على هامش المونديال… وليس هامشيا

إحسان الفقيه

مونديال قطر، الحدث العالمي الذي استحوذ على اهتمام شعوب الأرض قاطبة، وزاد من الاهتمام به أن وقائعه تجري على أرض عربية مسلمة، وبالتالي لا بد من أن يكون مختلفاً، إذ هناك تجاذبات بين إطار قيمي تسعى الدولة المضيفة للحفاظ عليه قدر المستطاع، إضافة إلى الجماهير العربية المشاركة، وثقافات شتى تمثلها جماهير تسعى لممارسة ما تراه من صميم حريتها. بطبيعة الحال، ترصد العدسات وقائع وأحداثا تجري على هامش المونديال خارج حدود المستطيل الأخضر، إلا أنها ليست لقطات هينة، إذ لها تعلق كبير بقضايا الأمة بشكل مباشر وغير مباشر، أحببت أن أسلط الضوء على بعض من هذه المشاهد التي التقطتها العدسات، والدوران في فلكها.

أولا: يوم الفوز على ميسي

كان فوز المنتخب السعودي على الأرجنتين حدثا ضخما، إذ استطاع هذا الفريق العربي – الذي يحظى في البطولات السابقة بالمشاركة، من دون تحقيق مراكز متقدمة – الفوز على فريق من الفرق الكبرى، التي ترشح دائما لحصد البطولة، وفيها ميسي اللاعب الخرافي الذي تربع على عرش نجوم الكرة العالمية على مدى سنوات طوال. فجّر هذا الفوز التاريخي فرحة عارمة في كل الدول العربية الإسلامية، نقلتها وسائل الإعلام، التي أظهرت مدى تضامن الشعوب مع المنتخب السعودي، حتى بدا أهل كل بلد وكأن فريقهم من حقق الفوز. إزاء هذا التعاطف الجماهيري الجارف للشعوب مع المنتخب السعودي، وُجد فريق من الناس يتندرون على هذا المشهد، ويرون أن العرب لا يجتمعون ولا يتوحدون إلا على سفاسف الأمور، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، بينما يتشرذمون ويتفرقون في القضايا الكلية العامة للأمة، فكان هناك نوع من الاستخفاف الواضح بفرحة الجماهير العربية والإسلامية.

 

على المستوى الشخصي، وعلى الرغم من أنني لا أهتم بالكرة، إلا أنني كنت في قمة السعادة بهذا الفوز، وبعضهم عاتبني في ذلك، وكأنه لا يحق لنا أن نفرح بأي إنجاز. نظرت إلى هذه الفرحة العربية والإسلامية من وجهة مختلفة، فعلى الرغم من حدود سايكس بيكو التي فتتت الأمة، وعلى الرغم من المحاولات المستمرة للفصل بين وجدان الشعوب، وتأطيرها على جغرافيا الوطن، وعلى الرغم من الشتات الدائم بين الحكومات العربية وأجهزتها الإعلامية، إلا أنه اتضح أن حلم الوحدة بين هذه الشعوب لم يزل قائما لم يمت، وتنتظر أي شيء يوحد كلمتها ولو كانت مباريات الكرة، فلهذا دلالة واضحة على أن الشعوب العربية الإسلامية لديها هذا الاستعداد لوحدة الكلمة، المشكلة كلها في الأنظمة والحكومات التي اتفقت على ألا تتفق، ليس العيب في هذه الشعوب.

ثانيا: التطبيع عاد بخُفّي حنين

من أبرز المشاهد التي التقطتها العدسات في المونديال، ما بثه التلفزيون الإسرائيلي نفسه، من مظاهر هذا الوعي الجماهيري العربي الإسلامي الذي بدا في رفض الشعوب للتطبيع، وعدم اعترافها بما يسمى دولة إسرائيل، فكانت خيبة المراسلين الإسرائيليين واضحة أمام هذا الرفض والهتافات ضد الصهاينة، وتأييد القضية الفلسطينية. وعلى الرغم من أنني لا أستبعد نقل التلفزيون الإسرائيلي لمظاهر رفض التطبيع، من أجل الضغط على الأنظمة العربية الموقعة على التطبيع، بهدف فرض إجراءات داخلية من شأنها تعزيز تمريره على الصعيد الجماهيري، إلا أن ما يهمني في هذا المقام هو الإشارة والإشادة بالجماهير، التي لم تنل منها محاولات التطبيع.

