخ أثينا)... " فوجدتني بحماسة وحدّة ونبرة عالية أقول: "لا يا دكتور.. إنها ليست قصة شعرية، ولكنها صورة قصصية.." . ابتسم الرجل العظيم وقال بنفس الهدوء والاتزان: "خلاص.. أت حر.. هذا رأيي.. ولك رأيك".
وكان قرار لجنة الحكم مشرفا.. ولكني لم أنم ليلتها لأنني شعرت بأنني أسأت الأدب بمقاطعته من ناحية، ورفع صوتي من ناحية أخرى. وقصدته في الصباح.. فمد يده إلي، وقال بابتسامته العريضة – قبل أن أنطق كلمة واحده - " مبروك.. كنت عظيمًا بالأمس".. قلت "إنما جئت لأعتذر عما بدر مني من إساءة لسيادتكم".. ضحك بصوت مسموع , وقال "تعتذر؟؟!.. ليس هناك ما يدعو للاعتذار... إن هذه طبيعة المناقشات" .
اسمع يا شوقي
وموقف ثالث يدل كذلك على سماحته وتعففه، وأدبه الجم:
وخلاصته: أنه كان عضوا في لجنة مناقشة أطروحة دكتوراه في جامعة القاهرة، وأثناء المناقشة كان العضو الثاني –وهو قريب منه في السن- يقاطعه بمثل العبارات الآتية:-
"لا يا شوقي.. مش معقول يا شوقي.." وكذلك بعد أن جاء دوره في المناقشة": " قال شوقي.. وأنا أخالف شوقي.." وهكذا.. أمام الطلاب دون أن يخاطبه بلقبه العلمي "دكتور" مثلما كان أستاذنا الدكتور شوقي يحدثه، مع أن هذا الأستاذ لم يحصل على الدكتوراه.. بل كان أستاذًا بالأقدمية، كل ذلك والابتسامة لا تفارق وجه أستاذنا العظيم، وبقدر ما حاز من حب وتقدير منا جميعًا، سقط صاحبنا الأستاذ المنفوش من عيوننا وقلوبنا.. رحم الله أستاذنا الحارس العظيم، ونفع الأجيال بعلمه وأدبه وخلقه العظيم.