أينما توجّهتْ الحرية يرتعب الطغاة ويتلونون

د. سماح هدايا

د. سماح هدايا

 ما جلبه الغزاة للبلاد باسم الديمقراطيّات، أو باسم الإرهاب، كان طغيانا واحتيالا على إرادة الشّعوب؛ فهل ستنجح المؤامرات في تقوية أنظمة الاستبداد وإسقاط قوة الجماهير؟

 من المسلّم به تاريخيا، أنه لا يمكن قهر الشعوب حين تثور بزخم شديد. ومن الطبيعي ألا تصمد في معترك الثورة وانتفاضة الحرية والعزّة، الحركات المضادّة للثورات، مهما لوّنوها بتضليل ديني؛ فلم يعد الاحتيال خافيا، وأصابع الطغاة التي تشابكت مع أصابع المتعصبين والفاسدين لتجعل الإسلام شيطانا، وتصبغه بالإرهاب والظلامية، وتسخر من الشعوب ببناء الخلافة الداعشية، لهدر الخيارات التحررية وسلب الإرادة، قد تنجح في مكان وآخر، وفي وقت وآخر؛ لكنّ مصيرها الزوال؛ لأنّها استعباد وقهر وظلامية، والشعب يريد الحرية والكرامة والنهضة.

 كيف نتخلص من المأزق التاريخي المتصلّب، و نسلك طريق الحرية والنهضة، في ظل المعوقات الكبرى، وضمن حالة التقاعس والخيبة التي يكرّسها الإعلام، بتضخيم داعش لتضخيم الهزيمة وكسر الإيمان؟ كيف نخرج من المأزق من دون تهميش الذات واحتقار الهوية قيميا وثقافيا، ونمنحها قوة لنمسك بقرارنا؟. طاقة القيم ضرورية لبقائنا ونمونا عند تخليصها من قشور المسميات والأشخاص المقدسة. فالمجتمع يحتاج دولة وإيمانا، لكنّه لا يحتاج إرثا غوغائيا، وأبطالا ينشئون خرافات ويصبحون انصاف آلهة ليسحقوا الإنسان والحرية....قطعا، عندما يكون قلب الإنسان خاويا من السعادة، لا يمكن أن يصبح مصدر سعادة الآخرين...وشعوبنا حزينة جدا لأنها مظلومة ومحبطة نتيجة الذل والضعف، لا قدرة لديها على حمل آمالها الواسعة بيسر؛ لأنّ القهر نصيبها، أينما توجّهت. وصخرة الظلم في مواجهة صعودها نحو الحرية.. لذلك هي عاجزة عن صناعة الفرح والتفاؤل والعطاء ..

 المعركة بين ظلاميّة الاستبداد والانحطاطـ، وبين الانعتاق من والقهر والمأساة لإنجاز الخلاص، تسير بإيقاع دموي مخيف؛ لكنّها أمر حتمي تاريخي؛ فلكل أمة دورتها التاريخية وملاحمها ومآسيها وحكاياتها، حتى يصعب تقدير الحقائق بسهولة، عند الاستحقاقات الكبرى، من دون دراسة ناقدة ذاتية وجماعية ومؤسسية، لاستشراف النهوض. و لعل أشد المعارك الدمويّة، تلك المتجلية، الآن، والمنطلقة من مظلوميّة الشيعة والحسين، وهي امتداد لفصل طويل في تاريخنا بين توجهين مضادين، بدأت بمقتل الحسين ابن علي، واستخدمتها الحركة الشعوبية والموالي لضرب الأمة...وهي محض خلاف سياسي. تدور بنية صراعها بين حكم الدولة المدنية بحسب حاجات عصرها، وبين حكم الشرعية العقائدية امتدادا لقدسية الأشخاص. وقد جرى استثمار الصراع من الحركات الشعوبية والوافدة للهيمنة ضد العروية بالمعنى الثقافي والسياسي والعقائدي، وتحوّلت أسطورة ابن الأشراف وغيره من الأئمة أو السلاطين، إلى موقف سياسي وموقف قومي مضاد وعقيدة وعصبية معادية، ودرات رحى حرب للإطاحة بشرعية وقومية وإحلال شرعية جديدة وقومية بديلة.

 تطلبت الدعوة الإسلامية في مرحلة الجهاد العقائدي أبطالا عقائديين لخوض معارك التحرير والكفاح؛ لكنْ، عندما تحولت إلى دولة احتاجت قادة وسياسيين وعلماء ومفكرين ليبنوا الدولة. ومن هنا انشقّ الصراع بين ديني ومدني، وصارت فكرة الدولة أهم بكثير من قدسية الأشخاص المؤمنين الصالحين؛ فالأمر في الدول براغماتي، لا عقائدي صرف...أما شكل الدولة فيلائم عصره، ولا يعني ان يكون نسخة ثابتة لتجسيد المثل الكاملة والقيم الدينية المطلقة والمبادىء العليا المجردة.. هو خلاصة العلاقة بين القيمة والشيء. ضمن الممكنات والوقائع. الدولة شيء. وليست فكرة. واي دولة هي شيء وتعمل بأشياء؛ لكنها عندما تتجرد من القيم العليا التي ترتقي بالإنسانية وتعزّ كبرياء أفرادها، تصبح شكلا من أشكال الاستقواء، ودور العقائديين لإرشادها لا للتحكّم بها باسم الشرعية الدينية، وتشكيلها وفق وعظاتهم الدينيّة. الحكمة تقتضي التوافق بما يحقق المصلحة العامة، ويحترم القيمة العليا والإنسان.