لقد كشفت الشعوب تلك الهوة السحيقة بينها وبين الأنظمة المهرولة باتجاه التطبيع، رغم كل المحاولات المستمرة لطمس معالم الصراع العربي الإسرائيلي، عن طريق النخب التابعة للأنظمة، ومناهج التعليم الجديدة التي تخلو من مسائل الحق الفلسطيني، والدراما التي تقوم بتسطيح القضية الفلسطينية، والتعبئة ضد الشعب الفلسطيني واتهامه بأنه باع أرضه للصهاينة، وأن الاحتلال شأن داخلي يخص الفلسطينيين وحدهم، ونحو ذلك من وسائل فرض التطبيع في وجدان الجماهير. فأرى أنها ظاهرة صحية كشفت عنها هوامش المونديال، وتعطي بعض الطمأنينة على الرأي العام العربي الإسلامي تجاه عمليات التطبيع المستمرة.

ثالثا: كوكب اليابان

هكذا يتندّر العرب على أحوالهم البائسة، عندما يخوضون في مدى التقدم والازدهار والرقي الذي يعيش في ظله اليابانيون، فيصفون هذه الدولة التي بنت نفسها من جديد بعد ناغازاكي وهيروشيما، بأنها كوكب منفصل عن كوكب الأرض. التقطت العدسة منظر اليابانيين وهم ينظفون المدرجات من مخلفات الجماهير، وهو مشهد استحق تقدير واحترام الجميع، وكان أمرا فريدا من نوعه حقا. ولست هنا بصدد الإسهاب في الثناء على الشعب الياباني، ولا المقارنة بين سلوكياته وسلوكياتنا نحن العرب، بل ما يعنيني في هذا المقام، التعريج على كيفية وصول هؤلاء اليابانيين إلى هذا المستوى الرائع من الرقي، واعتبار كل واحد منهم أنه سفير بلاده والمرآة التي تعكس صورتها للعالم. هذا الشعور الطاغي بالانتماء، لم ينشأ من فراغ، إنما نتاج منظومة متكاملة ترعاها الدولة في إعداد المواطن الصالح الذي ينتمي لوطنه، وأولها شعوره بأن هذا الوطن له، شعوره بالعدالة الاجتماعية، وبأن له حقوقا كما أن عليه واجبات، إدراكه بأن الدولة تسخر مواردها من أجل رفعة هذا الوطن، لا من أجل تكديس المليارات في البنوك العالمية لصالح ثلة من المنتفعين الانتهازيين. نحن نتكلم عن أخلاق اليابانيين وتعاملاتهم الراقية، وكأنهم هكذا خلقوا، قطعا لا، فهذه الصبغة لم تكن ليصطبغ بها الشعب الياباني في ظل الفقر والبطالة وغياب العدالة والفساد الإداري والمالي والأخلاقي المتفشي في مؤسسات الدولة، ولم يكن لهذه السلوكيات أن توجد في ظل القمع والقهر ومحاربة الناس في أقواتهم وخنق حرياتهم. يدرك المواطن الياباني أن بلاده حريصة على النشء وتعليمه وتأهيله، وتمنحه حصة ضخمة من ميزانية الدولة، يرى الاهتمام البالغ من الدولة بالمرافق العامة والمواصلات وغيرها. كل ذلك جعل الياباني يشعر بالانتماء، وأن عليه في كل مكان يذهب إليه أن يرفع علم بلاده بنقل ثقافتها وسلوكياتها إلى الدول والشعوب الأخرى.

وأزعم أن المواطن العربي لو عاش في هذا المناخ، لكان بدوره سفيرا لبلاده في أي بقعة من العالم يصل إليها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.