مجزرة تدمر... مَن يطفئ منارات الدم

زهير سالم*

السابع والعشرون من حزيران

زهير سالم*

[email protected]

تدمر.. فجر السابع والعشرين من حزيران سنة 1980 تحط الحوامات عند الفجر، يُحاصَر الحق والخير والجمال وراء أسوار السجن الصغير، ويفتح جنود ، المفروض أنهم حماة الديار،النار على أبناء الديار في أعماق الزنازين...

 لحظات كانت... ليست من تاريخ الزباء ، ولم يعرفها أبو عبيدة أمين الأمة فاتح الشام، ولا سيف الله المسلول الباسط جناحيه على ما حوله من أرض الشام، ولا هي من إرث ابن أبي سفيان مؤسس مجد الشام يقول: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، وإن لم تكن إلا كلمة يشتفي بها قائلها جعلتها دبرَ أذنيّ...

 لحظات كانت.. اختلط فيها الدم الذكي الطاهر والمهج البريئة وصرخات الله أكبر بصوت العدوان ورصاص الغدر، لترتسم ملامح المشهد شاهدا على جبهة التاريخ. ولتبقى تفاصيله صوتا وصورة بكل ما فيها من روع وهول وقسوة حاضرة في سطور التاريخ وفي تلافيف ذاكرة شعب حي، ربما يعفو ويصفح، ولكنه أبدا لا ينسى..

 في يوم الذكرى، والمشهد في قلوب حاملي جرحه وعقولهم ليس ذكرى، بل هو حقيقة شاخصة تغدو مع شمس كل صباح وتروح، تردد مع الخنساء تماضر بنت عمرو أخت صخر:

 يذكّرني طلوع الشمس صخرا      وأذكره لكـل غروب شمس

 في يوم الذكرى يُكتب الكثيرُ ربما عن بشاعة الجريمة، ووحشيتها وقسوتها وحجمها، وعدد ضحاياها وبراءتهم وطهرهم، كما يكتب عن عمق جرحها الغائر في جبهة الوطن، وضرورة البدار إلى احتواء تداعياتها، وتعفية آثارها، ولملمة ذيولها...

 يمكن أن يُكتب الكثير عن كل ذلك، ولكن ما لا يمكن أن يرصد أو أن يكتب أو أن تطيق أحرف ( ألف لام ميم ) التعبير عنه هو ذلك العالم الخفي للحظات الهول في أعين الضحايا الأبرياء المروعين، وانعكاسات الحزن واللوعة والألم في نفوس الأمهات والآباء والأبناء والبنات والأخوة والأخوات... لحظة الروع تلك بكل هولها وفظاعتها وقسوتها ما تزال ماثلة، كل حبيب ما زال يمد يدا ليدفع عن ابن أو أخ أو أب يد الإثم وليرد عنه موجة  البغي، ما زالت النفوس تتشظى والقلوب تتفطر أنها لم تكن هناك لحظة فزع ترد أو تعين أو تواسي...

ما لا يمكن أن يكتبه كاتب أو تعبر عنه لغة حق الجسد الآدمي المقتول تحت أي عنوان في قبر يواريه ويد حانية تهيل ترابه عليه.. حق لم يبخل به قابيل حامل إثم القتل مع البشرية إلى يوم الدين على أخيه هابيل :(( فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ....)).

 ما لا يمكن أن يكتبه وكاتب أو تطيقه حروف اللغة الحديث عن ألف إنسان بمعنى الحديث عن ألف حلم وألف أمل وألف عالم من الأشواق وألف أفق للأفكار...

 ما لا يمكن أن يرصده كاتب أو تأتلف على مثله أحرف المعجم..إحصاء مدارج العلوم والأفكار والثقافات والمشروعات.. حاول إن شئت أن تفتح ملفات كل  من كان هناك ذاك الصباح المظلم لتعلم أي خير عن أرض الشام قد رفع وأي شر قد وضع...