 يجب الخروج على موروثٍ تراكم في إشكاليات ، لكنْ، ليس صوابا، تدمير البنية العقائدية وسحب الأرض من تحت أقدام البشر. المجتمع مأسور بقدسية البطولة؛ لأنه خارج من حصار عنيف عقيم بتأليه الماضي وأبطاله، والواقع فارغ فليس لديه ما يكفي من قادة ومفكرين وعلماء وحكماء مؤثرين ذوي مصداقيّة، يستطيعون أن يقودوا، وان يكونوا مثالا وقدوة وعقلا جامعا،أصلاء يحترمون الهوية المحضونة في الحاضر وحداثيون يغربلون ويعدلّون ويحذفون من أجل والتجديد والتطوير والاستنهاض والتأصيل..لذلك، تتأزم المشكلة، ويسقط العوام في إغراء شخص يجمل قدسية دينية وشجاع يوهم بالجهاد ضد الظلم والقهر وفي حضن الغوغائية الدينيّة.

 وفي التوازي، يجري اليوم تحطيم منهج النهضة والتنوير في الفكر والعقيدة والهوية بضرب ممنهج للمساعي التحررية والدينية التحررية، بانشاء الحركات المستبدة والتيارات الظلامية وميليشيات عنيفة؛ كداعش وغيرها، التي تحمل فكرا متخلفا وعقلية قاهرة وجشعة، تناقض الصلاح، وترتكب الجرائم باسم الدين والشرعيّة مستأثرة بالحقيقة.فمثلما سيطرت على البلاد أحزاب تدعي العلمانية والقومية لتبرير فسادها وتسلطها، وقامت بالانقلابات على الجميع، وانغمست في صراعات طائفية وحزبية جلبت المجازر والدمار على الشعوب، قد تأتي حركات إسلامية ظلامية وطاغية، تنشيء نظاما فاسدا وناهبا شبيها، فتجر علينا، أيضا، الدمار والويلات والحروب، لذلك على العقل التحرري الناهض الاستمرار بثورته، وألا يرى في الدين مجرد قيم روحية جامدة ،وشعائر، لأن القيم الروحية والطقوس العبادية يمكن استحضارها من أي مكان. الأساس هو التفكير والفكر؛ فلا يمكن فصل الدين عن شؤون الحياة والذات والجماعة، وعن قضايا الحكم والسياسة بشكل مطلق. لكنّ الدين ليس طبقة سياسية وسلاطين ورجال قهر ونفوذ ودولة خلافة، غير معروف معناها، ولا جدواها في عصرنا الحديث. فهل دولة الإسلام هي دولة اللحية والعباءة والشيخ وفرض الشعائر بالقسر، وأحكام جلد ورجم ، وقطع يد؟ حتما إن كانت كذلك، من حق البشر أن يرفضوها. فهذا إكراه وطغيان.

 لابد في عهد الثورات التحررية، والشرعية الشعبية، من الامتثال لمباديء الحرية والعدل والكرامة، وبالتالي؛ فإن قانون حقوق الإنسان ليس مجرد حبر وورق، بل مسألة أخلاقية وإنسانية ووطنيّة. والتجديد ليس تبديدا وفوضى...ولا تكريسا لزمن انتهى. التجديد والتّطوير مرتبطان بالبناء وديمومة الأمة. يجب تعاون الجميع لبناء دولة حديثة لكل أبنائها وإعادة النظر في مصطلح الأمة والوطن. ويجبتجاوز التناحر بين القطيعة مع الماضي وتحقيره، وبين تقديس أعمى وغبي وإعادة تدوير رتيب له، على أن يعترف الجميع بخيارات الآخرين، أو على الأقل يحترمونها، ضمن سياق جامع موحّد.

 قد تكون المشكلة، كما يراها البعض، مع أولئك الذين يتّخذون الدين الإسلامي والشرع وسيلة لتحقيق مكاسب وسلطة...وقد تكون كما يراها آخرون في الذين يختبئون وراء شعارات العلمانية والليرالية، لكي يخفوا ممارسات طائفية إقصائية، ويحموا مصالحم ونفوذهم ومطامعهم. لكن المشكلة الحقيقة هي الاستبداد والاسئثار وغياب وعي الهوية الوطنيّة. والثورة الآن بين مد وجزر، وليس هناك من ربابنة بقادرين على إدارة الدفة، ولا مفر من تعديل المسار، فعدو الحرية والنهضة، الآن، النظام الحاكم الطاغي الذي يقصف المدن والقرى، ويرتكب المجازر، ويجنّد كل الفاسدين والإرهابيين ليحاربوا الشعب وثورته، مدعوما بتوجهات بعض الدول القوية الداعمة. المعركة واضحة، ضد الاستبداد والاستعباد. الحرية والعدل لا يتحققان بالشعارات والولاءات والتسويات، وبالائتلاف والحكومة. بل بامتداد الحرب الشعبية واعتمادها على ذاتها وكفاءاتها وتوحيد أهدافها وعملها وخطابها وممثليها. ...بعد إسقاط النظام يكون الحديث عن الدّولة، وعن إقامة العدل وبناء المؤسسات والأحزاب وحقوق الجميع.