ما لا يمكن أن يحيط به قلم كاتب أو تعبر عنه لغة بشر تتبع الوجوه والقلوب والنفوس ساعة الروع...يقول كاتب، ليعطي المأساة حجمها، إنهم ألف إنسان وكفى ألف عامل وفلاح وحرفي وأمي ومثقف وأديب وطبيب ومهندس ومحام وخبير، إنهم ألف أب وأخ وابن وزوج، ألف شيخ وكهل وشاب وفتى وطفل.. وهم في حقيقة الأمر عند الأهل والعشيرة والإخوان والمحبين ليسوا كذلك فقط... إنهم إبراهيم ومصطفى وعمر وعمار وعثمان وعلي وأسامة وعدنان وياسر وعبد الله وعبد الرحمن .

 إنهم  ما زالوا هناك نسمع وجيب قلوبهم نقرأ سفر العهد القويم في أعينهم نتابع حناجرهم تنادي انتصافا من الشر الله أكبر لتبقى كلمتهم هي الباقية إلى يوم الدين ..

 نعم إنهم هناك وأنا ما زلت ألمحهم هذا أخي الأديب الأريب إبراهيم عاصي صاحب (سلة الرمان)، و ( ولهان والمتفرسون ) إنه هنا ما زال يرفع عاليا كتابه الأخير (حادثة في شارع الحرية ) تتابع في حركة ذهنه الموار بالخير العاشق للجمال مشروع بناء ربما كان عنوانه (دماء على ثرى تدمر ) في وقت كان البعض يشحن على ظهر الباخرة زنوبيا نفايات سامة ليدسها في أحشاء تدمر مقابل مشروع للإثراء رخيص...

 نعم هذا أخي الحبيب إبراهيم يتكئ على صدره ساعة الروع تلك مضرجا بالدم الأخ وشقيق الروح الفقيه الوسطي الحليم الكريم الجريء الأستاذ عثمان جمال.. عثمان كان فقيه بناء ولم يكن فقيه هدم، هو ممثل مدينته لمجلس الشورى حاملا فكرة العمل البنائي إليه رافضا مناهج الانشغال والإشغال...

 ألمح بين الوجوه الحبيبة الطبيب زاهد الذي كنا منذ أشهر في عقد قرانه، والمدرس عدنان والطالب ياسر تخطف بصرك وسامة أسامة ويشغل عقلك وقلبك  الأخ عبد الله العامل البسيط تلمح في عينيه خوفا مضاعفا بعضه متعلق ببناته الأربع الضعيفات اللواتي تركهن لليتم.دون أن تغيب صورة الأخ عبد الرؤوف الفلاح بعزته القائم على شؤون إخوانه في سهول وقرى محافظة حلب...

 صور وجوه وأرواح لا تنسى حقائق ناطقة لا تغيب ولا تغيّب ولا يحصيها كاتب ولا يبلغ المراد في تتبع عوالمها شاعر؛ وفي داخل كل فرد من هؤلاء عالم ووراء كل فرد من هؤلاء عشرات العوالم المتوقفة أمام المشهد الرهيب منذ تسعة وعشرين عاما ؛ عوالم الأمهات والآباء و الأبناء والبنات والأخوة والأخوات والإخوان والأحباب والأصحاب وأبناء الحي والجيران..

 ما لا يكتب عن المأساة أو المجزرة هو الجزء الأصعب منها، هو الجزء الذي يفرض عليك أن تتساءل وأنت تستقبل ا لأرواح النيرة تطوف كل ليلة فوق وسادتك ساعة النوم، كيف تغفو أعين القتلة الجناة؟!!

 ولكي تستكمل عناصر المأساة  الحدث حقيقتها ربما عليك أن تعلم أن هؤلاء الذين حصدهم رصاص البغي فجر السابع والعشرين من حزيران كانوا أبناء سورية ، كانوا أبناء السهل والجبل، أبناء البادية والقرية والمدينة، فلاحين كانوا وعمالا ومثقفين ومهنيين وطلابا ومعلمين وأطباء وعلماء ومهندسين..

 هؤلاء كانوا يعلمون وهم يفتحون أبواب بيوتهم مستسلمين لرجال الأمن الذين يقرعونها أنهم لم يرتكبوا خطيئة بحق وطنهم، ولم يجنوا جناية، ولم يقاربوها، وأنهم حين كانوا يستسلمون بطواعية إنما كانوا يستسلمون لسلطة الأصل فيها أنها حامية للقانون، مدافعة عن حياة الناس، كانوا وآباؤهم وأهلوهم يعلمون أنهم أمانة بيد دولة وجدت لتحميهم وليسوا رهائن عند حزب أو فرقة أو سلطة...وأنه حتى عندما يبغي بعض أبناء الدولة على بعض فإن من واجب الدولة أن تبقى المظلة الجامعة التي يأوي إليها الجميع فتحميهم وتنصفهم. وتبسط سلطان العدل عليهم.

 لم يكونوا جناة، ولم يشاركوا في جناية، ولا يمكن لأي منصف أن يحاكمهم على ما أحدث أو جنى غيرهم..

 وربما تقول لي: ولكن ألا تمر بك أنت الآخر صور وعذابات وآهات من قتلوا في السادس عشر من حزيران في مدرسة المدفعية حلب !! لماذا لا تذكر شبابا للوطن وئدت أحلامهم وتذكر كما ذكرت من قبل آمالهم وطموحاتهم وآلام وأحزان آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم...؟!! سؤال يبقى هو الآخر مشروعا ومفتوحا وفي جوابه حقائق لا بد لها من بيان...

 الأولى أن الجريمة في بعدها الإنساني واحدة.. وأن قداسة الحياة الإنسانية في سرها الرباني واحدة، وأن حرمة الدم الوطني في شرايين أبناء الوطن واحدة..

 والثانية أن الفرق بين الجريمة الأولى والثانية أن مذبحة مدرسة حلب ارتكبها أفراد  يمكن لقانون وطني وقاض عادل أن يحاسب أصحابها عليها، وأن الأولى ارتكبتها سلطة كان أصل وجودها حماية حياة الناس وصون القانون في المجتمع!! فهل يقبل لمنطق الحكومة أو الدولة أن ينزلق لمثل منطق الأفراد أو المجموعات أو حسب تعبير رجال الأمن أنفسهم لمنطق العصابة ؟! وهل يمكن للدولة أن تنتقم من حساب بعض مواطنيها لحساب بعض ..؟!!

 والثالثة...أن جماعة الإخوان المسلمين، التي اتُهمت ظلما بالعملية، ومن موقع المسئولية التاريخية و الوطنية بادرت منذ الأيام الأولى لوقوع مذبحة المدفعية إلى إصدار بيان نفضت فيه يدها من العملية وأكدت عدم مسئوليتها عنها، ورفضها لمنطقها، والبيان جزء من التاريخ الوطني شاهد صدق  إذ لا يمكن لأحد أن يعيد تصنيع التاريخ... وبدلا من أن يكون ذلك البيان مدخلا وطنيا لتدارك المأساة ووضع حد لفصولها؛ كان من استكمال حلقات الدراما السوداء أن تُلقى مسئولية الحدث الجريمة على كاهل الجماعة التي أعلنت براءتها منها وأن تحمل تبعاتها لأبنائها داخل الوطن وخارجه ووراء أسوار السجن الرعيب....

 في يوم الذكرى الرهيبة نقطف عن مباسم الشهداء في حواصل طيورهم الخضر على أغصان الخلود قسم وفاء لعيني إبراهيم وعثمان وعمر وعمار وأسامة ومصطفى وخالد وعبد الله وعبد الرحمن...((وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا)).

 في يوم الذكرى الرهيبة لمجزرة تدمر بكل أبعادها الإنسانية والوطنية يبقى السؤال حائرا: من يطفئ منارات الدم  ويعفي آثار الآلام ؟!.

              

(*) مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية